أميركا: مشروع هيمنة

(قراءة تاريخية)[1]

 

د. مسعد عربيد

“حينما جاءت البعثات التبشيرية إلى أفريقيا، كان لديهم الإنجيل ولدينا الأرض، فقالوا لنا: لنغمض أعيننا ونصلي، وحينما فتحناها وجدنا الإنجيل بيدنا والأرض بيدهم”.

 

القس ديزموند توتو ــ جنوب أريقيا

 

(1)

تقديم

 

الآخرون والغرب

على الرغم من التغييرات العميقة التي ألمت بالعالم والعلاقات الدولية في العقدين الأخيرين، وبالهزات البنيوية (الإقتصادية والإجتماعية)، التي حلّت به، فان الغرب الرأسمالي[2]يلج قرنه السادس ممعناً بمخططاته وخطابه ورؤيته للعالم، بما فيه من شعوب وعلاقات وموارد، كعالم وحيد القطب يقف هو على رأسها كقوة وحيدة مهيمنة دون منازع.

أما لو وقفنا في الجهة المقابلة لنرى كيف ينظر الآخرون الى هذا الغرب، فسنجد أننا أمام مفارقاتٍ ملفتة.

فبالرغم من عمق الأزمة الإقتصادية والبنيوية التي ألمت بالغرب الرأسمالي والتى توالت مشاهدها على مدى العقود الأخيرة، فقد مالت الكثير من الكتابات لإعتبارها مجرد “أزمة مالية” مرجعين أسبابها الى الإنهيار المالي الذي حصل في أيلول/سبتمبر 2008.

اما البعض الآخر فقد وجد في الوهن الإقتصادي ـ الإجتماعي الذي أصاب الغرب أزمة عابرة وسحابة صيف سرعان ما تنقشع، ووجد في “عناد” الغرب الرأسمالي ـ وإصراره على المضي قدماً في مشروع هيمنته والمزيد من نهب ثروات الشعوب ـ دليلاً على قدرته على التعافي والنهوض من الأزمات المرة تلو الأخرى وبشكل لانهائي.

وهناك أيضاً تلك القلة ممن استفاقوا على نقد الماركسية للنظام الرأسمالي منذ اكثر من قرن ونصف وتفسير الطبيعة البنيوية لأزمته الدائمة وإنهياره المحتوم. وهذه القلة لم تدخر جهدا في تكرار وترويج بعض هذه المقولات الماركسية وإن بشكل عابر.

بعض الكتابات عثر على الإجابة المنشودة في الحتمية التاريخية وتقلب دورة التاريخ فرأى إندثار الغرب الرأسمالي من منظور حتمية زوال الإمبراطوريات والحضارات وإحلال امبراطوية محل أخرى. ولذلك، ظلت هذه الكتابات بعيدة عن فهم مكونات الخطاب الغربي ومشروعه في الهيمنة عبر آلياته السياسية والإعلامية والثقافية والإجتماعية.

 

إلاّ ان عمق هذه الأزمة وتداعياتها لم يكن ليثير الكثير من القلق لدينا، نحن العرب، ولم يحدو بالعديد من مفكرينا وكتابنا الى معالجة هذه الإشكاليات الأساسية التي ما فتأت تتحدى البشرية، ألا وهي السعي المستمر والعنيد للغرب الرأسمالي من أجل الهيمنة على العالم. بل إننا لنجد ان قلة قد قرأت التاريخ من منظور سعي هذا الغرب الدؤوب للهيمنة ول “غربنة” العالم، وهي القراءة الوحيدة المؤهلة، عبر الفهم النقدي:

ــ لصياغة رؤية نقدية للغرب الرأسمالي ومسيرته ومشروعه؛

ــ وإستشراف امكانية إندثاره وزوال هيمنته البشعة؛

ــ والأهم، التأسيس لمقاومة مشروعه في الهيمنة على أوطاننا والعالم باسره ونهب موارده وثرواته، لان هذه المقاومة تظل في نهاية المطاف، درب الإنسانية الى الحرية والإستقلال والسيادة الوطنية وتحقيق التنمية الإجتماعية ـ الإقتصادية.

***

تستدعي محاولة تفكيك مكونات الخطاب الغربي الرأسمالي قراءة التاريخ الحديث للخطاب للرأسمالي من منظور بانورامي والوقوف ملياً عند منعطفات تاريخية مفصلية نذكر أهمها في العناوين التالية:

ـ العقدالإجتماعي ونشأة النظام الرأسمالي؛

ـ الثورة الفرنسية ومبادئها؛

ـ عصر الثورات الأوروبية (1848 وما تلاها)؛

ـ انتصار الإشتراكية للمرة الأولي في التاريخ البشري في روسيا (أكتوبر 1917)، وفي بلدان أوروبا الشرقية والصين في أعقاب الحرب الإمبريالية الثاينة (1939 ـ 1945)، ولاحقاُ في كوبا؛

ـ خبوة النمط السوفييتي في البناء الإشتراكي وإنهيار الإتحاد السوفييتي والمنظومة الإشتراكية في أوروبا الشرقية؛

ـ نهوض العالم الثالت وحركاته الوطنية التحريرية وإخفاقاتها بعد ذلك في الحفاظ على سيادتها الوطنية وإستقلالها الإقتصادي وإستعصاء تجاربها في التنمية الإجتماعية ـ الإقتصاديه.

