لعبة ليفني!

عبد اللطيف مهنا

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1799)

رسمت تسيبي ليفني خطوطاً وحدوداً لما تراه قواعد اللعبة في الصراع على جبهة غزة… وما رسمته كان نيابة منها عن الإسرائيليين يساراً ويميناً، ويمكن أن نضيف لهؤلاء جل الغرب ومعهما ضمناً جمهرة “المعتدلين” العرب، ويمكن سحب ما رسمته أيضاً على رؤيتها ورؤيتهم حول مجمل ما كان يعرف في دنيا العرب سابقاً بالصراع العربي الصهيوني، ولاحقاً بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي!

قالت النمرة الإسرائيلية التي تستعد للانتخابات التي أزف أجلها ويعيش المستوى السياسي الإسرائيلي تحت طائلة هاجسها:

“هذه لعبة هكذا والا فلا”… و كانت قد أوضحت ما تعنيه بقولها، “علينا تفعيل وقف اطلاق النار عبر استخدام القوة”، ووقف اطلاق النار هنا عندها ليس له إلا ترجمتان… ترجمتان اتفق على مضمونهما الواحد الاسرائيليون والغرب و”المعتدلون” العرب، وعلى رأس هؤلاء “المعتدلين” الوسيط الذي لا يكل ولا يمل ويناضل متوسطاً من أجل تحقيق هذا المضمون الهدف، ويحدد المواعيد ويحاول فرضها من أجل انجازه… “وإلا فلا”… ما هما!

الأولى، هي، وبالخط العريض، وقف المقاومة الفلسطينية للاحتلال، و الثانية، وبالخط الموارب، ووفق التعبير المجازي، أو المحبب لدى الوسطاء، هي التهدئة، التي لا تعني لدى الأطراف الثلاثة في الجوهر إلا الترجمة الأولى ذاتها، على المدى المقبل وليس الأبعد.

المسألة عند هؤلاء، لاسيما عند الإسرائيليين والغرب، وموضوعياً، لدى بعض “المعتدلين” العرب، ليست مسألة احتلال ومقاومة، أو صراع بين غاصب و صاحب حق مغتصب، كما لا ينظر لما جرى في محرقة غزة و ملحمة صمودها في وجه فظاعة هذه المحرقة على أنه فشل للقوة الغازية الغاشمة وانتصار لإرادة الأعزل الصامد… وإنما هم ينطلقون من زاوية محددة أيضاً، رسمت تخومها أيضاً تسيبي ليفني، كالتالي:

“إسرائيل لن تعيش في حارة يقرر فيها الأزعر قواعد اللعبة”!

إذاً، حتى وصف المقاوم بالإرهابي كما درج عندهم لم يعد كافياً، وإنما ربما سوف يردف أو حتى يستبدل لاحقاً فيغدو الأزعر… والمهم هو قولها، أن “إسرائيل لن تسمح لهذا الأزعر بتحقيق أي مكسب سياسي و هي ستعمل ضد هذا الأزعر”!

بمعنى، أن ما فشلت إسرائيل ومن معها في انتزاعه من استهدافات بالقوة عبر مذبحة غزة، بسبب من صمود المقاومة الأسطوري، سوف تحاول انتزاعه، بمساعدة من معها، عبر الالتفاف على النتائج المترتبة موضوعياً على مثل هذا الصمود… و”إلا فلا”، أو كما أردفت اللبؤة الإسرائيلية: “وهي (أي إسرائيل) ستعمل ضد هذا الأزعر”!

…الآن يمكن ملاحظة أن هذه الأطراف الثلاثة المعنية تعمل جهدها وتتوزع الأدوار لتدجين هذا المارق “الأزعر”… لانتزاع تسليمة بالترجمة الإسرائيلية المتوافق عليها لدى هذه الأطراف لوقف إطلاق النار، أو وقف المقاومة، أو “التهدئة”، أوسمها من هذه ما شئت!

فالمأزق هنا بالنسبة لهؤلاء يكمن في أن القوة الباطشة، الحديد والنار، المحرقة، المذبحة، لم تقو على إخضاع غزة، ولم تستطع أن تفل إرادتها المقاومة، كما لم تنجح بالتوازي، وللساعة، المبادرات والوساطات و القرارات… والآن المؤتمرات، في الوصول إلى مثل هذا الهدف… لم ينجح الإسرائيليون كما حلم رابين في إلقاء غزة المقاومة في البحر… كان حقاً صراع وجود… صراع إرادتين نقيضين، واحدة جاءت لتلغي الآخر المقابل وتحل محله ولا ترى وجودها بدون نفي وجود ضحيتها. والأخرى لا خيار لها إلا بالمحافظة على وجودها عبر خيار واحد هو الصمود والتضحية والنضال في سبيل استعادة ما سلبته الأولى منها… إذاً، هو صراع مديد تتوالى وستتوالى فيه محارق يرتكبها المحتلون و يتجذر فيه صمود المقاومين… صراع سوف يطور فيه الغزاة وحشيتهم ويصنع فيه الفلسطينيون أساطيرهم، ويتلمس العرب من خلاله سبل وحدتهم ونهضتهم.

