جمال محمد تقي
هل الفكر الديني ينتج نمط اجتماعي اقتصادي وبالتالي ثقافي ام العكس؟
عند البعض نعم الفكر الديني هو الذي ينتج نمط اجتماعي اقتصادي، وعليه فهو يصل الى نتيجة تقول ان الفكر الاسلامي هو الذي يعيد انتاج الحالة الاجتماعية الاقتصادية التي نعيشها!
ثم يبني على معادلته المقلوبة هذه استنتاجا يقول ان تنحية الاسلام عن الدولة والمجتمع تماما سيجعل مجتمعاتنا متطورة ومتجاوزة لتخلفها ومنتجة للحداثة!
لكن عند علماء الاجتماع المعتمدين ـ كسبنسر وفرويد وتحديدا عند كارل ماركس فان الانماط الاجتماعية الاقتصادية هي التي تشكل الوعي الذي يناسبها او تحور ما ترثه ليلائم متغيراتها بما في ذلك شكل التصورات الدينية!
رغم تاكيدهم على ان الدين يستغل طبقيا واجتماعيا لخدمة الارستقراطيات الحاكمة وهو بالتالي سيكون مصدر من المصادر التي تأمن القهر الطبقي القائم!
فاذا ما نظرنا للحروب الصليبية من باب الدلالة والمقاربة سنجد انها تخفي في جعبتها دوافعها الحقيقية للغزو وهي بكل الاحوال ليست دينية، رغم الثوب الديني الذي ظهرت به، فهل الفكر الصليبي هو الذي حرك الحملات العسكرية لغزو بلاد المسلمين ام ان الاقطاع الاوروبي كان الدافع الحقيقي الذي اطلقها مستخدما الصليب كغطاء لاطماعه التوسعية الاستكشافية للاستيطان والاثراء؟
ثم اذا نظرنا للسياق التاريخي الذي جاء به الاسلام فاننا نجده كحركة اصلاحية اجتماعية سياسية فكرية شاملة مؤطرة باطار الدين، الاسلام اصلح ما كان قائما ولم يغيره جذريا اي بمعنى انه لم ياتي بنظام اقتصادي اجتماعي جديد، نظام طبقي جديد، وهو بذلك لم يشذ عن المسيحية واليهودية، انه مثلا لم يلغي نظام العبيد وتملكهم، لا بنص قرأني ولا هم يحزنون، لكنه حرم الربى، وحرم الميسر ـ القمارـ وحرم شرب الخمر واكل لحم الخنزير ـ كما فعلت اليهود من قبله ـ وحرم اكل الفطائس والدم، اي انه شرع ما يجعل المسلمين على مستوى اجتماعي واخلاقي وصحي ايجابي وقتها، وحرم عمليات وئد البنات التي كانت سائدة عند قبائل العرب قبله، ونظم ووحد اشكال الزواج القائمة وقتها ـ الاستبضاع، زواج المقت، زواج المتعة ـ وجعل الصلوات خمس موزعة على ساعات اليوم الواحد ليكون المسلمين على جهوزية لمواجهة المخاطر المحدقة بهم، انه نظم حياة المسلمين وجعلهم اكثر قوة وتماسك، لكنه لم ياتي لتصفية القبلية مثلا كنظام اجتماعي متكامل ودوار حول نفسه، والذي ظل يرافقه وعلى طول الخط حتى وقتنا الحاضر وبنفس الاطر الاقتصادية الاجتماعية القائمة، نمط اقتصادي اجتماعي بدائي تنطبق عليه دراسات دورات العمران البشري لمؤسس علم الاجتماع الاول ابن خلدون ـ البداوة والحضر ـ!
لقد وحد الاسلام جزيرة العرب بنظام سياسي ايديولوجي واحد ثم انداح للتوسع ناشرا ايديولوجيته باحكم قانون القوة السائد، وفي ظل الضعف الشامل لامبراطوريتي ساسان وبيزنطة!
