ليو شتراوس: الأب الفكري للمحافظين الجدد

مازن كم الماز

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1820)

خلافا لكل مزاعم النيوليبرالية الامتداد النظري للمحافظين الجدد، فإن الأساس الفعلي لصعود المحافظين الجدد لا يشكل على الإطلاق تطورا للعقلانية البرجوازية في فترة الإمبراطورية. فالتنظير الفكري الرأسمالي في فترة نهاية الحرب الباردة وما بعدها ( منذ صعود ريغان حتى بوش الابن ) شكل قطيعة حقيقية، بل و تمرداً جذرياً، على الأشكال المتأخرة للعقلانية البرجوازية الحداثية.

لا ينتمي فكر المحافظين الجدد، الذي يعود الفضل في إحيائه ونشره لشتراوس، إلى نقد ما بعد الحداثة النيتشيوي عموما، بل هو نقد ينطلق من موقف كلاسيكي قبل حداثوي، وذلك خلافا لكل مزاعم الليبراليين العرب، الذين تحدثوا عموما عن العلاقة الوثيقة بين فكر المحافظين الجدد ومشروعهم العالمي و الشرق أوسطي وبين الحداثة كهدف نهائي للنهضة العربية المعاصرة. على العكس تماما كان هذا الفكر ردة نحو الماضي قبل الرأسمالي باتجاه تشريع وتأسيس نظام شمولي يقوم على خطاب فكري سياسي شعبوي مؤلف من مزيج من الفلسفة والدين بغرض خداع الناس العاديين وضمان ولائهم.

في الحقيقة كان تنامي نفوذ ليو شتراوس ( 1899 – 1973 ) في الأوساط الأكاديمية الأمريكية علامة هامة على العودة القوية للأفكار المحافظة المعادية لليبرالية لممارسة تأثير مركزي في الفكر السياسي والاقتصادي الأمريكي منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي.بدأ شتراوس مما اعتبره نقائص الليبرالية التي اعتبرها النتيجة المنطقية للأفكار الفلسفية للحداثة، أي ما يمكن اعتباره نقائص الحداثة نفسها.آمن شتراوس أن الليبرالية، كما مورست في القرن العشرين في الغرب، تشتمل على ميل داخلي نحو النسبية الذي يؤدي إلى العدمية. واعتبر أن الدولة الليبرالية الألمانية كانت مفرطة في تحملها للشيوعيين والنازيين الأمر الذي أدى في نهاية الأمر إلى تدميرها، وأنها بتحملها للفوضى الأخلاقية قلبت الألمان العاديين ضدها. بعد مغادرته ألمانيا عام 1938 بسبب ديانته اليهودية، حمل معه نفس التقييم للمنظومة السياسية الأمريكية الليبرالية.

اعتقد شتراوس أن أمريكا قد وجدت على أساس متنوع، معاصر وكلاسيكي وآخر إنجيلي، وانتقد الاستبعاد الليبرالي للعنصر الكلاسيكي وعمل على إعادة إحيائه عن طريق تبنيه للمثال السياسي الأفلاطوني، في وقت كان الفكر الكلاسيكي عرضة للنقد وحتى الإهمال من المدرسة الوضعية التجريبية السائدة يومها في الفكر الأمريكي. لهذا الموقف أصل أكثر عمقا عند شتراوس، فقد رأى أن الفلسفة السياسية المعاصرة قد اعتبرت متطلبات الفضائل التي وضعتها الفلسفة السياسية الكلاسيكية أرفع بكثير من أن يمكن بلوغها، هكذا تصبح الفلسفة السياسية المعاصرة مجرد مساومة نحو فضائل واقعية لكن أكثر تواضعا وذلك عندما تقدم أساسا واقعيا لإنجاز إنساني معتدل من الاستقرار والرخاء.