وعودة إلى ليفني… أنه رغم البعد الانتخابي البين، حيث الدم الفلسطيني المسفوح وسيلة فوز النخب السياسية الأمنية الإسرائيلية، فإن ليفني وقواعدها خير من يعبر عن نزوع هذا التجمع الاستعماري الاحلالي العنصري الذي يتساوى فيه يمينه مع يساره في الجوهر ولا يختلفان لا في المماحكات والقشور… ليفني هنا، مثلاً، لا تختلف في كثير أو قليل في العقلية و النوازع والهدف، وإن اختلف التعبير، عن ليبرمان أو عن مرشح لهذه الانتخابات من “الحزب الوطني” يطرح حلاً لمشكلة الفلسطينيين الصامدين في وطنهم في المحتل منه في العام 1948، عبر ما يدعوه “ممراً إنسانياً” لترحيلهم إلى تركيا و فنزويلا!

لعبة ليفني و قواعدها، وصراحتها الإنتخابية، تتجليان في مفاوضات التحايل والتذاكي في القاهرة، لإنتزاع شروط التهدئة إياها… هذه المفاوضات التهدوية التي انتهت باحتجاز عضو من وفد حماس إليها لساعات وهو عائد منها من دون أن يسلم بشروطها وهو يهم بولوج معبر رفح… أو دون التسليم باشتراطات ظلت ثابتة أو “مقترحات شبه نهائية” تطرح بأدوات و سبل مختلفة ومتحركة، وبعد أن بُلّغ هذا الوفد بأن عليه أن لا يعود إلى التفاوض دون أن يحمل معه “رداً إيجابياً” عليها، وهي:

“تهدئة” مفتوحة، و”نهائية”، ودونما ربط بحكاية فتح وإغلاق المعابر، التي هي رهن بإطلاق سراح الجندي الأسير شاليط… والقبول بجهة أخرى غير المقاومة تدير مسألة الإعمار، هذه المرتبطة بدورها بحكاية المصالحة التي تنتظر حواراً، و هكذا… وصولاً إلى تأبيد الدمار، بحجة إنتفاء شروط الإعمار المطلوب فرضها في محاولة مستميتة مجمع عليها لتدجين “الزعران”!!!

للعبة ليفني تتوفر جبهة مساندة و راعيه و حتى مشاركة على امتداد المعمورة. مؤتمرات دولية لمكافحة تهريب السلاح إلى غزة، حيث أوروبا تهرع لنجدة إسرائيلها و المايسترو هنا أمريكي دائماً… وحيث ينسج الآن تحالفاً دولياً لنزع سلاح المقاومة. الولايات المتحدة وكندا والدول الأوروبية الإستعمارية التليدة: بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، إسبانيا، وهولندا، يضاف لها الإسكندنافيتين، الدانمارك و النرويج… والمبادرة هنا أوباماوية، والهدف معلن، والذريعة قالها بيرشتيج مولر… هل سمعتم به؟ إنه وزير خارجية الدنمارك الذي وصف قمة كوبنهاغن، بأنها “إسهام فعلي من أجل دفع المساعي الدولية الرامية لإحلال سلام دائم”، وفق رؤية السيدة ليفني بالطبع، و”تحسين أوضاع المدنيين في قطاع غزة”… أو هذه اللازمة الأوروبية إياها التي تتكرر كلما أطل علينا أوروبي، والمشفوعة دائماً بتذكيرنا أو تعييرنا، بدعم الاتحاد الأوروبي سلطة أوسلو بالأموال والتبرعات، أو بالأحرى تذكيرنا بمساهمة أوروبا في دفع تكاليف الإحتلال نيابة عن الإسرائيليين.

والآن، أما وقد انتهى موعد إعلان التهدئة المزمع، وعاد وفد حماس إلى غزة دون أن يسمع محاوريه منه “رداً إيجابياً” يريدونه على “المقترحات شبه النهائية”، و أقفل الوسيط المعبر من ورائه، وانصرف بعض العرب لبحث سبل مواجهة “التدخلات الإقليمية” في الشؤون العربية، ولو أنها الشؤون المستباحة عادةً، وبطيب خاطر منهم، من قبل التدخلات الدولية!

لا يبقى سوى سؤال واحد: هل من خيار تبقى لغزة، للفلسطينيين، للعرب، سوى مواجهة لعبة ليفني… وسوى وصفة واحدة للمواجهة هي غزاوية بإمتياز هي الصمود و المقاومة… المقاومة التي بها وحدها فحسب يستعيد العرب كرامتهم، و أرضهم ووحدتهم… ويتلمسون فعلاً بدايات نهضتهم.