وتفضي بنا قراءة هذه المحطات الرئيسية في مسيرة الغرب الرأسمالي الى بعض الإستنتاجات الأساسية:

□ لعل اهم هذه الإستنتاجات تكمن في ان شعارات المساواة والحرية والديمقرطية وقيم العدالة الإجتماعية والدفاع عن حقوق الإنسان المرأة والطفل وغيرها من المبادئ التي يدّعي الغرب تأسيسها وتطبيقها والإستماته في الذود عنها هي مبادئ وشعارت للغرب وحده يستأثر بها دون غيره من شعوب الأرض “الأخرى”، على خلاف زعمه بشموليتها وإنسانيتها. فكل ما ينضح به تاريخ القرون الخمسة الأخيرة يشير الى حقيقة واحدة، تؤكدها الوقائع، وهي ان الغرب يؤمن، وإن لم يقل هذا جهاراً (ولن يفعل)، بإستحالة المساواة بين البشر، بغض النظر عما تقوله دساتيره ومواثيقه ونصوصه الإجتماعية والقانونية الحافلة بمفردات الحرية والمساواة والأُخوة والديمقراطية (أنظر على سبيل المثال شعارات الثورة الفرنسية ودستور الولايات المتحدة الأميركيةً).

□ إن رؤية الغرب من هذا المنظار انما تسمح لنا ان نلحظ أن تاريخ الغرب منذ نشوء الرأسماليه حافل بالدروس والعبر التي تؤكد نزعته نحو التفوق والإستعلاء وإصراره على التفرد والتميز وإمتلاك الحقيقة واحتكار الخصوصيات والإمتيازات، ناهيك عن سعيه الى تسخير الشعوب الأخرى لخدمة مصالحة وتحقيق أرباحه غير المتناهية وإشباع جشعه الإستهلاكي غير المنظور في التاريخ البشري. وبالرغم من دموع ودماء الفقراء والمظلومين من الشعوب المحتلة والمُبادة، فان هذا كله لم يهز ضمير الغرب قيد أنملة ولم يخدش حياءه لا من قريب او بعيد، وما فتأت القوى المهيمنة فيه تقتحم كافة أرجاء المعمورة في سبيل السيطرة على مقدرات كوكبنا.

□ ان خطاب الغرب الرأسمالي يقوم على محوريه إستئثاره في تسيير العالم وشؤونه والتحكم في مصائر شعوبه والهيمنة على مقدراتها وثرواتها.

□ تقوم الثقافة الشعبية السائدة في الغرب، في مجملها مع الإقرار ببعض الإستثناءات والجهود المخلصة والمتفانية في تعرية هذا الخطاب ومناهضته، تقوم على تقبل هذه الخطاب في مستوياته المتعددة والإجماع عليه مما يعني، بالمدلول العملي، أن هناك تواطئاً فعلياً ونظرياً بين مجتمعات ومؤسسات المجتمع المدني في الغرب الرأسمالي مع سياسات وإستراتيجيات طبقاته الحاكمة المهيمنة.

□ بالطبع لا ينفرد الغرب الرأسمالي عبر التاريخ البشري في السعي وراء الهيمنة والنهب، فقد شاهدنا كل الإمبراطوريات عبر التاريخ تستخدم القوة والسلطة وكافة أساليب القتل والبطش وفنون الحرب من اجل تحقيق مصالحها. إلاّ ان الغرب الرأسمالي تميز بل إنفرد، على خلاف الإمبراطوريات الأخرى، بسعية المثابر الى تطوير وإنتاج مقولات وآليات نظرية وثقافية (فلسفية، أخلاقية، أيديولوجية، علمية، دينية..) لتبرير سياساته وإثبات شرعية أفعاله وشرعنة مشروعه في الهيمنة.

وفي هذا الصدد لعب الدين (المسيحية الغربية) والمؤسسة الدينية، عبر توظيفهما في خدمة الأهداف والمصالح السياسية لمشروع الهيمنة الغربية، لعب دوراً رئيسياً في خلق الذرائع وإنتاج المقولات التبريرية. وقد وظفّ الغرب التبريرات الدينية أي أنه إتخذ لبوس الدين في الكثير من الحالات قبل نشوء الرأسمالية (حروب الفرنجة في بلادنا)، وتمادى في نهجه هذا مع بوادر نشوئها الى درجة إقتحام النصف الغربي من العالم وإستيطانه بعد ان أباد الملايين من شعوبه الأصلانية. إلاّ ان الغرب الرأسمالي لم يتوقف قط عن تطوير نظرياته ومقولاته وشعاراته التبريرية التي تؤكد على:

1) تفوقه المادي (الصناعي والتكنولوجي والإقتصادي والعسكري)؛

2) تفوقه المعنوي والحضاري والثقافي (فهو نبراس العلم والمعرفة وحامي قيم الحرية والمساواة والديمقراطية….الخ).

□ لقد صاغ الغرب الرأسمالي، على مدى القرون الخمسة الغابرة، مجموعة من السياسات والإستراتيجيات المعادية لشعوب العالم والهادفة الى نهب مواردها والهيمنة على مقدراتها. وقد استخدم هذا الغرب مسيرته الطويلة من اجل تعليب اطماعه العديد من الإدعاءات والمقولات التي شملت كافة الأصعدة السياسية والإقتصادية والثقافية.