من المشهور عن شتراوس وصفه للحداثة أنها تقف على أرض صلبة لكن منخفضة. من جهة أخرى رأى شتراوس أن الفلسفة السياسية المعاصرة خطرة، لأنها عندما تكشف الحقيقة الرديئة للأخلاق التي يقوم عليها النظام المدني تضعف قناعة الإنسان العادي بهذا النظام، ولذلك ميز شتراوس بين مستويين من إعلان أو تصريح النص الفلسفي، بحيث يجري فهم حقيقة ما يقوله فقط من قبل قلة متخصصة دون أن يفهم من الناس العاديين وبالتالي دون أن يؤثر على قناعتهم وخضوعهم للنظام السائد. لذلك نراه، على العكس من الأكاديميين الليبراليين الذين اعتبروا سقراط شهيدا للفكر، يرى أن إعدام أثينا له كان مفهوما. ورغم أنه اعتبر ماكيافيلي نقطة التحول الكبرى التي قادت إلى الفلسفة السياسية المعاصرة إلا أنه انتقده لأنه صرح عن آرائه للعامة، وانتقد إطاحة ماكيافيلي بالقيم القديمة ودعوته لتشكيل النظام السياسي وفق القيم الإنسانية، الأمر الذي انتهى إلى علوم اجتماعية لا تقوم على القيم وسياسات حداثية وضعية تقوم على مقاربة تكنوقراطية بحتة (في الحالة الليبرالية البرجوازية). النقطة المركزية في الميكافيلية، والتي طورها هوبز ولوك من بعده، هي أن الإنسان يقف خارج الطبيعة، بل في مواجهتها، عندها لن توجد قيم أو لاهوت طبيعي، أو ستبقى دائما موضعا للشك.

على العكس من هذه النظرة للإنسان يعود شتراوس إلى تعريف أرسطو للإنسان على أنه كائن سياسي بطبيعته، بالتالي فالسياسة وقيمها الجيدة هي طبيعية، و إذا كانت هناك تراتبية هرمية “طبيعية” لهذه القيم فمن الضروري عندها وجود تراتبية هرمية “طبيعية” بين البشر (هنا يستخدم شتراوس ذات التبرير الأرسطي للعبودية على أنه نظام طبيعي).

ويستعير شتراوس أيضا موقف أفلاطون المعادي للديمقراطية الأثينية في موقفه من الليبرالية البرجوازية، هكذا كانت أفلاطونية شتراوس سلاحا لتبرير الانقسام الطبقي و انقسام البشر إلى حكام ومحكومين من جهة و للدفاع عن الأوليغاركية من جهة أخرى (أوليغاركية النخبة المالية الاجتماعية، البرجوازية).

أما في سعيه للبحث عن حل للنزعة العدمية لما بعد الحداثة، فقد قرر شتراوس أن يعود إلى الدين كأساس ضروري للفكر اليومي للبشر العاديين، كأساس لخطاب السلطة الشعبوي الذي يعيد إنتاج خضوع الناس لها. هنا يجد شتراوس رده على عدمية ما بعد الحداثة، فأمريكا ليست فقط حالة متقدمة جدا لليبرالية البرجوازية وبالتالي تحمل خطورة عالية “للانزلاق” إلى العدمية، بل أنها قامت، جزئيا، على أساس كلاسيكي إنجيلي و قد مثل هذا الأساس مصدرا لخطاب شعبوي يقبل بالأمر الواقع، لمخرج واقعي لخطر العدمية هذا. وفيما بدت العولمة محصلة لمشروع الحداثة، كان شتراوس معاد لمفهوم المجتمع العالمي، واعتقد أن المواطنة العالمية مستحيلة، مثلها مثل الصداقة العالمية. الناس الجيدون هم وطنيون فقط، يحبون وطنهم الأم. هدف مشروع النقد الشتراوسي للحداثة إلى إحياء المثل التي هدمها النقد الحداثي و ما بعد الحداثي، و ذلك وفقا لخطاب شعبوي يقوم على خداع مبرر تماما للجماهير من قبل النخبة و السلطة السائدتين.

يحتل الشتراوسيون اليوم مراكز قيادية في معظم أقسام العلوم السياسية والفلسفة في الجامعات الأمريكية.يكفي أن نذكر بين أتباعه، ولفوفيتز، جين كيركباتريك، جون أشكروفت، فرانسيس فوكوياما، وصموئيل هنتنغتون. هذا يسهل بالتأكيد فهم الأساس النظري لأطروحة هنتنغتون، قبل الحداثية بل والمعادية للحداثة، عن صراع الحضارات.

المراجع :

– Leo Strauss،Conservative Mastermind ; Robert, Locke،www.frontpagemag.com/Articles/authors.aspx?GUID

– Profile : Leo Strauss، Fascist Godfather of the Neo-con، Jeffery Steinberg

، www.larouchepub.com/eirtoc/2003