جميل خرطبيل
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1964)
حديثنا لا يمس شعبنا الفلسطيني المغلوب على أمره تحت الاحتلال وما يفرضه ذلك من احتكاك يومي سواء في الأراضي المحتلة عام 48، أو المحتلة عام 67 والتي أقلها التبعية الاقتصادية والأمنية والحواجز والمعابر والاجتياحات والاعتداءات.. وكذلك حديثنا لا يمس أبناء شعبنا في دخولهم إلى الأراضي المحتلة عام 67 أو الخروج منها ولا الزيارات المتبادلة، ولا يمس الحديث احتكاك شعبنا اليومي مع سلطة رام الله وأجهزتها فهذا واقع مفروض ولا مهرب منه!
الحديث يتعلق حصراً بالنخب الثقافية والأدبية والفنية وبمن له مكانة ثقافية أو أدبية أو مناصبية أو اعتبارية.. المؤمنة بالتسوية والتنازل والاعتراف والتطبيع والسلام مع العدو الصهيوني، ويتعلق أيضاً بمن يدعي رفض التسوية والاعتراف والتطبيع مع العدو ولكنه في الوقت نفسه يطبع علاقاته مع أولئك المطبعين كالتعامل معهم واستقبالهم أو القيام بزياراتهم، ولا سيما للدائرين منهم في فلك سلطة أوسلو أي لمعقل سلطة رام الله والتعاطي مع حكومتها اللاشرعية!
والتطبيع ليس في الحصول على تأشيرة خروج أو دخول للضفة فهذا أمر بديهي لأن الصهاينة محتلون ويتحكمون بدخول وخروج أبناء شعبنا الفلسطيني، والتركيز على هذه النقطة هو تحريف لجوهر الموضوع؛ فالقضية تكمن في استقبال المثقفين والمبدعين التسوويين القادمين من إمارة رام الله وكذلك الزائرين من خارج الأراضي المحتلة لسلطة رام الله الخائنة تلبية لدعوات منها والتعامل معها وتلقي البركات منها، مما يعني أنهم يعطونها الشرعية والاعتراف بنهجها وبرنامجها الخياني! وأولئك الزوار الضيوف لا يمكن مساواة ظروفهم مهما ادعوا بظروف أبناء شعبنا في الداخل الواقعين تحت الاحتلال. وهذا هو الجوهر الذي يجب الحديث عنه، لأنه من المفترض مقاطعة ونقد وفضح سلطة رام الله لمواقفها الخيانية والفاسدة والإجرامية والقمعية واللصوصية.. لا التعامل معها والتعاون والمشاركة!
وليسأل كل من تقربه سلطة أوسلو منها سواء داخل الوطن المحتل أو خارجه، لم يُغدق عليه الكرم من مال وحفاوة ومناصب، في الوقت الذي يرى فيها غيره ممن يساويه أو يفوقه ثقافة وعلماً وفكراً ومكانة، محاصراً وملاحقاً ومعرضاً للاعتقال والاستجواب بين يوم وآخر؟ أليس لأنه وطني مؤمن بثوابت القضية الفلسطينية وشعبها، بينما هو…؟!
إن ثلة أوسلو بحاجة إلى أصوات مشهورة تبوق لها لتتلطى خلفها ولسان حالها يقول: انظروا فلاناً النجم اللامع في ربعنا مما يدل على صحة نهجنا ونظافتنا، وكأن شهرة ذاك النجم هي المرجعية للقضية الوطنية!! وهم يغدقون المال الكثير على أولئك وعلى غيرهم ممن يمكن شراؤهم. ولا ننسى هنا كرم وبذخ الـ3000 ما بين منظمة ومكاتب للأنجزة التي تصب في طاحون التطبيع وإنهاء القضية!! فكيف يقبل من يدعي الثقافة والإبداع والإنسانية والاستقلال والحرية والمبادئ أن يضع نفسه في ذلك الموقع؟! ولا نعتقد أنه لا يقرأ ولا يرى ولا يسمع حقيقة ما تقوم به سلطة أوسلو من الفساد والإفساد والعمالة للصهاينة والخيانة العلنية؟!
