من يراهن على المالكي ولماذا؟

جمال محمد تقي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1846)

هل لأن المالكي طرح ولاول مرة، ومن موقع السلطة دعواته للمصالحة المشروطة مع اطراف بعثية؟

او لانه اخذ يدرك وعن تجربة بان ما يسمى بالعملية السياسية الجارية، هي عملية كسيحة ومشوهة، وان مواصلة سيرها سيؤدي حتما لتكسيح العراق وتقسيمه، حتى راح يعلن ودون تحفظ بانها هي المسؤولة عن هذا الاذى والانحدار الشامل الذي يشهده العراق؟

ام لانه أكد على اهمية وضرورة الانسحاب الامريكي، وان العراقيين جاهزون لتولي المسؤولية كاملة؟

او بسبب حديثه عن الحاجة لقيام عراق قوي بجيشه وحكومته المركزية، وبالتالي فانه يريد احداث تغييرات جوهرية في الدستور؟

ام لانه يركز على عروبة العراق من خلال تبريزه لدور العشائر العربية في الجنوب والوسط والموصل؟

او لانه يعمل على التصدي للتجاوزات الفضة لحزبي البرزاني والطالباني التي تريد تقسيم العراق والحاق الاذى باهله؟

ام لانه تميز عن حليفه حزب الحكيم برفضه لفدرالية الجنوب وموازنة العلاقة الحميمة مع ايران؟ او لانه قاد الصولات لكبح جماح فوضى الميليشيات والعصابات والمافيات؟

اسئلة عديدة لا يمكن الاجابة عنها دون متابعة مسار المالكي نفسه ومنذ 9 نيسان 2003 وحتى الان. وعلى قولة اهل العراق ـ شيء لا يشبه شيء ـ فالرجل كان متحمسا لفكرة الاجتثاث التي نقلها احمد الجلبي من ضمن ما نقله من افكار مستوردة اصلا من لجنة تحرير العراق، الي كان مقرها واشنطن والمكونة من فطاحل رجال الكونغرس والمال والاعمال الامريكان المرتبطين باللوبي الصهيوني الامريكي، والتي اقترحت ايضا اقصاء وحل الجيش العراقي، وكان ابرز العراقيين المعتمدين لديها هم احمد الجلبي، وكنعان مكية، ورند رحيم، وحتى قبل تولي المالكي منصبه الحالي كان هو المسؤول الاول عن اللجنة الاجتثاثية في البرلمان العراقي، وهو في مقدمة الذين كانوا قد افشلوا مؤتمر القاهرة للمصالحة الوطنية! وكان لا يختلف عن اقرانه في مواقفهم من الدستور وتمريره، وفي دفاعهم المستميت عن العملية السياسية، وهو كان من المؤيدين لحل الجيش العراقي، ولم يطرح كلمة واحدة بحق التصرفات المشينة للبيشمركة واحتلالهم لكركوك والموصل وديالى بل لم نسمع عنه مثلا انه عارض استخدامهم من قبل الامريكان في معارك الفلوجة والرمادي والموصل وحتى كربلاء والنجف، ولم نسمع عنه انه طالب الاحزاب وميليشياتها بترك ممتلكات الدولة ومعسكراتها وعدم مصادرة الاسلحة الثقيلة وتسليمها للقوات الحكومية الجديدة.

وبالمختصر المفيد لم يكن المالكي يختلف عن الاخرين كالجعفري وعلاوي مثلا!

اذن من اين له كل هذه الجدة؟ وهل هو وحده من يتلبس بها ويستجيب لمقتضياتها؟ وما هي مرتكزاته التي تجعله يطرق ابوبا كان هو وحزبه وتحالفاته من يغلقها؟

حتى نعرف الاجابة علينا معرفة المتغيرات الاستراتيجية التي سبقت تغير مواقفه والتي ستلحقها، وعلينا معرفة البدائل الممكنة لسياسته التي راح يؤكد عليها مؤخرا؟

المتغير الاساسي الذي يحوم بكل معانيه وتداعياته وهواجسه على سماء وارض وناس العراق ومن يحكمون فيه ومن يعارضون ويقاومون، هو التغيير الذي طرأ اساسا على اولويات السياسة الامريكية منذ تأكد هزيمة المرشح الجمهوري لمنصب الرئاسة وفوز المرشح الديمقراطي أوباما، فامريكا في عهد اوباما تعتبر البقاء في العراق وتحمل تبعات واوزار ما حصل ويحصل فيه منذ 2003 والى اجل غير مسمى هو امر لا طاقة لامريكا عليه، فهو يستنزفها ويجعل من هزيمتها غير المعلنة، هزيمة شاملة بانعكاساتها على الداخل الامريكي وعلى كامل المنظومة الامنية الخارجية وتحديدا في الشرق الاوسط، انه بالنسبة لاوباما القتال الخاطيء وبالمكان الخطأ! الاولية لاستعادة العافية الاقتصادية امريكيا، والاولية لاستعادة شيء من المصداقية الامريكية المفقودة من خلال التركيز على المشتركات في العلاقات الدولية، وجعل الخصوم في عزلة وليس العكس!

