“كنعان” تتابع نشر كتاب “ظلال يهو/صهيو/تروتسكية في المحافظية الجديدة”

تأليف د. عادل سمارة

 

التروتسكية وتفكك  الاتحاد السوفييتي

على ضوء علاقة قيادات تروتسكية مع الولايات المتحدة، يمكن للمرء الاستنتاج بأن هذا التيار او قطاعات واسعة من قياداته مخترقة من قبل الإدارة الأمريكية ومؤسساتها مما يضع  موقف التروتسكية المعادي بالمطلق للاتحاد السوفييتي وبقية المعسكر الاشتراكي السابق مثار تساؤلات تصعب الإجابة عليها. فهل هذه المواقف نتاج أرثوذكسية ثورية أم نتاج علاقات اختراق واسعة من المعسكر الإمبريالي لهذه الحركة.؟

لقد هلل اليمين وكذلك التروتسكيون للثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا، مرددين” بأن الشعب قد استعاد مصيره[1]” .  وهللوا كما اشرنا سابقا لأحداث المجر وبولندا.  نلاحظ هنا أن الحديث عن الشعب وليس عن البروليتاريا التي يعتقد التروتسكيون بأنهما وكلائها الحصريين. اي ان “الثورة العمالية” التي حلم بها تروتسكي لم تحصل. وها هم التروتسكيون يتحدثون عن “الشعب” بمجموعه! وهذا ما لا ينطبق على تعصبهم العمالي البحت. وطبعاً لا مجال هنا لقراءة الواقع الاقتصادي والطبقي لمجمل شرق أوروبا بعد تفكك الكتلة الاشتراكية وتحول المنطقة إلى سوق للغرب الراسمالي.

كتب لودو مارتينز: “… بيتر اوهيل الزعيم التروتسكي اظهر تعاطفه من بيان  الثورة المضادة الذي يدعو  لإقامة المشروع الخاص  وتحرير الأعمال من المركزية البيروقراطية  ودعم كافة اشكال التعددية  فيما يخص الملكية  واتخاذ القرار…الخ وبينما عبر عن تعاطفه مع الأهداف الأساسية للبيان، وجد ان من غير المناسب ان يوقعه كوثيقة مساومة. لقد اعاد التأكيد على موافقته مع موقعي البيان المطالبين ب ” مناقشة المشاكل السياسية فيما يخص التعددية”  وهكذا فإن تعددية أوهيل  تكتنف كل نطاق دعم القوى الراسمالية الإمبريالية. واهم ما دعى إليه اوهيل:” توحيد  جميع اعداء المركزية البيروقراطية والستالينية”. كي تتحرر من التصلب المتحجر  وهيمنة البيروقراطبة” اي التحلل مما يسمى الاشتراكية المحققة[2]” .

وكذلك كان موقف إرنست ماندل: 1989 حينما بات واضحا بأن  الإمبريالية  واليمين  يتفوقون واصبحت لهم اليد العليا  في بولندا والمجر، كان على ماندل البحث عن تبرير لدعمه اللامحدود  للقوى المضادة للاشتراكية والشيوعية،  التي تقاتل “الستالينية”.

“…علينا ان نتذكر ان ماندل عام 1981 زعم بأن تضامن (نقابة عمال بولندا التي أسست لهدم النظام الاشتراكي هناك بمباركة البابا بولندي الأصل)، تتبع نهج التروتسكية، حتى لو بلا وعي. ..  فقد قال حينها: ” تعمل تضامن  اكثر واكثر  كعضو مزدوج القوة:  قوتين: إن الثورة السياسية الضد بيروقراطية   قد بدأت”[3].

وكما نلاحظ، فإن هذا الحديث هو نسخة طبق الأصل عن توهمات تروتسكي بأن الملايين ينخرطون في الأممية الرابعة بعد خروجه، اي تروتسكي، من الاتحاد السوفييتي، ناهيك عن تخيلات التروتسكيين بأنهم يقودون عمال العالم.

وفي عام 1989 قال ماندل: “ان تشريع وجود تضامن هو انتصار للطبقة العاملة” [4].. ولا حاجة بالطبع لشرح اين وصلت تضامن وبولندا نفسها. بل إن بولندا اليوم هي أكثر الدول الأوروبية عداء لروسيا وانخراطاً في المعسكر الإمبريالي وخاصة إثر أحداث أوكرانيا لهذا العام 2014 ودورها في الدرع الصاروخي الأمريكي.

