د. عادل سمارة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1933)
قرأت قبل ايام خطابا لجلوب باشا الجديد (كيث دايتون) الذي ينشىء قوات فلسطينية. لم أُفاجأ بالهدف من هذه القوات ولا بمن يدربها ولا بعدم وجود علاقة بين وجودها وبين حق العودة ولا بنجاحها في تحطيم مقاتلي حماس وغير حماس. ما فاجأني طريقته في الحديث، مزاح، استخفاف، ثقة بمهمته، غزل في الكيان، تيه جندي غربي إستعماري على هامات أمة تاريخية، ارتياح تام في خدمة بلده هنا.
لكن زوال المفاجأة جاء من مصدر مختلف، جاء تلاحق موجات التطبيع وذلك التساب قالهائل عليها من ما تسمى “زورا ” النخب. قد تأتي قوات القمع على المقاتلين، لكن التطبيع يُجهز على أمة بأكملها. هذا ما فهمته حين همس في أذني صديق:
هل تعرف الشاعر إبراهيم نصر الله
ليس عن قرب.
إنه هنا، سوف يتحدث في السكاكيني.
هل ستذهب؟
لا ، فمباركة المطبعين أخطر من التطبيع، بل هي ناقلة جرثومة التطبيع.
سألت نفسي، كيف يتناسل هؤلاء؟ كيف تربوا، وهل كان نضال شعبنا مخروقاً إلى هذا الحد؟
مشيت قليلا في وسط رام الله، نظرت إلى أكوام من الناس يتزاحمون على الأرصفة، ويفيضون على ممر السيارات، بأطفال وأمتعة ووجوه بلا تعابير. يا للهول! هل يعرف هؤلاء ما معنى التطبيع؟ هل يعرف هؤلاء أن ما كتبه ابراهيم نصر الله ومسلسل المطبعين أمثاله هو الذي سيقرأه أطفالهم في المدارس ثم يُصدمون، حين يكبرون قليلاً، بأن هذا قال شيئاً وفعل اشياء عكسه. عندها قد يتهاوى الصبي في حضن التطبيع، فلا تتحمل نفسيته الشفافة البريئة ذلك الكم من الكذب باسم الوطن، فيقرر أن : لا وطن هناك!
ما قيمة الكلمة بلا محمول، وما شرفها إن لم تدافع عن محمولها، واين عذريتها حين تحمل من عدة شخوص متناقضين؟ اللغة كالرصيف تمشي عليه القديسة ويمشي عليه زير النساء، اللغة كنقطة جسر اللنبي يمشي عليه المطبعون وجنود الاحتلال وفلاحة عجوز دفنت عمرها وحتى ذاكرتها عن فلسطين.
قد يأتي المطبع من أجل مال، ومن أجل حفل استقبال رومانسي تتمايس فيه الغواني، وقد تقول إحداهن: “هادا تطبيع”! وقد يقف عقائدي قديم ليقول: لا حديثك قومي متخشب . ولكن، مهما كانت محفزات مجيء المطبعين، فهل يستحق ذلك؟
وهذا لسبب اساس: التطبيع اعتراف طوعي بالكيان وتخلٍ مؤكد عن حق العودة. وحق العودة والوطن ليسا للمطبعين. فالمطبع يتخلى عن حق غيره عن حق شعب عن حق أمة! كيف يحصل هذا؟ ومن أين سمح لنفسه بذلك؟
قال لي صديق: لكن إبراهيم نصر الله يحمل هوية الضفة الغربية؟
رحم الله ابو نُواس حين قالت له السيدة زبيدة: “عذر اقبح من ذنب”.
ابراهيم نصر الله ببطاقة الضفة الغربية اي ب تطبيع رسمي. وهل أوسلو ليست تطبيعاً؟ أليست أوسلو هي التي أودت بالوطن إلى زمن طويل قادم. نفهم أن مواطنا خُلق هنا قبل اوسلو ليس أمامه سوى حمل هذه البطاقة، أما أن يأتي البعض ويحملها مؤكدا اعترافه بالكيان فهذه كبيرة من الكبائر.
أن يُقال ان اوسلو أدخلت عشرات الالاف؟ لا باس، ولكن ماذا عن ستة ملايين؟ ولماذا قبل عشرات الآلاف أن يتخلوا عن ال ستة ملايين؟ أم أن المسألة هي : “أنج سعد هلك سعيد”!
ماذا نقول للمثقفين العرب وخاصة المصريين الذين يرفضون التطبيع؟ هل نقول لهم إن الاعتراف بالكيان من أجل حمل بطاقة الضفة الغربية هو مكسب لا تفهونه ايها العرب؟
اية خزعبلات هذه! وكأن الاحتلال لا يعد أنفاس حتى الموتى، أو كأن المسألة مجرد عدد مقابل عدد؟ من يدخل بهذه الطريقة، لا يفعل سوى التأكيد للاحتلال أنه مُقر له بفلسطين، وأن هذا المطبع إنما “دبر نفسه”.