هناك حدثان ارزا يكمل بعضهما الاخر سبقا هذا الاداء الجديد للمالكي:

اولهما، ان تمرير الاتفاقية الامنية مع الامريكان والتي حاول المالكي نفسه اظهارها وكانها اتفاقية للانسحابهم النهائي، ورفع اياديهم عن كل الملفات الخاصة بالعراق ومستقبله وحتى انه سماها ” اتفاقية تنظيم الانسحاب الامريكي من العراق “،

والثاني، لتقدم الملحوظ لحزب المالكي في انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة، وعندما نقلب هذين الحدثين سنكتشف مدى ارتباطهما ببعضهما!

الامريكان لو انسحبوا كليا ودون ان يتركوا خلفهم عراقا مسايرا لتوجهاتهم ومنسجما وبحدود معقولة مع تطلعاتهم الاستراتيجية، لاعادة تاهيل العراق ليكون مؤهلا كعامل مساعد للتاثير على مواقف وادوار الاخرين في المنطقة بالتلاقح مع الانظمة الاخرى السائرة بالركاب ـ من افغانستان حتى المغرب مرورا بايران واسرائيل ـ فانهم سيكرسون هزيمتهم السياسية والعسكرية ليس في العراق وحده وانما في عموم المنطقة، ولانهم اصحاب مصالح حيوية واستراتيجية فيها، فسيكون موقفهم اكثر غباءا من ادارة بوش لو انسحبوا وبالطريقة التي يريدنا ان نصدقها المالكي مع اطراف حكومته!

فالانسحاب المسؤول من العراق كما يسميه اوباما يعني بالنسبة له التقشف في اي خسائر كانت من خلال جعل المدن تحت الاشراف العسكري العراقي بدعم واسناد من قواعد عسكرية نوعية لا يتجاوز عدد العاملين فيها 30 ـ 50 الف، وبكثافة مخابراتية ودبلوماسية واشرافية، في قاعدة السفارة 5000 الاف موظف، وهذا الوجود يتزامن مع عملية تسريع حلحلة العقد المستعصية او المعرقلة للطموح الامريكي بجعل العراق دولة نفطية تسير بفلكها، بوجود عسكري او دونه.

والفرق بين بوش واوباما هنا ان الاخير يريد التسريع بتحرير وجوده العسكري من العراق مع التركيز على وجوده السياسي والمخابراتي مستفيدا من الامر الواقع الجديد الذي يجب ان يستوعب الجميع ودون تمييز باعتبار ان العقدة الاساسية في موضوعة الفوضى الشاملة هو الوجود العسكري الامريكي نفسه، وان التخلي عن مشروع تقسيم العراق عرقيا وطائفيا يساعد على تحقيق فك الاشتباك القائم سريعا وبدون ذلك فان التواجد الدائم امر لا مفر منه، اي ان حكومة مركزية منتخبة وبتعديلات دستورية جديدة تنسجم مع التوجه الجديد، واقناع الاحزاب الكردية بضرورة الاكتفاء بما حققوه، ومطالبتهم بان يكونوا اكثر واقعية باعتبار ان مصلحتهم في ابداء المرونة ازاء ما يسمى بمشكلة المناطق المتنازع عليها بما فيها كركوك، وقضية النفط، وصلاحيات المركز والاقليم، وهذه المطالبة ستكون فاعلة لان الوقوف بوجهها سيجعلهم بمواجهة مع الرغبات الامريكية التي لا يمكن للقادة الكرد ان يعصوها، بسبب جوهري واضح، فالتخلي الامريكي عن حمايتهم يجعلهم فريسة سهلة بين دول لا تضمر الخير لهم وخاصة بعد ان كشفوا عن مكنوناتهم ـ العدائية ـ لكل من يحيط بهم، اما الاحزاب الطائفية المزدوجة الولاء فان سياسة حرقها شعبيا من خلال وضعها في الواجهة قد افلح في سحب البساط الشعبي منها لصالح القوى المعتدلة التي تعلمت ايضا وبالتجربة، بانها ستخسر المستقبل كله لو خسرت قيام عراق موحد وقوي، وان هوى اهل العراق ازداد ميلا بعد هذه التجربة المريرة الى الدولة القوية الحامية والراعية والضامنة، وهو ما يتغنى به العراقيين ويسموه ـ بالوطنية ـ المالكي مؤهل للعب هذا الدور رغم خلفيته الطائفية التي راح يبتعد عن خطابها كلما اقترب اكثر من خطاب حزب الدولة الواحدة ـ حزب دولة القانون ـ فالامريكان قد خيروه والخيارات امامهم مفتوحة والحاجة ام الاختراع، والمالكي اختار ما اختاروه ايضا وقد خبر ان الراية الجديدة هي القادرة على الاستقطاب وهذه المرة وطنيا، وحليفه المنافس حزب الحكيم يحاول وبعد فوات الاوان ان يجرب نفس الكاس اي ايضا انه ادرك تماما ان مشروعه الطائفي قد فشل والاصرار عليه يعني مزيدا من هذا الفشل!