إلاّ أن أميركا، إضافة الى كونها جزءاً أساسيا من الغرب الرأسمالي بل هي زعيمته المطلقة، قد انفردت بسمات وخصوصيات تنبع من ظروف نشأتها وتطورها التاريخي. وتطال هذه الخصوصيات جوانب الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية. وفي التنقيب في ثنايا هذه الخصوصيات، تكمن قدرتنا على فهم “أميركا” فهماً يميزها عن المكونات الأخرى من الغرب الرأسمالي مثل أوروبا الغربية. وسوف نتوقف عند هذه المسألة بتفصيل أكثر في فصول هذا الكتاب.

وليس المقصود هنا ان هذه المكونات متناقضة فيما بينها بل على العكس فهي محكومة في التحليل النهائي بسقف المصالح المشتركة، رغم إختلاف “الحسابات” أحياناً والتناقضات الثانوية أحياناً أخرى وحتى المزاحمة على الربح والكسب والهيمنة. أما التمايز بينها فيقوم على اساس توزيع الأدوار وأداء المهام والوظائف لتحقيق مصالح الغرب الرأسمالي. في هذا السياق فان أميركا تقع في القلب من هذا الغرب، وتحتل موقع الزعامة، وهي التي تتصدر التحديات الكبيرة والمواجهات الشاملة. اما المكونات الأخرى، الصغرى والكبرى، والتي تتشكل بمجملها من الكولونيات السابقة الهرمة (بريطانيا وفرنسا مثالاً) فتؤدي وظائف تخدم في النهاية المصالح والرؤية الأميركية وتنصاع في الغالب للإستراتيجية الأميركية.

الغرب وتجليات “التفوق”

لقد روج الغرب لتفوقه المزعوم في محطات تاريخية متعددة، لعله من المفيد ذكر أهمها:

1) تبجحه بأنه هو الذي أسس لحركات التنوير الإجتماعية والثقافية وحركات الإصلاح الديني وصولاً الى فصل الدين عن السلطة/الدولة و”علمنة” المجتمع وبناء مجتمعات مدنية علمانية تقوم على مبادئ المساواة والعدالة الإجتماعية وقوانينها. إلاّ أن الملفت في الأمر هو إصرار الغرب على أن حركات التنوير هذه انما هي حكر على شعوبه ومجتمعاته، فالأدبيات الغربية تتغنى بشمولية هذه المبادىء الإنسانية بينما نجد على أرض الواقع ان تقديرها للشعوب “الأخرى” هو عكس ذلك تماما، فهي شعوب ليست جديرة إلاّ بالإحتلال والإستغلال والهيمنة.

2) إدعاءه بأنه هو الذي أنقذ البشرية من الفاشية والنازية وخاض ضدها حروب القرن العشرين، ولا يضيره تكرار هذا الإدعاء حتى الغثيان متنكراً لحقائق التاريخ وهي ان الإتحاد السوفيتي، القوة الإشتراكية الأولى في التاريخ الحديث والوحيدة ابّان تلك الحرب، هو من دفع في الحرب الإمبريالية الثانية ومحاربة النازية والفاشية دماء خمسة وعشرين مليوناً من أبنائه وأن هزيمتها في غزوها للإتحاد السوفيتي كانت هي التي قررت نتيجة الحرب، وأن يوغسلافيا الصغيرة والمتخلفة آنذاك ضحت بعُشر سكانها على مذابح النازية.

3) تبجحه بفضله في التصدى للشيوعية ومحاربتها في حروبه الساخنة والباردة “وإنقاذ” البشرية من مخاطر البولشفية وعدوى الإشتراكية. ولا زلنا نذكر ما أعتاد الغرب على إدعائه وترديده من مقولات واطروحات في بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي وأنظمة الإشتراكية في أوروبا الشرقية، حين أعلن موت الإشتراكية وفوز الرأسمالية وتألقها “كخيار” وحيد لهذه البشرية البائسة ووعوده بمستقبل زاهر للانسانية جمعاء. أما ما آل اليه هذا المستقبل، فهو ماثل اليوم امامنا بكل مآسيه وكوارثه وأوجاعه!

4) مقولة الحرب على “الإرهاب”. لقد إستهل الغرب القرن الواحد والعشرين بهذه الحرب من اجل الغاية نفسها أي الدفاع عن الإنسانية و”حماية” الإنسان وحقوقه المهدورة في الدول “المارقة” والذود عن “الديمقراطية”، فاعلن حربة ضد “الإرهاب”، مكرراً التأكيدات المتملقة والمنافقة عن احترامه للإسلام والمسلمين ومقدساتهم وقيمهم ورسولهم، بينما كانت حروبه وعُنصريته لا تبرهن إلاّ على عكس ذلك.

 

5) إدعاءه الذود عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وتمكينها. فالغرب هو الذي يهب لنجدة الفقراء والأطفال في أفريقيا وهايتي والعالم الثالت وإنقاذهم من مخالب الجوع والفقر والمرض. اما قتله لمئات الآلاف من أطفال العراق وتشريد ما يقارب من أربعة ملايين من العراقيين الأبرياء، فهذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، لا في عقول وضمائر شعوب هذا الغرب ولا لدى الكثيرين من المثقفين والمفكرين في بلادنا. فالغرب، كما يرون، يبذل غاية جهده ويضحي بالغالي والنفيس من أجل تعميم الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وتلقينها للشعوب في أفعانستان والعراق وهايتي وغيرها.