ناقشني أحدهم كان قد أتى مع أوسلو زاعماً أن مجرد دخول اي فرد هو مكسب وطني!
ليس هذا سوى جزء من تراث نفخ الذات الذي تعودنا عليه، وتخيلنا أن العرب قابلون به!
ولكن، لولاكم لم يأت ها المطبع، وهو مجرد رقم على أية حال. لو جاء إلى مركز السكاكيني ولم يجدكم لفهم معنى جريمته. لوقف عندها في قاعة فارغة تطارده روح خليل السكاكيني التي تحوم باكية حول الوطن، فلا تجد لها فيه مكاناً.
ما يجعل التطبيع عادياً هو قبولكم به، فما بالك بالاحتفاء به. تماماً كخرق مختلف القيم. فحين يصبح التطبيع عاديا، وربما “نضالاً” تتأكد أن الخيانة وجهة نظر، وأن بيع الأرض للعدو تجارة، وأن الإخبار عن المقاتلين مقاومة للإرهاب، وأن سرقة أموال ابناء الشهداء تجفيفاً لمنابع الإرهاب.
أقوى المواقف مناقشة الذات، محاسبة الذات. نعم، إن سلاح النقد لا يغني عن نقد السلاح. فالذين يصطفون تحية لمن أتى من جسور التطبيع، إنما هم في درجة أدنى في النار منه.
أمثال ابراهيم نصر الله، يعرفون أنهم مطبعون ويطبعون. هو يعرف ان لا استقلال هنا ولا سيادة، ولا هواء نقي. هنا أكاذيب، هنا حمل كاذب لا فترة زمنية له، لا يذهب ولا يُنجب.
لذا، لم يوقع به أحد ولم يغرر به المغرِّرون الذين طالما تفاخروا بذلك.
ذات مرة حاول أكاديميون صغار الإيقاع ب سمير أمين ليأتي إلى جامعة بير زيت (أوردتها عدة مرات) ، حيث موقع نضال الحركة الطلابية العريقة سابقاً، وبؤرة التسوية والتطبيع على مستوى محاضرين هناك. أوهمه هؤلاء أن الضفة والقطاع محررتان مثل هانوي وفنوم بنه اللتين أحبهما وكتب عنهما.
كان بيننا حديث قصير دقائق ليلقي بالتذكرة في وجوه سماسرة الثقافة. وبقي الرجل نظيفاً.
ماذا جنى الذين حضروا حديث الضيف المطبع، أو آسف هو ليس ضيفاً، هو مطبع اصيل؟ ساعتين من قرض الشعر، بعض الدموع، تقطيع وقت، أإلى هذا الحد يمكن للإنسان كي يهرب من الزمن أو يتخلى عن وطن؟ عن وطنه!
أإلى هذا الحد يكون الناس صغاراً حتى يتمسحوا بمطبع؟!
ليقل لي ابراهيم نصر الله هل سمع خطاب نتنياهو، أم هو لا يقرأ إلا الشعر؟ هل قرأ مؤخراً مقالات بني موريس، و أ. ب. يهوشع، هل قرأ ما كتبه تشومسكي، وحتى موشيه ماخوفر؟ لا يوجد اي مثقف يهودي حتى الماركسي إلا وهو ضد حق العودة ؟ فلماذا أنتم هكذا؟ ولماذا هكذا من يستقبلونك ويملأون قاعات نوادي ومسارح التطبيع؟
من “يحمل في الداخل ضده”، لا يخدم إلا نفسه، وحتى للحظات. فويل لوطن فيه من هؤلاء الكثير.
مرة أخرى، لماذا يأتي أمثالك إلى هنا؟ إن كان للبكاء على وطن أضاعه من لا يناضلون، فالبكاء على الأندلس عن بعد، أبلغ من الموشحات. والحزن عن بعد اكثر حرقة، كما أن الفداء تسلل عبر النهر أعلى طعماً من النضال في الداخل. وإن كان المجيء التطبيعي للبحث عن جمهور يسمع، فأعدك أن اقول للمثقفين المحترمين في عمان أن يهيئوا لك في مخيم الوحدات أمسيات عديدة؟ أم أن لا نساء مخمليات في المخيم! ومن أين لهن الجمال الحداثي مع سوء التغذية والحرص على إنجاب مقاتلين؟ وإن كان المطبعون يأتون لتثبيت وظيفة وراتب عند سلطة الحكم الذاتي، كعائدين، فالله غني عن بعض المال.