في خضم هذه العملية المتعددة الوجوه ستتكون معادلة طردية: اي كلما تعمق المالكي وحزبه وتحالفاته في تعزيز وحدة وقوة العراق وسار باتجاه تعديل الدستور واجراء مصالحة سياسية حقيقية، كلما تفككت العملية السياسية القديمة لتحل محلها حالة انتقالية مترجرجة امدها نهاية العام الحالي حيث سينجح بالانتخابات البرلمانية القادمة من سيحظى بالدعم الامريكي الخفي ـ مخابراتيا وسياسيا اضافة الى تعجيز الاخرين عن اي محاولة للنيل منه، فهو رجل المرحلة!

بهذا المعنى فان المحتل الامريكي يكون قد نجح في سياسته الجديدة، قد تخلصت من الشكل المباشر للاحتلال والطائفية والعرقية السياسية الطاغية، باتجاه عراق مستقل شكليا ومستقر ظاهريا لكنه تابع خارجيا وهش داخليا!

ان التهافت على شعارات المالكي وما يلمح اليه هو انتحار سياسي لاي فصيل سياسي مقاوم او مسلح مقاوم، لان ما جعل المالكي وغيره، يغيرون من شعاراتهم وبعض ممارساتهم هو الانسداد في افق عمليتهم والذي يعانون منه بسبب من صمود القوى الرافضة للاحتلال وتركته، واستمرارهم في مقاومتها ـ عمليته السياسية ـ مهما تجملت وتزينت وتكيفت، واذا كان المالكي وحزبه يعتقدون حقا بما يطلقوه من شعارات، فعليهم البرهنة بانهم نادمون عن كل الذي جرى من خلال، اطلاق سراح كل سجناء الرأي والمعتقلين من رجال المقاومة الوطنية، وتعويض كل المتضررين، ثم الغاء قانون الاجتثاث، وتعطيل العمل بالدستور الحالي، وتقديم طلب الى مجلس الامن والجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي للاشراف على تشكيل حكومة انتقالية يرشحها مؤتمر عام يجمع كل فصائل العمل الوطني لمدة سنتين يجري خلالها التحضير لانتخابات عامة واستفتاء على دستور جديد، واذا تم ذلك وبخطوات حثيثة ساعتها فقط يمكن لفصائل المعارضة والمقاومة ان تنظر في موضوع التحالف مع المالكي او غيره من المتحمسين للتغيير الحقيقي وليس التكتيكي، الذي يريد احتواء الرقم الصعب من اجل ارضاء اسياده ومن اجل ضمان بقاءه على دست الحكم في مواجهة المنافسين!

نعم لا احد يريد التعامل بسلبية مع النوايا الحسنة ولكنها تبقى نوايا وفي السياسة لا وزن الا للافعال التي تفعل فعلها في تغييرالواقع القائم وليس بواقع اخر افتراضي ـ ربما في رؤوس اصحاب النوايا الحسنة فقط ـ!

المقاومة الوطنية العراقية والقوى السياسية الممانعة استطاعت ان تنجز الكثير، على الرغم من تعدد مرجعياتها الميدانية لكنها جميعا صاحبة رسالة مفادها تكملة مشوار التحرير الى نهايته بطرد المحتلين تماما وكل بقاياهم او قواعدهم واسترجاع قاعدة السفارة في المنطقة الخضراء، والغاء الاتفاقية الامنية، وعدم تطبيع العلاقات مع امريكا الا بعد تقديم اعتذار رسمي معلن للشعب العراقي مقرون بالتزامات بدفع تعويضات للدولة العراقية ازاء الخراب الشامل الذي سببته!

ان شعبنا بتضحياته الجبارة يستحق من الجميع الرضوخ لارادته وليس تزويرها، في اكبر عملية نصب شاملة في التاريخ ـ سياسيا وقانونيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وعسكريا ـ وانتخابيا بواسطة انتزاع بصمته وهو بحالة اغماء موضعي نتيجة لانتشارغبار الفوضى الشاملة والقذرة بمفعولها الخالي من الخلق والاخلاق!

الكرة بملعب المالكي نفسه وهو تحت المجهر، اما فصائل المقاومة والممانعة فهي لا تنتظر رحمة من هذا المضغوط او ذاك انها تواصل مسيرتها وتتفاعل مع المتغيرات بمقدار خدمتها لاهداف انطلاقتها: التحرير الكامل ونبذ كل تداعيات الاحتلال وعمليته السياسية الطائفية العنصرية ودستورها اللقيط.

المراهنة على المالكي امريكية اولا واخيرا وهي بكل الاحوال تجريبية حتى بداية العام الجديد. انها بمثابة امتحان لقدرته على انجاز ما يطلب منه، واذا لم ينجح فالبدائل متوفرة ومبتذلة!