 وكتب ماندل في 6 آذار  1989  :” وبعكس ما قد يقودنا  التقييم السطحي الى الاعتقاد، فإن البرجوازية الأوروبية لم تأخذ طريقا مفضلا لعدم الاستقرار هذا. إنها لا تأمل في ان تحرف شرق اوروبا ثانية إلى حظيرة    الراسمالية” [5].

يذكرنا هذا بقول لينين بأن : “جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة” لا بل في حالة ماندل بالجنون. إذن، إلى اية حظيرة سوف تسحب برجوازية أوروبا تابعتها الجديدة أوروبا الشرقية؟ لقد سحبتها إلى مجالين:

  • غدت أوروبا الشرقية مخزون قوة عمل رخيصة للاتحاد الأوروبي
  • وجزءاً تابعا للناتو عسكرياُ  بل ومعسكرات لتدريب ما تسمى الثورات البرتقالية بشقيها الإعلامي والنازي ضد الوطن العربي وفنزويلا وإيران وأوكرانيا…الخ.
  • وسوقاً لمنتجات الاتحاد الأوروبي،
  • وتشكيلات راسمالية محيطية.

دعى ماندل الى الديمقراطية للجميع وقال بان الراسمالية لا تعود بغير العنف. وقال ان التعددية الحزبية  يمكن ان تقدم للاشتراكية  سمة ديمقراطية حقيقية.

لقد حصلت الديمقراطية للجميع  في المجر وبولندا والمانيا الديمقراطية. في ديسمبر عام 1989  اعلن ماندل: “… انا سعيد بما يحصل في برلين.  إن الحركة الضد اشتراكية ضعيفة جدا. “. لقد رحب بهذه :الثورة”،  وزعم بأن “كل ما تأمل به تروتسكي يمكن ان يصبح الآن واقعا”[6].

هل يُعقل ان يتحمس مفكر كبير من وزن ماندل إلى هذا الحد بثورة مضادة؟ هل هي عبادة الأب الروحي؟ كيف يمكن ان يحصل هذا الانكسار بين تنظيره الاقتصادي المعمق وبين قرائته الاجتماعية الطبقية السياسية الخفيفة جدا! وخاصة في منطقة ترتمي في حضن الإمبريالية.  هل وراء هذا غير العمى الإيديولوجي والإصرار على توهم الانتصار؟

 لقد شارك ماندل في مختلف الهجمات ضد  الحركة الشيوعية، باسم “ديمقراطية  نقية للجميع” . وهكذا دعم  في لثوانيا واوكرانيا  ” الجبهة العريضة للأهداف القومية والمحلية”  التي تناضل من اجل التحرر القومي” [7].

في أوروبا الشرقية تصبح القومية بنظر الزعيم التروتسكي نضالا تحررياً، ولكن في الوطن العربي، يتم الرفض المطلق للقومية العربية!.

قد لا يكون اللافت في هذه الاستنتاجات من مفكر وقيادي كبير في التروتسكية مثل ماندل ليس فقط تكراره لوهم توهمات تروتسكي، فقد تكون هذه توهمات دافئة في زمن ما. لكن اللافت أن ماندل يعتقد بأن اوروبا الغربية لن تجر الشرقية المهزومة والمأزومة إلى الرأسمالية، والأشد غرابة بأنه تحول إلى داعية للديمقراطية اي تورط في نطاق السوسيال ديمقراط.

والحقيقة، أن كثيرا من القوى والأحزاب الشيوعية في العالم اي الموسكوفية والتروتسكية على حد سواء قد تهالكت سقوفها إلى المطالبة بالديمقراطية، وطبعاً في نطاق السوق الراسمالية المعولمة. ولم تطرأ تغيرات على مواقف هؤلاء بعد تفكك الكتلة الاشتراكية سوى بعد مأزومية الرأسمالية  عام 2008 حيث بدأوا يتمتمون عن الاشتراكية والشيوعية.