عبر هذه المحطات وغيرها، عمل الغرب الرأسمالي، كما أسلفت، دون كلل وبدينامكية مذهلة على تطوير بنيته الإجتماعية ونظرياته وسياساته في الهيمنة من خلال مسارين رئيسيين:

1) تطوير المبادئ والشعارت المفرطة في إنسانيتها وشموليتها وإنتاج الآليات النظرية والقانونية لتبرير وشرعنة سياساته عبر مسيرة تاريخية طويلة ومعقدة؛

2) وفي مسار موازٍ وعبر الحقبات التاريخية ذاتها إنتهك الغرب كل هذه المبادئ جملة وتفصيلاً في أفعال العدوان والحروب والقتل والذبح وإبادة الملايين من الشعوب في شرق هذا العالم وغربه، ناهيك عن نهب الموارد والثروات موظفاً في ذلك وبشكل مثابر كل ما أنتجه من نظريات لتبرير هذه الإنتهاكات والخروقات.

يشكل هذان المساران المتواكبان محورين أساسيين في قراءة الغرب ومفتاحاً لفهمه.

إلاّ أن المفارقة المذهلة والمحزنة في آن، انه مع اشتداد هجمة الغرب على الشعوب “الأخرى” وتطوير آليات مشروعه في الهيمنة، نشهد الكثير من هذه الشعوب ونخبها السياسية والثقافية والأكاديمية، ومنها شعوب البلدان الإشتراكية سابقاً، قد تجاوزت الحواجز في التعامل مع الغرب وأخذت تتهافت على قيمه واسلوب حياته وتتقبل منظوره الى العالم “والآخر” وتستدخل نظمه القيمية الإجتماعية والسياسية بما فيها السياسات والإستراتيجيات المعادية لمصالح تلك الشعوب ذاتها ولغيرها وتستشرف فيه الحل والبديل.

الغرب وإختلاق مقولة “حماية المدنيين” و”التدخل الإنساني”

“علينا ان نغادر أحلامنا ونتخلى عن معتقداتنا وصداقاتنا القديمة التي تعود الى ما قبل ان تبدأ الحياة. إترك أوروبا هذه حيث لا يتوقف الحديث عن الإنسان بينما هم يقتلونه حيث يجدونه وفي كل زوايا شوارعهم وأنحاء الكرة الأرضية. لقد أحكموا الخناق على الانسانية جمعاء على مدى القرون باسم ما يدعونه التجرية الروحانية. إنظر اليهم اليوم، فهم يترنحون بين الإنحلال الذرّي والروحاني.”

فرانز فانون ( 1925 ـ 1961)

كتاب “معذبو الأرض”

 

تتسم أدبيات الخطاب الغربي الرأسمالي السائد في نظرتها الى الشعوب “الأخرى” بفوقية وعُنصرية المركزانية الغربية (الأوروبية ــ الأميركية) وتوظيف هذه القراءة لخدمة أهدافه السياسية والإقتصادية والأيديولوجية.

فالغرب الرأسمالي، بمجمل قواه المهيمنة سياسياً وإعلامياً (دون الدخول في مناقشة الإستثناءات القليلة) ينظر الى الآخرين والشعوب “الأخرى” على إختلاف مسمياتها (غير الأوروبية، غير البيضاء، الملونة، شعوب العالم الثالث، شعوب الشمال مقابل الجنوب…الخ)، بفوقية من خلال النظارة الأوروبية الغربية البيضاء.

وبالنسبة شعوبنا، فلم ير هذا الغرب فيها سوى تركة لحضارة متخلفة إستبدادية لا تملك من القدرات والمهارات ما يؤهلها لادارة شؤونها ومعالجة مشاكلها. وهي شعوب تبغض بعضها وتتناحر فيما بينها محكومة بالتخلف والكراهية والبغيضة التي تنهش لحمها منذ قرون مديدة. لهذا، ووفق المنظور الغربي، فان شعوبنا قد ابتلت بخمسة قرون من التخلف الحضاري الشرقي (العثماني) وتتطلع الى الغرب كي يضفي عليها أنواره وتستنير بقيمه وحضارته ويعينها في نهضتها وبناء الديمقراطية والإصلاح الأخلاقي والحضاري.

وقد طغى هذا الخطاب ــ في أبعاده ومستوياته المختلفة (الثقافية والإعلامية والأكاديمية) وما تضمنه من مواقف ومقولات فوقية وعُنصرية ــ على الثقافة الشعبية الغربية والرأي العام الغربي والمادة الإعلامية. ومن هذا المنظور أيضاُ سادت المفاهيم القائلة بان هذه الشعوب عاجزة عن التعاطي مع أوضاعاها وغير مؤهلة لحل مشاكلها لوحدها، لذا يوتجب على الغرب “التدخل” لحمايتها ووقف المجازر ومذابح “الإبادة”.

لم يكن هذا المنظور مبتكراً، بل كان الغرب الرأسمالي الإمبريالي قد نسج سرده عبر قرون خمسة من التجارب الكولونيالية التي إستعمرت البلاد والعقول.

في ثنايا هذا الخطاب وهذه النظرة نجد مجموعة متشابكة ومعقدة من القضايا نكتفي بعرض بعض عناصرها الرئيسية:

1) تقديم قراءة مضللة وسطحية للصراع مفادها (كما جرى في العديد من الحالات المشابهة)، انه صراع بين قوى إثنية وطائفية متناحرة تبغض بعضها لقرون طويلة، وهو من حيث الجوهر نفس مفهوم صراع قوى الشر والخير الذي تبلور وسادّ في أعقاب هجمات 11 أيلول/سبتمر 2001.