لا بد أن نميز بين مكانة المثقف والمبدع أدبياً أو فنياً أو فكرياً، وبين موقفه السياسي والوطني، لكن قبل ذلك لا بد من تعريف المثقف، فليس المثقف هو من يختزن المعلومات المتنوعة في ذاكرته فقط، وإنما هو إضافة إلى ذلك الذي يحمل فكراً ومنهجاً ورؤية وله رسالة وطنية قومية إنسانية تعبر عن شعبه وأمته في آلامها وآمالها، وينعكس ذلك على وعيه وممارسته في مواقفه وكتاباته وسلوكه الأخلاقي.. فهو ضمير ووجدان وطنه وشعبه وأمته فكراً ومعرفة وسياسة وأخلاقاً..
وليس كل من يُحسب على المثقفين هو مثقف، فلو دققنا جيداً في حقيقة المثقفين لأخرجنا بعضهم من دائرة الثقافة إلى دوائر أخرى!
وكذلك الأمر ليس كل مبدع في مجالات الأدب والفن مثقفاً!
كما أن المثقف الحقيقي الملتزم والمبدع الحقيقي بالضرورة يجب أن يكونا سياسيين من الطراز الأول وإن كانا لا يمتلكان القرار السياسي أو العسكري، وبالمقابل ليس كل سياسي مثقفاً، بل هناك من السياسيين النجوميين من لا يمت للثقافة بأية صلة ناهيك عن المنطق والعلم والمنهجية..
والنقد للمثقف – إن فقد هويته المفترضة- يمس مواقفه السياسية وقبوله بالتفريط والاعتراف بالعدو الصهيوني وشرعيته ومؤازرته لسلطة الخيانة الأسلوية، وهذا لا علاقة له بمكانته الأدبية والفنية أو الإبداعية فتلك المكانة من اختصاص نقاد الأدب والفن، وبما أنه قبل بالانفصام بين جودة الإبداع وضحالة الوطنية فنحن مضطرون للتعامل معه بازدواجية؛ فلم تلفيق الربط والتوحيد بين جودة إبداعه وسقوط سياسته وأفكاره؟!
فلنفصل الأمرين لتنتهي الإشكالية! والمضحك هو استغراب واستنكار كثيرين ممن عندهم عقد نقص، حين تنتقد الكاريزميات وكأنما هم آلهة لا تخطئ!! وعليهم أن يعلموا أن المثقف والمفكر والمبدع من طينة البشر يمكن أن يكون الواحد منهم سامياً ويمكن أن يكون وضيعاً، كما يمكن أن يكون جزء من تاريخ أحدهم جيداً والجزء الآخر سيئاً أو العكس. وقضية المكانة النجومية الإعلامية ليست هي المقياس؛ أو لم تكن هناك مكانة إعلامية للملك حسين وابنه عبد الله وزعماء السعودية والخليج، والسادات ومبارك.. كملوك ورؤساء يمتلكون القرار والمال والجاه والسلطة والأضواء والتسابيح ويتحكمون برقاب الشعب ومعهم حاشيتهم من المثقفين والمبدعين.. وعلى الرغم من مكانتهم انتقدناهم وقلنا هم خونة ومن هم على شاكلتهم!
وقلنا أيضاً وما زلنا نقول عرفات خان القضية الفلسطينية وشعبها منذ أن اعترف بشرعية سرقة واحتلال الاستعمار الصهيوني للقسم الأكبر من فلسطين، متجاهلاً أن الكيان الصهيوني قاعدة استعمارية زرعها الغرب الإمبريالي.. وهنا نضع كل المثقفين والمبدعين الذين ساروا وراءه مباركين، في السلة نفسها، لأن فلسطين وثوابتها الشرعية والقانونية والحقوقية والتاريخية والأخلاقية والإنسانية.. أهم وأسمى من كل الأعلام التي فرطت بتلك الحقوق، ولا يمكن أن نغض الطرف عن مواقفهم المتخاذلة إن لم نقل الخيانية تكريماً لإبداعهم ومكانتهم وشهرتهم؟!
لقد انتقدنا سارتر ودريدا وغيرهما بل وفي عالم الغناء والرياضة انتقدنا مايكل جاكسون ومارادونا.. ولم نتستر عليهم مراعاة لمكانتهم في عالم الفكر والفلسفة والأدب والنقد أو الموسيقى والغناء أو الرياضة.. إن مكانتهم المهنية لا تمنحهم حصانة تابوية لا يجوز مسها.
ألم يقل سارتر بأن الإنسان موقف، إذاً بناء على ذلك يجب أن يتحمل المثقف أو المبدع مسؤولية اختياره لموقفه، وفلسطين وحدها تصدر الحكم النزيه؛ ثوابت فلسطين هي المرجعية للحكم وليست مواقف أولئك مهما علت مكانتهم ونجوميتهم، ولا قدسية لأحد إن تجاوز ثوابت القضية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه لا يعني ذلك مس إبداعه وعبقريته الفكرية أو الأدبية أو الفنية، ولكنه هو الذي أساء إلى مكانته وإبداعه!!