لا يفوت المرء التذكير بموقف التروتسكيين ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان حيث اعتبروا دوره هناك غزوا إمبريالياً دون أن يأخذوا بالاعتبار دعوة السلطة هناك للسوفييت بالمساعدة وخاصة لأنهم كانوا على علم مباشر بمشروع الإمبريالية والرجعية السعودية لإسقاط النظام التقدمي في أفغانستان (كما اشرتا آنفاً). وكاتب هذه السطور ضد تلبية السوفييت دعوة الحكومة الوطنية هناك مع انه لا يتناقض مع القانون الدولي، ولكن رفض تدخل السوفييت امر والتورط في دعم دور الإمبريالية والوهابية أمر آخر. وبالطبع يعرف الجميع ماذا حصل وأين وصلت أفغانستان وكيف تم تقويض البنى التقدمية التي ارساها نظام تراكي وجماعته وخاصة ما يتعلق بالمرأة.

كما ذهب تروتسكيو بريطانيا إلى أبعد، وبما يخالف إرنست ماندل. ولكنهم لم يخالفوا تروتسكي.

“…حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا ذهب ابعد من ذلك حيث رأى أن انهيار الاتحاد السوفييتي كتطور إيجابي.  ومن وجهة نظره فإن إحدى الإمبرياليتين قد سقطت. ويقول هذا الحزب بان هذه الضربة لعالم راس المال تعني بأن تسعينات القرن العشرين ستكون فترة تجذير الطبقة العاملة عالميا، اي كما حصل في ثلاثينات القرن نفسه،. وحيث اوصل تحليله هذا إلى مجموعات تقبلته عالميا، فقد احدث هذا تشوها  كبيرا في التوجه[8]

فهؤلاء مع التهليل لسقوط الاتحاد السوفييتي بلا مواربة بل بكثير من السعادة شأنهم شأن ماندل. ولكنهم ليسوا مع حلم ماندل بالتحرر القومي والديمقراطية للجميع، بل هم مع وهم تجذُّر الطبقة العاملة عالمياً. طبعا هذا حلم جميل، ولكنه كحلم لم يتحقق حتى مع أزمة الراسمالية عالميا منذ عام 2008!

من اللافت أن هؤلاء التروتسكيين قد تغاضوا بخبث لا شك عن دور التروتسكيين الأمريكيين في خدمة السلطة الحاكمة هناك وعن مشاركتهم في تأسيس وتفعيل وعدوانية المحافظين الجدد؟

ارتكازاً على الوهم العمالوي للتروتسكيين يمكننا فهم لماذا يقف تروتسكيو بريطانيا ضد الثورة البوليفارية في فنزويللا، حيث قال  أحد ممثلي حزب العمال الاشتراكي البريطاني (تروتسكي)   بان الثورة الاشتراكية مستحيلة في بلد متخلف مثل فنزويللا [9]. أليس هذا تكرارا للتمائم التي صاغها تروتسكي منذ عقود حيث أنكر أي دور للفلاحين في الثورة ورفض تحالف العمال والفلاحين؟

.وهذا يعيد إلى الذاكرة الموقف المتواصل للتروتسكية من الثورة الصينية إذ وصفتها  ب ثورة فلاحية وجيش فلاحين: “ان القفزة الكبرى للماوية التي هي حركة فلاحية للأمام والثورة الثقافية هي قفزة كبرى إلى الخلف وكارثة ثقافية” (أنظر لاحقاً الباب المتعلق بالهند)

تجدر الإشارة إلى أن الكثير من التروتسكيين يقفون ضد الثورة وهي:

  • في بداياتها
  • وفي أحلك مراحلها

هكذا وقف تروتسكي في الأعوام الأولى للثورة البلشفية، وضد الثورة الصينية، واختلف التروتسكيون مع الثورة الكوبية منتهجين نهجا مغامرا بالجماهير، واتخذوا نفس الموقف ضد الثورة الفنزويلية، ووقفوا مع الناتو ضد ليبيا ومع الوهابية ضد سوريا ومع الإخوان في مصر ضد الحراك الشعبي والجيش…الخ.

 

فترة ما بعد السوفييت:

أما التروتسكي إلكس كولينيكس فكتب:

 ” إن ما مات في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية ليس الاشتراكية بل شكل محرف ومنحط، بل نقيض الاشتراكية… ان تفكك الاتحاد السوفييتي قد  يسمح للتقاليد الماركسية الموثوقة  التي طمست طويلاً تحت الأرض ، بالعودة الى ضوء النهار[10]

شبيه هذا بموقف التروتسكيين في بريطانيا حيث اعتقدوا ان تجذرا عماليا سوف يلي سقوط الكتلة الاشتراكية وها نحن نرى أنه حتى أزمة راس المال منذ 2008 لم تقد إلى مجرد احتجاجات ذات بال.