قد لا أكون متجنياً إن قلت إن مجيىء المطبعين هو حالة لا وعي للسبب الحقيقي من جانيهم ومن جانب مستمعيهم في حفلات ما يطلبه المستمعون/المشاهدون.
السبب، بالمناسبة يعرفه العدو أكثر مني: السبب هو الإعجاب بالكيان الصهيوني، ومحاولة التقرب من هذا “النموذج” ليس للتعلم منه، بل للقول له:
” سيدي موشيه طبطب على مؤخرتي، فأنا أتمتع بذلك…هل تدري أنني احاول أن اشبهك” إنه البحث من الضعيف عن شهادة من القوي، فالعلاقة مع العدو هي مصادمة، قد تكون بالسلاح، وقد تكون بالمناظرة الفكرية وقد تكون بالمقاطعة. وتقليد القوي معروف في تاريخ البشرية وهو أحد أهم اسباب توحش العالم حتى اليوم. وتقليد القوي لا يمكن أن يقود إلى تقوية الذات، بل يقوي القوي على وحشيته.
لو كان هذا الضيف المطبع شاعراً حقيقياً لكتب ملحمة عن وقوفه أمام جنود الاحتلال على الجسر يسخرون منه وهو ينتظر من الغاصب كي يسمح له برؤية المغتصبة والاعتذار لها، بأن: ” لا بأس سيدتي، فهي مجرد غشاء خفيف، وتبرئين من الألم بعد قليل!”
لو كان فهم ما كتبه الراحل عبد اللطيف عقل، لربما لوى عنقه عائداً قبل وصول الجسر من الجانب الأردني: “يكفيك ذل التصاريح على الجسر، وقوفك في آخر الصف”. كتب عبد الطيف هذه لنا نحن الموجودين هنا قبل جراد التطبيع والاستيطان ودولة بلا وطن.
هل فرحت كطفل صغير حين ختمت السفارة الصهيونية جواز سفرك حين ختمته نقطة الجسر على النهر الذي جف لكثرة ما رأى من مذلة المطبعين منا وصاح وامعتصماه، فضاع الهدير والخرير وغار الماء نفسه؟ وهل سألت نفسك، لماذا يسمحون للبعض ولا يسمحون لستة ملايين، هم الفلسطينيون.
هل أتيت بحلم أن تراث محمود درويش شاعر المقاومة ثم التطبيع مجلَّياً في الإثنتين؟ ربما شعرت بالغيرة حين رأيت آلاف الحسان يرتيدن السواد ويتحلَّقن حول قبره، الذي ملأ القصر الثقافي برام الله، على شاعر أصر على التطبيع. هل أردتهن حياً. لقد أتيت من الباب الحقيقي للتطبيع، فهنيئاً شرف السقوط.
هل ستقول إنك لم تنم طالما لا تزور فلسطين؟ ماذا نقول نحن الذين فيها ولا نراها؟ هل نهرب من كل هذا العسف الصهيوني؟ هل نرحل لأن الجوع يلازمنا قبل الشبع؟ والموت يلاحقنا قبل الحياة؟ هل نترك الأرض والشهداء ونوقع على بيان أل 55 مثقفاً الذين شتموا الاستشهاديين، متبرئين أن هؤلاء إسلاميون متخلفون؟ فجاد عليهم الانحاد الأوروبي (اتحاد لصوص مرحلة راس المال) ودفع ثمن الإعلان! أؤكد لك أن الذين استمعوا إليك في غالبيتهم من هؤلاء المثقفين المطبعين/ات وممن ولدوهم بعد ذلك البيان.
دعني أُخبرك، ولا أدعوك، فللست من أهل البيت، أدعوك إلى يومي 26 و 27 حزيران إلى مدينة البيرة حيث المؤتمر العالمي لتوحيد اليسار، وهو برعاية منظمة أنجزة يسارية ألمانية، لاحظ، لهذا نكهة خاصة، وبين الحضور ضيوف من عدة بلدان، وفي اليوم الثالث سيؤخذ الضيوف في رحلة في الضفة الغربية. ليروا: ان هناك احتلالاً وليست هناك مقاومة!!! فالمقاومة في غزة، وغزة مطروحة للذبح، وسيكتب المثقفون الذين استمعوا إليك في السكاكيني بياناً جديداً يتبرأ من فقراء غزة الذين لا يليقون بأحمر الشفاه ولا بما بعد الحداثة!
ماذا تريد؟ أن تصطف أمامك مجموعة من الرجال والنساء لكي تمهر دفاترهم بتوقيعك؟ واي توقيع: “اشهد انا المطبع برغبتي إبراهيم نصر الله أني رايت خضوع فلان في رام الله، وعيون فلانة كذلك”!