لقد أحببنا نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم قبل انتكاسهما السياسي والفكري، ولكن سقطت مكانتهما الوطنية والسياسية عندما باعا نفسيهما أولهما من أجل نوبل والثاني لإعادة السادات له وعيه المزيف بعد أن كان في غيبوبة (كوما) قبل سيده صاحب نظرية هدم جدار الخوف والقلق.. فما قيمة ما كتباه من أجل الوطن!
كما أحببنا إدوارد سعيد ومحمود درويش، ولكن تألمنا كيف صار يسيل دم اليهودي في دم درويش وكيف هو وسعيد يمنحان اليهود الحق في فلسطين على حساب شعبهم الفلسطيني، وكيف صادقا على أكاذيب الصهاينة في الحق التاريخي في فلسطين وأكذوبة الهولوكوست، وكأنهما لم يقرأا سوى أكاذيب الصهاينة وأيضاً العهد القديم الساقط تاريخياً وجغرافياً وأخلاقياً!!
أين الوعي العلماني والحداثي؟! وهل الحداثة وما بعدها وتبني أفكار بنيوية ألتوسير وأركيولوجية فوكو وتفكيكات دريدا.. تتطلب الخروج من ثوب الوطن!؟
نعم نعترف بمكانة محمود درويش الإبداعية الشعرية وكذلك مكانة إدوارد سعيد الفكرية، ولكن موقفهما من ثوابت القضية الفلسطينية متخاذل وخياني، نقول هذا بالفم الملآن ولا نبالي، لأن فلسطين هي التي يجب أن نراعيها وكذلك شعبنا الذي يجب أن نكون صريحين وصادقين معه لا أن نخدعه ونضلله بتلك الشخصيات ومكانتها، ولا يمكن أن نصفع القضية أو نكيل بمكيالين من أجل تلك الشخصيات النجومية!
إن وطنية الإنسان ومبادئه وأخلاقه عندنا هي الأهم من إبداعه مهما كان، ونقوّم (نقيم) أي مفكر أو مبدع أو سياسي.. من خلال وطنيته ومبادئه ومصداقيته وإخلاصه وأخلاقه.. لأن تلك المقاييس هي التي تمنح الإنسان إنسانيته المستلبة! أما إذا أردنا أن نتحدث عن مقاييس النقد الحداثية والإبداعية فهي مشكوك بأمرها لأنها مؤدلجة، وخاصة لصالح الإمبريالية والصهيونية، وليست حيادية كما يتوهم البعض فليس صحيحاً أن الفن للفن ولا النقد للنقد ولا الحداثة للحداثة!
كلنا يذكر بيان المثقفين المزيفين الذين أرادوا أن يظهروا أمام العالم المتحضر (!!) واليسار الصهيوني والعالمي (!!!) بالتقدم والحداثة والتغريب العقلي والفكري، والذي جاء في مقدمته: (لقد ارتضينا لأنفسنا العيش في خمس فلسطين التاريخية وارتضينا لكم دولة في أربعة أخماسها، وأن الاحتلال “الإسرائيلي” للضفة والقطاع هو آخر احتلال في التاريخ)! أليس ما يدعو للرثاء تلك اللغة التوسلية الاستجدائية الذليلة، وأليس مضحكاً أن يظنوا أنفسهم أنهم أصحاب قرار ووجاهة؟! وهل أرض فلسطين هي مزرعة لهم، وهم يتنازلون عن معظم أراضيهم المملوكة الشخصية؟! أليس واحدهم يقاتل بأظفاره وجفونه إن أراد أحد ما أن يسرق شيئاً من بيته الخاص أو مزرعته الخاصة؟!
فكيف نحترم أولئك ولو وصلوا إلى السماء نجومية؟!
ولا بأس من أن نعيد التذكير ببعض أسماء من لقبوا أنفسهم بالمثقفين ولا سيما وقد خالوا أنفسهم أنهم ممثلون عن فلسطين وعن الشعب الفلسطيني:
إدوارد سعيد ومحمود درويش وسميح القاسم وياسر عبد ربه وحنان عشرواي وحنا ناصر وفؤاد المغربي وسليم تماري وحسن خضر وعلي الجرباوي ومضر قسّيس وإصلاح جادو وممدوح نوفل ويحيى يخلف وسميح شبيب وريما حمامي وسعاد العامري وحسين البرغوثي وعزّت الغزاوي وفيصل حوراني وجميل هلال وزكريا محمد..