في وقت مبكر، وبنفس ما يكتب تروتسكيو الأمس واليوم كتب اسحق دويتشر بعد وفاة ستالين:

“… قد تصبح الحرية مرة اخرى حليفا  وصديقا  للاشتراكية، وعندها فإن اربعين سنة من  التيه في الصحراء  قد تنتهي بالنسبة للثورة الروسية[11]

هنا نلاحظ استلهامه لخرافة تيه اليهود في صحراء سيناء حين خذلوا موسى. طبعا صحراء سيناء لا يتسه فيها المرء لأسبوع.

“… اصطف ضد لينين كل من روزا لكسمبورغ وبوخارين وراديك وتروتسكي وآخرون، في خضم الحرب العالمية الأولى- بأن النضال القومي والدولة القومية  في وضعية تدني اهميتهما. وكتب تروتسكي: لقد بشَّرت الحرب  تحطيم الدولة القومية.[12]  وكتب راديك : تمثل الإمبريالية ميل راس المال المالي لتجاوز حدود الدولة القومية”[13] وقال بياتاكوف ان استقلال  المستعمرات غير قابل للإنجاز في ظل الراسمالية[14]“.

بقدر ما يثرثر التروتسكيون عن دور العمال زاعمين بأنهم ورثة المفهوم الماركسي للدور الكفاحي الطليعي الاشتراكي  للطبقة العاملة، بقدر ما يأخذوا هذه المسألة للهجوم على المسألة القومية بشكل شديد المبالغة. فهم بين مأخوذين بأن تاريخ وخطاب الغرب يمثل العالم باسره، وهو انإخاذ مركزاني رأسمالي وحتى أبيض، وبين تغلغل الصهيونية فيهم متجلياً ذلك في كره للقومية العربية. وعليه، فهم لا يؤمنون بثورات المحيط باعتباره ذي أكثرية فلاحية، ولا يعتبرون النضال القومي ضد الاستعمار سواء الاستيطاني او العسكري والاقتصادي نضالا تقدميا. وهكذا، فهم ينظرون إلى القومية في اي بلد من منظور غير طبقي، حيث لا يرون بأنه في كل بلد هناك:

القومية الحاكمة للطبقة البرجوازية

والقومية الكامنة للطبقات الشعبية، وهذه تقدمية واشتراكية.

وهذا حال الوطن العربي. ولكن القلق على الكيان الصهيوني يدفعهم إلى عداء مطلق للعروبة[15].

 


[1] Ludo Martens, USSR The Velvet Counter Revlution, Brussels-Belgium, 1991,  p.49

[2] Ludo Martens, USSR The Velvet Counter Revlution, Brussels-Belgium, 1991,  p.50

[3] Inprecor, nr. 105 july 6 , 1981. P. 14,

[4] Inprecorm no 283, March 6, 1989m p.3.

 

[5] Inprecor, no  105, July 1981 . p. 14.

 

[6] Interview Mandel, dans Humo, 21 de’ce,bre 1989, p. 18-20.

[7] Inprecorm nr. 304, 1990M p. 16-17.

[8] June 19, 2014 IssueThe Tyranny of Experts: Economists, Dictators, and the Forgotten Rights of the Poor, challenged as false by the economist William Easterly in his new book, The Tyranny of Experts

[10] After Marxism, Ronald Arson

AlexCallinicos, The Revenge of History (Clllege Park, PA, 1992,  )p.77

 

[11] After Marxism, Ronald Arson

AlexCallinicos, The Revenge of History (Clllege Park, PA, 1992,  )p.78.

Issac Deutscherm Russia: What Next? (New York, 1953, 230

 

[12] James M.Blaut, The National Question: Decolonizing the Theory of Nationalism, zed books 1987.p.41.

 

[13] James M.Blaut, The National Question: Decolonizing the Theory of Nationalism, zed books 1987.p.41.

 

[14] James M.Blaut, The National Question: Decolonizing the Theory of Nationalism, zed books 1987.p.41.

 

[15] أنظر عادل سمارة، دفاعاً عن دولة الوحدة وإفلاس الدولة القطرية:ردا على محمد جابر الأنصاري، منشورات دار الكنوز الأدبية، بيروت 2002، ومنشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2003.