ــ صراعات إثنية وقومية (كما في الحالة اليوغسلافية).

ــ صراعات دينية وطائفية (العراق وسوريا مثالاً).

ــ مذابح ضد الأبرياء (ألبان كوسوفو عام 1999).

أما الخطورة في هذا الطرح فتكمن في التستر المغرض والخبيث على الظروف الإجتماعية والإقتصادية والطبقية التي تغذي هذه الصراعات والتي كانت السبب الجذري في نشأتها وتفاقمها. وهذا يعيد الى الأذهان إصرار الغرب على تأبيد التخلف والتبعية كضمان لعدم التطور مما يجعل الإستعمار مبرراً، بل يقود لإستدعاء الإستعمار كما يجري اليوم.

فالصراعات والحروب والمذابح ليست من طبيعة البشر أو المجتمعات البشرية ولا هي من فطرة الشعوب اليوغسلافية أو غيرها، وإنما نتيجة ظروف ومصالح وتناقضات إجتماعية وإقتصادية (طبقية) تحتدم حتى تصل درجة الغليان والإنفجار.

2) تشويه الأدوار والمبالغة ببعضها والتقليل من بعضها آخر، ولكن مع التركيز دوماً على دور وتأثيرات الأفراد والشعوب والإثنيات والأديان… الخ وتغييب العوامل الإجتماعية ـ الإقتصادية (الطبقية). وقد لقي هذا التشويه تعاوناً وتواطئاً من بعض النخب القوى السياسية والإجتماعية المحلية في المجتمعات المُستهدفة. وقد أصبح هذا التشويه أداة لمحو الذاكرة الجمعية والتاريخية لهذه الشعوب وإدخال شعارت “الحداثة” و”الديمقراطية” و”الليبرالية الغربية” الى معجمها والولوج الى عمق ثقافتها الشعبية.

3) العودة المتكررة والمتواصلة كما أسلفت الى مقولة عجز هذه الشعوب عن حل مشاكلها دون “معونة الغرب” وإستحالة التعايش المشترك بين كافة فئاتها وبهذا يضحى التدخل الخارجي الغربي واجباً أخلاقياً وإنسانياً من أجل حماية المدنيين. وهذا هو بيت القصيد في الموقف الغربي وهو موقف رأسمالي إمبريالي بامتياز، وعُنصري (معادي للاخوة والمساواة وامكانية التعايش المشترك بين الشعوب والقوميات والإثنيات).

4) وسمت السياسة الغربية والإعلام الغربي والعربي المأجور وبالقدر المستطاع النخب المثقفة المحلية المُخترقة والمرتشية، وسمت هذا الصراع ب حرب “إثنية” أو “طائفية” أو “حرب إبادة” تقترفها الأنطمة ضد شعوبها ومواطنيها (كما حصل في ليبيا وسوريا).

فهذا التوصيف يمكن تلك القوى من توظيفه في تأجيج مشاعر التعصب والإقتتال وتعبأة الشارع وتجنيد المواطنين العاديين في الحرب والقتل ضد دين ما أو طائفة ما، أو عِرق وقومية وإثنية أخرى. وهكذا يتم طمس الأسباب الإقتصادية والطبقية والسياسية. وهي ذات الدعوات التي تغذي النزعات الحاقدة والميول الشوفينينة المقيتة التي تحتكر “حقائق” التاريخ وتزورها لتخلق صوراً من الأحقاد التاريخية وأساطير كاذبة ملفقة تعيد توليدها كي تتناقلها الأجيال، جيلاً بعد جيل، وكي تدعي انها من “طبيعة” تلك الشعوب والمجتمعات وانها سمة ثابتة فيها لا تتغير.[3]

بالإضافة الى ذلك، فقد نَحَتَ الغرب الرأسمالي مصطلح “الإبادة العِرقية” حيث عثر فيه على القدرة في إثارة المخاوف وتجنيد الرأي العام المحلي والعالمي وتأليب “المنظمات الدولية” ومؤسساتها الحقوقية والإنسانية ومحاكمها الدولية ويستدعي تنفيذ القرارات الدولية في التدخل العاجل “لدواعي إنسانية” مستخدماً ذريعة “التدخل الإنساني”Humanitarian Intervention وإستيقاظ المؤسسات الدولية (أدوات الإمبريالية والرأسمالية الغربية وصنيعتها) من سباتها العميق على عذابات الإنسانية وتوثبها “المعهود” لنجدة الضحايا واللاجئين والمشردين (مقولة إبادة ألبان كوسوفو 1999 نموذجاً). ولم يغير من الأمر شيئأً ان هذا الغرب ذاته قد قام في الولايات المتحدة وكندا على جماجم الملايين من الشعوب الهندية الأصلانية، وان “التدخل الإنساني” المشروع وفق “الأعراف والمواثيق الدولية” يشترط ألاّ يتسبب هذا التدخل ل” حماية حقوق الإنسان” بأضرار أكبر من الأضرار الناجمة عن إنتهاكات حقوق الإنسان ذاتها، حيث تفيد التقارير ان أعداد المشردين من الصرب والغجر من كوسوفو نتيجة الحرب والقصف الجوي الذي قامت به قوات الناتو، تفوق من حيث النسبة المئوية أعداد اللاجئين من ألبان كوسوفو.