ويقال إن بعض من وقعوا على العريضة تنصل من توقيعه!!
وأضف إلى تلك القائمة قائمة دعاة الدولة الديمقراطية لشعبين وجماعة بيان برلين.. وكل الذين لم نذكرهم والقادمين الجدد إلى نهاية تاريخهم كتاريخ فوكوياما، ممن يمتهن الثقافة وهو حامل عقدة النقص فيعوضها – ليستعيد توازنه- بالحج إلى محراب سادته الصهاينة والأمريكان!!
وكلنا يذكر صفاقة الأكاديمي سري نسيبة عام 1985 في خطابه في “الجامعة العبرية” بقوله: (لن يعم السلام ولن تقوم دولة فلسطينية إلا إذا تخلى الشعب الفلسطيني عن مطلبه بالعودة إلى دياره، وأن الانتفاضة الملطخة بالدماء هي حالة من التشنج وليست ثورة شعبية..)!! وطالب الشعب الفلسطيني بالاعتراف بالروابط التي تربط اليهود بالأقصى!!
إن استعجال أولئك المثقفين حل القضية كيفما اتفق تحت شعارات جوفاء كالواقعية والظروف والإنسانية.. والتنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني وإعطاء الصهاينة الشرعية، يحمل في طياته إدانة لكل ثورات التحرر في العالم؛ وعلى سبيل المثال الثورة الجزائرية: فلماذا لم تكن واقعية وترى تفاوت ميزان القوى بينها وبين المستعمر الفرنسي، ولماذا ضحت بأكثر من مليون إنسان من أجل تحرير الجزائر؟ كان عليها بناء على أفكار المثقفين أولئك أن تتفاهم مع الفرنسيين وتتقاسم معهم الجزائر!!
ويمكن هنا أن نطرح سؤالاً يتعلق بعزمي بشارة: هل نقبل خطاباً منه وهو خارج الأرض المحتلة مشابهاً لخطابه عندما كان في الأرض المحتلة عام 48 وظروفها الصعبة والمعقدة؟! بالطبع لا، لأن بقاء شعبنا في الأرض المحتلة وتشبثهم بالأرض أعظم وأسمى نضال، ولكن عندما غادر عزمي بشارة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا حقه ولا نناقشه فيه، يجب أن يدعو خطابه ودون تقية أو مواربة إلى إزالة الكيان الصهيوني ورفض الاعتراف به ورفض التنازل عن ذرة رمل من فلسطين، وأن يجند فكره وثقافته مع الآخرين من الوطنيين في خدمة ثقافة المقاومة لتحرير فلسطين كل فلسطين، وهذا لم يحدث حتى الآن!
إن كل مثقف يدور في الفلك التفريطي التنازلي أو يقبل بمباركة ما من جماعة أوسلو الخائنة أو يتقبل منها الجوائز أو المنح هو في صف الخيانة. ولا يفيده شيئاً التلاعب على أوتار الكلمات الطنانة، لأن التطبيع الاختياري الحر مع من طبع واعترف هو صنو للاعتراف بالعدو وبشرعية اغتصابه واستعماره لفلسطين؛ وهو بالتالي مرادف دقيق للخيانة والتي تنطبق على كل مشاريع التسوية والسلام مثل مشروع الدولة والدولتين وأي مشروع يؤدي إلى التنازل عن ذرة رمل للعدو الصهيوني، والاعتراف بشرعية وجوده على أرض فلسطين!
يجب أن نميز بين النجومية الطبيعية الحقة والنجومية المرضية؛ فكثير من المثقفين والمبدعين يعانون من مرض اسمه اللهاث وراء الشهرة!
وهو من أمراض المجتمع البرجوازي؛ فبعضهم لا ينفك عن الحديث المستمر عن نفسه أو دوره أو ما حققه، ولا يكاد يخلو حديثه من رواية ذكرى ما له أو مقابلته لشخصية ما أو تذكير بكلام سبق وقاله.. هذا مرض النرجسة والغرور.. والنرجسي لا يرى إلا ذاته المعظمة!
ومثله أيضاً من يستغل القضية الوطنية كجسر، كأداة يلهث من ورائها نحو الشهرة والسمعة والنجومية، فهذا انتهازي براغماتي!