هل سألت نفسك، من هم هؤلاء الذين حضروا؟ من هم في العمل الوطني؟ فرق من الذين يتعيشون على دم الفقراء، الأنجزة، العائدات غير المنظورة، جمهور مثقفي الدولة الفلسطينية القادمة كأُعطية من أُعطيات أوباما ليتحكم أكثر بثروة الأمة العربية !
أشعر أحياناً أني جريء، وأنا لست كذلك، فكيف لي أن أنقد عظيما مثلك، ومثقفين/ات تحميهم التسوية والتطبيع وكتائب دايتون. وأنا من أنا، لست أكلفهم سوى رصاصة واحدة. أنت اقوى مني، أنت لك فيالق من المستمعين بأورامهم الثقافية وأكياس العائدات غير المنظورة التي كدسوها من منظمات الأنجزة، وكتابة التقارير للسفارات والقنصليات.
هل تود أن تضحك، حتى تشيكيا الوضيعة لها هنا عملاء!
وأنا من أنا؟ أنا مواطن بسيط، لا أملك من عرض الدنيا غير قلمي، ولا يسمع لي إلا الشهداء ونواصي وشواخص قبورهم.
ولك، لأنني لست مخادعاً، اقول لك، إنني أكتب عن وأكتب لِ:
أكتب عن الشهداء وأكتب للجيل المُشرق القادم، كي لا يحوله التطبيع محاقاً.
إذن، اشتباكي ليس مع شخصك ولا يومك. بل على الزمن القادم وعلى الجغرافيا التي تعتبرها يهودية خالصة وأعتبرها ارض كنعان. إذن نتعارك على اعتبار ما هو قادم. وصدقني لو كنت أكتب كي لا يستقبلك هؤلاء، لما كتبت، لأن يد الوطن مغسولة من كل مطبع/ة ومن يطبع لا يعود، أما الشهداء فيعودون. نعم فقراء، كالحي الملابس، لا يتقنون حتى الأكل بالشوكة والسكين، فما بالك بلغات الأعاجم، ينامون على البرش والحصير، ولكنهم يحددون للبوصلة اين تمضي. نتعارك على الجيل القادم، كي لا يُصاب بعدوى شعر التطبيع المنافق.
قل لي: على بلاغتك اللغوية، ما معنى أرض محتلة؟ إذا كان كل هذا العدو بعقيدته واسلحته واسلحة الوحش الأميركي، (فأميركا ليست شخص أوباما ذي الخصر النحيل والشفاه الرقيقة)، وسرقة حتى الهواء. إذا كان كل هذا لا يؤكد لك أن الوطن مستباح، فما معنى الاحتلال!
هل تعلم أنني لا أفاجىء حين يقول الصهاينة أن فلسطين لهم! وذلك لأنهم يقرأون التطبيع جيداً.
قبل ايام كتبت أنتقد أُنجوزة ومُطبِّعة مصرية، أهداف سويف، واشرت إلى أن هناك محاولات غربية لإعدادها كي ترث إدوارد سعيد بطل التطبيع عبر ما بعد الاستعمار. لاحظ، كلمات معقدة، آسف على التفلسف، لكن إدوارد سعيد يحتاج لحوامل فلسفية لتوضح تطبيعيته. كتبت إثر ذلك لي سيدة فلسطينية، تحتج لصالح إدوارد سعيد رافضة رؤية أنه حمل رسائل من الإدارات الأميركية لمنظمة التحرير كي تطبع، وحصل، ورافضة فهم أنه ضد الأمة العربية والقومية العربية وضد الكفاح المسلح، وأنه حضر من أميركا، والله أعلم من دفع التذكرة، ليقوم بنشاط دعاوي كي ينتخب أهلنا في 1948 عزمي بشارة ليكون عضو كنيست. وفي النهاية كان عزمي كعادته شاطراً، فتأكد أن الكيان سوف يطرد أهل 1948، فهرب باكراً، وصار بطل الفكر في الوطن العربي. عيب يا اهل الوطن. أما أنت فعلت التطبيع حتى بعد أن أعلن نتنياهو دولته اليهودية النقية، وبعد أن باركها أوباما وكافة أوغاد الغرب الرسمي، وأنظمة الدول القطرية، إنما عبر تأدية الأذان “في الجرِّة”
لا تريد هذه السيدة أن تعرف، أنها تقبل التفريط بالوطن مكتفية بكتاب وكاتب!
آمل أن تقرأ هذا بعد أن تكون قد تمتعن بأجواء مخملية وبمراسيم سلطوية، وبصراخ المغتصبات أوة كما يقولها الفلاحون بأن أفظع الاغتصاب هو الاغتصاب عند الضُحى، ” ندَّاهة الضحى” ربما لأنه نهار، ولأن ذلك وقت العمل في المجتمع الزراعي، والعمل مقدساً. ولكن، لم تعد هنا لا زراعة ولا فلاحين، فالاغتراب هنا بالمطلق.