5) الإيحاء بان الغرب يقف خارج دائرة الصراع أي أنه ليس “طرفاً” فيه، بل هو مجرد “عامل خارجي”، يتعامل مع الصراع القائم من نقطة “خارجية” ونائية عن ساحة الصراع.

لذا إقتضى العمل منذ البداية على تشويه حقيقة ما يحدث في تلك المجتمعات (وهنا يأتي دور الإعلام المأجور) تدمير ما جسدته من صور التآخي والتعايش المشترك وانجازاته في التاريخ الحديث.

 

نقد الخطاب الغربي

 

هيمنة الغرب وتفسير التاريخ

إنهيار يوغسلافيا نموذجاً

لا قيمة للتاريخ أو للتأريخ، مهما بلغت جودة توثيقه بالكلمة والصورة والصوت وكل ما تغدقه علينا التكنولوجيا الحديثة، لا قيمة له دون القدرة على فهمه وتفسيره. فالتاريخ بدون القدرة على تفسيره يعدو كماً تراكمياً من الوقائع التي تخلو من المعنى والراهنية والدلالة وتفتقر الى التواصل مع الواقع والتفاعل معه.

في هذا السياق، تجدر ملاحظة أن الإعلام يعيد خلق وتشكيل الهوية الجمعية للشعوب والمجتمعات من خلال تقديمه للأحداث التاريخية والوقائع بطريقة معينة بحيث يساهم في بلورة تفسير جمعي لها يساعد هذه الشعوب في فهمها لذاتها وكينونتها وخياراتها من اجل المستقبل.

والحقيقة أن دور الإعلام الإجرامي لا يتوقف عند سطوته على الوعي الجمعي فحسب، بل يتعدى ذلك فيصبح الإعلام أداة حرب لا تقل فتكاُ ودموية عن الآليات الحربية والعسكرية.

لقد شكل الوطن العربي، بشعوبه ومجتمعاته وثرواته، الحقل التجريبي الرئيسي لخطاب الغرب الرأسمالي. وتظل هذه الحقيقة مؤكدة على مدى القرنين الأخيرين مهما علا زعيق مروجي هذا الخطاب من غربيين وعملائهم من المثقفين والكتاب العرب على تنوعهم وتعدد أسبابهم: مَنْ خان منهم ومَنْ إرتشى، مَنْ تاه منهم إفتتاناُ بالغرب، و مَنْ إنهار في الوعي والهوية. إلاّ أننا حرصنا في هذا الفصل على دراسة نموذج أخر غير عربي لما فيه من دروسٍ وعبر.

* * *

كانت هذه السطور المقتضبة ضرورية قبل الولوج الى تأمل الحالة اليوغسلافية، ما كانت عليه وما آلت اليه، وللتأكيد على أهمية مصداقية وسائل الإعلام التي غطّت احداث ذلك الجزء من العالم عبر العقدين الأخيرين وزودتنا بالمعلومات والمعطيات عنه، أو بالأحرى مصداقية المؤرخ والمحلل والصحافي الذي نقل الينا هذه المعلومات والأمانة العلمية والأكاديمية لتحليله. ومن نفس المنطلق نقول أن هذا يفضي بنا الى مسألة “التوازن” في السرد والتحليل، أي في مدى قدرة هذا الأخير على نقل كافة تفاصيل اللوحة التاريخية ـ السياسية ـ الإجتماعية للاحداث في سياقها الشامل والمتكامل، والحفاظ في الآن ذاته وبالقدر ذاته، على إبقاء المصالح الذاتية والنزعات السياسية بعيدة عن تشويه الوقائع والتلاعب بها وتسخيرها لخدمة أجندات وأهداف سياسية لقوى خارجية مثل ما حصل في يوغسلافيا وما يحصل الآن في العراق وأفغانستان وهايتي وغيرها من انحاء متفرقة من العالم ونقاطه الساخنة.

أما في حالة يوغسلافيا، فقد كان هذا “التوازن” أول وأكبر ضحايا الخطاب الرأسمالي الغربي، وإعلامه على وجه الخصوص. فقد جيّر هذا الخطاب نفسه لخدمة المصالح الإستراتيجية ـ الإقتصادية للغرب الإمبريالي ولم يتوان عن تجريم مَنْ يشاء وتبرءة مَنْ يشاء في سبيل تحقيق هذا الهدف.

 

تعددت المناهج والهدف واحد

من الملفت للنظر، وإن كان الأمر لا يدعو الى الإستغراب لكونه “الحالة الطبيعية” لخطاب الغرب وأجندته حيال يوغسلافيا وغيرها من ضحاياه، أن الكثيرين من المحللين والأكاديميين والنشطاء في الغرب بما فيه قطاعات كبيرة من اليسار الغربي، وكذلك في الوطن العربي، إلتقطوا الحدث في يوغسلافيا عندما بلغ “فوهة البركان”، وكأن أزمة ذلك البلد قد بدأت مع إندلاع حروب التسعينات للقرن الماضي.