والأنكى من ذلك تفاقم هلوسة الشهرة عند البعض ولو كانت على حساب رسالتهم المفترضة كمثقفين واعين وطنيين!!
إن الذي يعمل بصدق وإخلاص من أجل وطنه وشعبه لا يبحث عن المجد الزائف ولا عن الشهرة والمظاهر والإشارة إليه بالبنان وكأنه محور الكون!
فما قيمة أن يكسب المثقف أو المبدع الشهرة الفلسطينية والعربية بل والدولية ونوبل.. ويخسر شعبه وقضيته؟!
ما قيمته المعنوية والنفسية والفكرية إن كسب شهرته ومكانته في دهاليز الأمريكان والصهاينة ويهود العالم، وفي الوقت نفسه خسر إرضاء شعبه، وأرضه الحزينة لأنها أنجبته!
المثقف والمبدع يبقيان صغيرين ما دامت عقد النقص المزيفة تسيطر عليهما وتدفعهما ليقفزا إلى النجومية مهما كان الثمن، والتي وإن بلغوها لن توازي نجومية المغنيات والممثلات والراقصات أو لاعب رياضي محترف! والكل يعلم أن تأشيرة الدخول إلى العالمية ونوبل أو نيل معظم الجوائز الدولية وترجمة الأعمال وطباعتها بدور النشر الغربية ولا سيما الأمريكية وجامعاتها.. كل ذلك يمر عبر بوابة الإمبريالية والصهيونية.
وهنا يفقد المثقف دوره الطليعي كمرشد وهاد للثوابت والقيم والحقوق الكاملة، ويصير مثقفاً مهنياً أي إتقانه لمهنته الثقافية مثل إتقان أية مهنة ما أو حرفة كحرفة البناء والحداد والدهان والنجار.. حيث رسالة مهنتهم هي إتقان مهنتهم ليعتاشوا من خلالها.
وكذلك يمكن القول هنا ذاك المبدع مهنته الإبداع، ذاك الشاعر مهنته الشعر.. ولندع مفاهيم خاطئة ومضللة في عالم النقد؛ فليس المبدع (الروائي أو الشاعر) ملهماً ولا نبياً ولا مرهف الإحساس والمشاعر ولا صوفياً.. فتلك صفات كاذبة ألصقها به نقاد طفيليون على الثقافة والأدب والفكر؛ فكم من مرة سمعنا وشاهدنا من أولئك الملائكة الروحانيين الشفافين ما يجعلك تقف مصدوماً من بذاءة اللسان وسوقية التعامل والغطرسة التافهة إضافة إلى تفاهة أطروحاته ومغالطاته المنطقية وغيبوبة منهجيته ورؤيته..!
وعلى هذا قس الذين يدعون الثقافة والإبداع وهم مرضى بؤر الأضواء والنجومية، فما هم إلا عبيد وخدم مهنيين للميديا والبروبوغندا، ولا فرق بينهم وبين المثقف المرتزق الذي يؤجر قلمه لمن يدفع!
ولن تتجاوز الثقافةُ المهنيةَ باتجاه إنسانية الإنسان إن لم تحمل رسالة وطنية مبنية على الثوابت والحقوق وتلتزم بها. والالتزام بفلسطين مدخل للعروبة والقومية ومن ثم مدخل لآفاق الإنسانية. وكلما ازداد الإنسان ثقافة حقيقية ازداد تمسكاً بالمبادئ والقيم والمثل وبقضايا شعبه، وازداد تواضعاً وأخلاقاً وتلاشت نرجسيته وذاتيته.. وهذا وحده الذي يثبت إنسانية المثقف والمبدع ويخلدهما في التاريخ.
وفلسطين المعتقلة والمصادرة هي قضيتنا العادلة، وهي مقياس الحق والخير والقيم والإنسانية. وثقافة المقاومة المؤمنة بتحريرها كلها، هي مقياس لكل الأطروحات والممارسات!
وكم نتمنى أن تتشكل جبهة للمثقفين الوطنيين الثوريين المؤمنين بثقافة المقاومة وتحرير فلسطين كلها، لتكون نبراساً لكل مثقفينا ولتحمي بعضهم من الانجرافات في وحول التسوية والتخاذل والاستسلام تحت شعار التقدم والحداثة والإبداع، ولتقف بحزم تجاه أنظمة الاعتراف والتطبيع ورموزها وتجاه المثقفين التسوويين من فلسطينيين وعرب ومسلمين وأجانب!!