التفاف لمنع الانتقال لنمط إنتاج أعلى
بادية ربيع
كنت قرأت شيئاً عن فتوى لرئيس قسم الحديث بجامعة الأزهر بجواز إرضاع المرأة لزميلها في العمل كي لا “يحلُّ” أحدهما للآخر، وذلك في مواقع إلكترونية قبل قرابة عام. احتفظت ببعضها لحين اصطياد بضعة ايام من الراحة لأكتب فيها. وها أنذا. لست بالقطع ذات خبرة في الأديان والفتاوى والاجتهاد الديني. ولذا، لن تكون قرائتي لهذه المسألة في نطاق المحاججة الدينية، لنفس السبب ولأسباب أخرى تدور في نطاق وجوب فصل الدنيوي عن السماوي، لأنهما بالقطع مفصولين.
وقد يكون أكثر ما يثيرني محاولات الكثير من المثقفين العضويين للمؤسسة الدينية، وهم بالنتيجة مثقفون عضويون للسلطة وليس للإله، محاولاتهم العودة إلى “السلف الصالح” أكثر حتى من عودتهم للنصِّ الديني نفسه. وهنا يستقوون على الواقع بالتراث وهذا تفكير لاتاريخي بالضبط. ويستقوون على الناس بالناس، وعلى المعاصر بالقديم، وعلى من لديه أفق معلوماتي ومعرفي محدود وقديم على من أصبحت المعلومة لديه هائلة ومجانية، وليس المطلوب لها سوى عقلٍ لا كسول. وحين يرغمون اليوم على قياس نفسه على الأمس، إنما يسيئون إلى الأمس الذي يبدو بنظر الباحث الحصيف متواضعاً مع اليوم. لكنها ليست خطيئة الأمس الذي مات، بل هي خطيئة الذي يُميت اليوم بحشره في الأمس.
لست بمغزى التقليل من ذكاء وقدرات القدماء، ولكنني من اتجاه عدم ظلمهم نظراً لشح القدر المعرفي لديهم من جهة، “ولأن أفضل سِنِي العيش حتماً هي التي ستاتي”.
ترتبط إثارة رضاعة الكبار حقاً بخارج المنزل، بمعنى أنها مرتبطة بالمكان الذي يتواجد فيه الرجل والمرأة معاً، اي بمكان العمل. وبالتالي، فإن مكان العمل هو سبب إثارة الموضوع الذي لكي يتقي من يرفضون اجتماع الرجل والمرأة “شرَّ” اختلائهما طالما هناك إبليس بينهما، بل رجل بين إبليسين. فما دامت المرأة مصدر غواية، وإغواء وفتنة، فهي بنظرهم إبليس ايضاً.
وأعتقد أن هذا الوصف للمرأة مؤداه ليس الحيلولة دون الغواية، بل مؤداه الحقيقي منعها من العمل لأن هذا قياساً مني على رايهم “يقلع السن ويقلع وجعه”.
قد تفيد هنا مقارنة موقف رجال الدين من العمل في أكثر من بلد ومنطقة. وهذا أمر لا يعود إلى المسألة الإيمانية والتقيد بنصوص الدين، فما بالك بالشرائع. بل يعود إلى متطلبات الواقع التي تملي بدورها على هؤلاء موقفا من عمل المرأة يرتكز على بل يخدم العمل نفسه. ولأن العمل مسألة اقرب إلى التجريد، فهو يخدم الطبقة التي تُدير العمل وتملكه. ففي المجتمعات الغربية، المتقدمة راسمالياً، يتحول رجال الدين إلى مثقفين عضويين “مباشرة أو مداورة ” للسلطة الحاكمة فيُفتون بوجوب أن تكون المرأة “كاثوليكية جيدة” تربي أطفالها وترضعهم حليبها، وهذا يقرِّبها من الله أكثر مما يقربها العمل. والأمر في الحقيقة هو وجود البطالة وقلة شواغر العمل وبالتالي فإن عدم تشغيل المرأة لا “يقربها إلى الله زُلفى” وإنما يقرب رجل الدين زُلفى إلى الحاكم والطبقة الراسمالية.
وقد يكون غريباً قياس الأمر نفسه على بلدان العالم الثالث بمعنى أن رجال الدين وهم يحضون المرأة على عدم العمل إنما هم مثقفون عضويون للراسمالية الحاكمة في المحيط أيضاً. كيف لا وبلدان المحيط في أزمة قبل وبدون الأزمة، ولذا، فإن تشغيلها، أو مطلبها للشغل هو مصدر صداع للطبقات الحاكمة.
وتكون المرأة طالبة العمل مصدر صداع حقيقي للسلطة والملاَّك حين نعرف أن هدف السلطة في بلدان المحيط هو عدم تطوير بلدانها. فالدائرة الشيطانية في البلدان العربية مثلاً، هي قيام السلطة/الدولة بربط الناس جميعا معيشياً بها. وغالباً عبر جهاز بيروقراطي توظيفي خدماتي غير تنموي ولا إنتاجي. وفي وضع كهذا لا تتوفر فرص عمل للنوعين من عمر العمل، فيتم فرز المرأة للمطبخ والمخدع والإنجاب الذي بدوره يقود إلى خروج أعداد كبيرة سنويا إلى سوق العمل المحصور، مما يزيد وجوب حصر المرأة في المطبخ. ويساعد الدول العربية على هذا وجود الريع الذي يشكل بئراً يغرف منه الحاكم ويرش على رعاياه، وعندها لا داع كي يرش على “حريمهم”. ولأن نسبة التعليم في الوطن العربي تزايدت إلى حد ما بين النساء، صار لابد أن يطالبن بالشغل.
وهما ينبري رجل الدين ليكون المثقف العضوي للنظام فيبدأ بالافتاء بمخاطر ومعايب شغل المرأة طالما هناك رجالاً. وهو في الحقيقة إنما يدافع عن النظام الذي يحتجز التطور والتصنيع لأن في هذا مدخلا للمطالبة بحريات حتى ولو بالمفهوم البرجوازي.
ولا شك أن هؤلاء المثقفين العضويين للأنظمة الماقبل عصرية، والبطريركية، هم مستفيدون من بقاء هذه الأنظمة، لأن اي تطور أو تقدم اقتصادي، قد يتطلب مثقفين مختلفين، يكونون على الأقل اقدر على خدمة النظام في تصديه لمطالبات مختلفة من الحقوق. أي ان بقاء المجتمع في دوران على محوره، هو حال ممتع لهؤلاء المثقفين الذي يتحولون حالة من إعادة إعادة إنتاج المجتمع لنفسه ودورانه على محوره.
بقي أن أشير إلى أن من كتبوا حول هذا الأمر عبر إثارة حجج دينية أو شرعية لمواجهة حجج المشايخ، كما فعلت د. رجاء بن سلامة، إنما وضعوا أنفسهم على نفس أرضية المشايخ وذهبوا لاستدعاء النصوص، وليس الواقع الموضوعي، ولا إخال أنهم كاسبون.