لقد ظهرت خلال العقدين الأخيرين كتابات كثيرة تناولت يوغسلافيا وأسباب إنهيارها ودروب مستقبل شعوبها ودولها الجديدة، وقد غلبت في الخطاب الغربي عدة مناهج تحليلية وبحثية لا تخلو من أجندات سياسية وأكاديمية ومن ولائها للجهة الممولة، نوجز أهمها على النحو التالي[4]:

1) الإعلام الغربي: أستيقظت وسائل الإعلام الغربية ومعها الرأي العام العالمي من سبات عميق في حزيران 1991 على صدى إنفصال جمهوريتي سلوفينيا وكرواتيا عن الفيدرالية اليوغسلافية وقرقعة طبول الحروب التي تلت. ولعلني لا أجافي الحقيقة ان قلت بان الغرب لم يكن قبل ذلك معنياً إلاّ بشواطئ ذلك البلد الجميلة ومنتجعاته السياحية المتدنية الكلفة.

2) مع سقوط جدار برلين (1989)، كان الغرب الرأسمالي قد أسدل الستار على “وظيفة” يوغسلافيا كمنطقة عازلة بين المعسكرين (الإشتراكي والرأسمالي) المتنازعين طيلة حقبة الحرب “الباردة”، ولم يعد معنياً ولا منشغلاً بمصير هذه الشعوب ومستقبلها. فالى الجحيم بها وليلحق الدمار بها كما لحق بالإتحاد السوفييتي وبلدان منظومة حلف وارسو في بدايات تسعينيات القرن المنصرم. لم يعد الغرب معنياً باكثر من البحث والتنقيب لإختلاق الذرائع لعدوانه، ومن موقع الإثارة الإعلامية اليومية وعلى مدار الساعة، عن المسؤول عن تلك الحروب وعلى مَنْ يلقي اللوم لمعاناة ضحايا المذابح والتشرد. هذا ناهيك عن ترديد المعزوفة الممجوجة التي تدعي ان مشكلة هذا البلد لا تكمن إلاّ فيه وفي شعوبه المتخلفة التي أعمتها العصبية القومية “وإقتتال الإخوة”.

3) أما خطاب “الواقعية السياسية” فقد إكتفى من هذا كله بالعثور على الذريعة لتحقيق مصالحه الإستراتيجية والإقتصادية، في حين تم تجنيد جوقة من المثقفين والإنتلجنسيا، داخل يوغسلافيا وخارجها، “وكلاء” براغماتية العولمة الرأسمالية، التي لم تتورع عن أن تضم اصواتها الى تلك المعزوفة فغلفوا الذريعة ب”الإعتبارات الإنسانية” ووظفوها في صياغة السياسة الخارجية وصناعة القرار السياسي في مؤسسات الطبقة المهيمنة/ الحاكمة في الغرب الرأسمالي. هكذا، ووفق نهجهم، تأخذ الأمور منحاها “الديمقراطي” وتنطلي السياسات على الشعوب التي “تهضمها” وتستدخلها دون عناء.

 

خطاب اليسار في الغرب: تساوق مع يمينه

يكمن القول، بشكل عام، ان اليسار الغربي، وعلى وجه الخصوص وعبر وسائل إعلامه، قد تجنب مواجهة الأسئلة الصعبة وتلاقى في العديد من المواقف، وإن كان بشكل مبطن، مع الإعلام الليبرالي والرأسمالي. فبالرغم من إدراكه للكم الهائل من الكذب والخداع والدعاية والتلفيق الإعلامي والسياسي خلال مرحلة الإعداد لقصف يوغسلافيا (مارس 1999) وغزو العراق واحتلاله (مارس 2003)، ومقدار التزييف الأيديولوجي فيما سمي ب”الحرب على الإرهاب” و”صدام الحضارات”، فان قطاعات كبيرة من اليسار الغربي لم تتوانى عن المشاركة، عبر كتابه ومثقفيه ونشطائه، في التواطؤ والتماثل مع الخطاب الرأسمالي.

وهكذا التقى يساريو ومثقفو وليبراليو الغرب في خلق الذريعة الضرورية لتلفيق “إجماع غربي” consensus أي قبول جمعي (رسمي وشعبي بما فيه قطاعات عريضة من اليسار) لتفسيرات حروب التسعينيات في يوغسلافيا وفي الحملة على ميلوشوفيتش وقصف الناتو (1999) وإقامة مستعمرتين نيوكولونياليتين في البوسنة وكوسوفو (ستدومان على الأرجح لأمدٍ طويل). وقد ساهم هذا كله وعبر امتدادته في الوعي الشعبي، في التمهيد للقبول وتبرير الحرب على “الإرهاب” ومن ثَمّ إحتلال افغانستان والعراق.

تحضرني، في هذا السياق وبحكم اقامتي في الغرب لسنوات عديدة، إشكاليات العمل والتعامل مع القوى التقدمية واليسارية في الغرب الأميركي. وينتابني شعور كعربي بان الحالة اليوغسلافية لا تعدو كونها حالة عابرة في الخطاب الرأسمالي، مقارنة بقضايا فلسطين والوطن العربي التي تحتل موقعاً مركزياً في أجندة الغرب ويساره. في هذا الصدد فان التغلغل الصيهوني بشتى الوانه واطيافه لا يكفي لتفسير او لتبرير انحياز كليهما، وبالرغم من التأكيد على الخطورة القصوى للدور الذي يلعبه هذا التغلغل، فقد آن الأوان لكي نغوص في دراسة وتحليل الغرب الرأسمالي، بكل مكوناته، بما فيها الصهونية كقاعدة ووظيفة إمبريالية إستعمارية في اوطاننا، وان نحدد على وجه الدقة موقفنا من هذه القوى، يمينها ويسارها لا فرق.

ودون الدخول في تفاصيل، نقول انه من الصعب الفصل في الخطاب الغربي بين يمينه وبعض القطاعات من يساره إلاّ من حيث الشكل، أما من حيث الوظيفة فقد أدى كلاهما الى خدمة الأهداف ذاتها. فقد وقف اليسار مندداً بالعدوان الإمبريالي ضد يوغسلافيا، وسطر المجلدات في ذلك إلاّ انه لم يقدم تفسيراً متميزاً ومناقضاً للتفسير الرأسمالي ـ الغربي ولم يعنى مطلقاً في أن يقدم فهماً للواقع والداخل اليوغسلافي، مختلفاً عن فهم اليمين، بل نراه قد تساوق مع الإعلام والخطاب الغربي السائد في تفسير الحروب اليوغسلافية وتفكيك الإتحاد الفيدرالي على أنه خطيئة “صربية” ومصير محتوم لهذا البلد المحتقن “بالشوفينية القومية” البلقانية.

وعليه، وفي جوهر دوره التاريخي ـ الإجتماعي ـ الطبقي، يقف اليسار في الغرب، مع بعض الإستثناءات، في تناقض فاضح مع نهجه في فهم الواقع المادي وتحليل التناقضات والقوى والعوامل الإجتماعية والطبقية الكامنة في الصراعات.

تفكيك يوغسلافيا “كسابقة” لاحتلال العراق

 

شكل النهج الإمبريالي في التعامل مع يوغسلافيا وشرعنة قصفها الوحشي وتفكيك الدولة الفيدرالية، سابقة لإحتلال العراق منذ حرب يناير 1991 وعبر سنوات العقوبات الغاشمة الإثنتي عشر وصولاً الى غزوه واحتلاله وتدميره. وقد أصبح ذلك الأساس في في صلب العلاقات الدولية وقوانينها بغية التمهيد وخلق الأسبقيات (السياسية والقانونية) لشرعنة سياسات ومناهج جديدة تتماشى مع مصالح القوى المهيمنة (الولايات المتحدة وحلفائها):

1) التدخل في شؤون الدول المنهارة (أوروبا الشرقية) و”الدول المارقة” (العراق وافغانستان وكوريا الشمالية وكوبا…الخ).

2) الحرب على “الإرهاب”.

3) صياغة جديدة لدور ومسؤولية “المجتمع الدولي” في “حماية” الأقليات الإثنية (البونسة والبانيو كوسوفو مثالاً) من اجل تفكلك الدول والمجتمعات.

4) إضعاف الإتحاد الأوروبي كما أسلفت بما يضمن هيمنة الإمبريالية الأميركية السياسية والعسكرية، وتحكمها بالمؤسسات الدولية (الأمم المتحدة، مجلس الأمن، محكمة العدل الدولية، المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) وضبط ايقاع العلاقة الأميركية ــ الأوروبية.

ان التشابه بين الحالتين اليوغسلافية والعراقية مدهش من حيث الكذب والتلفيق لخلق الذرائع للعدوان والإحتلال. إلاّ أن الحالة اليوغسلافية كانت الحالة الإستباقية والتي شكلت الأرضية لوضع وإعداد الإستراتيجية والقاعدة الأيديولوجية للتضليل الإعلامي الغربي.

***

كل المؤشرات، من تاريخية وسياسية وإقتصادية وإجتماعية، تشير الى أزمة رأس المال ومحدودية دور الغرب وتأثيراته، وكلها تشير أيضاً الى ان الإمبريالية تسير عكس حركة التاريخ، إلاّ انه يجب الحذر من الوقوع في وهم الإستخفاف من الإمكانيات المادية للإمبريالية والرأسمالية الغربية ووحشية مشروعها وأساليبها. أما الأخطر فهو الإرتكان الى الحتمية التاريخية لهزيمة الإمبراطوريات مقابل حتمية إنتصار الشعوب، فمقاومة الشعوب هي الدرب الوحيد المفضي الى انتصارها والى محو الظلم والقهر وإنعتاق الإنسان من كافة أشكال الإستغلال.


[1]   نص الفصل الرابع من كتاب “أميركا الأخرى: أميركا في عيون مُغتَرِبٍ عربي”، تأليف: د. مسعد عربيد ص ص 73 -88، الناشر: دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة، عمّان، الأردن، ديسمبر 2013.

[2] أستخدمت مفردة “الغرب الرأسمالي” أو “الغرب” بالمعنى الشامل للكلمة كما أشرت في ثبت المفردات في بداية الكتاب.

[3] لاحظ التشابه، من حيث التوظيف السياسي للمفردات، بين “الحرب الإثنية” او “الدينية” و”الطائفية” من جهة، و”الحرب على الإرهاب” من جهة أخرى، حيث إستخدمت هذه الأخيرة بعد تفجيرات سبتمبر 2001 وتوظيفاتها السياسية (والثقافية والحضارية) ضد الإسلام والمسلمين عامة والعرب والوطن العربي خاصةً.

[4] يشمل كتاب Sabrina Ramet المثبت في مراجع هذا الكتاب على مراجعات وقراءات لما ينوف عن 130 كتابا في معالجة الأزمة اليوغسلافية وأسبابها وتداعياتها. وقد راجعت المؤلفة كتباً في اربع لغات: الانكليزية والالمانية والايطالية والصربية ـ الكرواتية.