الاسلام لم ياتي من فراغ وانما انتجته جملة الظروف الاجتماعية الاقتصادية الثقافية التي كانت سائدة والتي وصلت الى مرحلة تتطلب تغيير فوقي ينسجم مع التراكمات النوعية التحتية الحاصلة، فالاسلام بنظامه الضريبي الاول المخصص لبيت المال ـ الزكاة والصدقات والجزية ـ وضع نهجا اصلاحيا لقيام دولة تحاول التخفيف من حدة التمايزات الطبقية التي كانت قائمة، وهي لم تمس جوهرها، بدلالة انتقال امتيازات ارستقراطيات القبيلة الى صدر الاسلام وامارته، اما بعد الفتوح فكان هناك اضطراب ضريبي سببه غياب القواعد المنظمة له والتي حاول الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب وبزهد ظاهر مراوسته ليكون خلطة بين ما كان سائدا قبل الفتح وبين نزعة التيسير الاخلاقية التي اتخذها الاسلام كراية لانتشاره الاول، فكانت الضرائب وتحديدا خراج الارض المزروعة والبساتين والدواب ليست بالجائرة ويمكن احتمالها في بدايتها، لكنها تضاعفت بعد ان عادت نفس الارستقراطيات العربية للحكم مجددا وبدون اي نزعة اخلاقية هذه المرة ـ حكم الدولة الاموية ومقدماته التي تاكدت في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وتواصلها بل تكاثفها عند الامويين ومن ثم العباسيين ـ حتى لم تعد هناك فروقا جوهرية بين النظام الضريبي الذي كانت تسير عليه الامبراطوريات الساسانية والبيزنطية وبين نظام الامبراطورية الاسلامية واحيانا تجاوزتها عسفا وهذا ما جعل الانهيار قادماً لا محال، عليه كانت الثورات الاجتماعية والاضطرابات مستمرة في الامصار الاسلامية والتي لم تنقطع طوال التاريخ وهي في جوهرها ثورات ضد التعسف الضريبي القائم واغلبها كان ينادي بشعارات الرحمة والعدالة التي جاء بها القرآن نفسه، وبعضها كان يرفع شعارات ايديولوجية نابعة من تراثه القديم ـ كالبابكية المستندة للديانة الزرادشتية ـ وما الثورات الداخلية الاولى ـ ثورات ال علي والزبير ـ الا تعبير عن صراعات على السلطة بشعارات اصلاحية تحمل ارث الصراع القبلي القديم بين افخاذ قريش ذاتها والتي لم تكن الاثار الطبقية عنه غائبة!
الاسلام جاء بحلف قبلي يقوده بنو هاشم وبشعارات اصلاحية معروفة لكن بني امية وارستقراطيتها المتمرسة عادت لتخطف الحكم ثانية وباسم الاسلام نفسه حيث جرى التخلي عن محاصصات الحلف وتفردت بالحكم، وراحت تجابه اي معارضة لها بالحديد والنار، اما في الفترات المتاخرة فكانت ثورات الزنج والقرامطة وثورات الامصارعموما هي تعبير كبيرعن عمق الاستغلال الطبقي الذي كان سائدا وساهمت هذه الثورات بنخر امبراطورية الخلافة وسقوطها تماما وتجزئها لاحقا على اثر الغزوات المغولية والتترية، لنشهد لاحقا حقبة جديدة هي سيطرة القبائل غير العربية على الحكم بايديولوجية الاسلام نفسه، اي اصبح الاسلام مجرد راية يستخدمها كل قادم للحكم لا غير.
اصبح وضع الاسلام، كالقماش المنسوج بنقشاته المعروفة والذي صارت تفصله طبقات الحكم والمعارضة على مقاساتها، وبما تمليه عليها مصالحها الاجتماعية الاقتصادية التي نجملها عادة بالطبقية، حتى القرامطة الذين يعتبرون تاريخيا اعمق الحركات المعارضة فكرا وممارسة بحيث لقبهم البعض بشيوعيي الاسلام وهم الذين اقاموا نظاما لا يمت بصلة لا لقريش ولا لتحالف قبائلها واقاموا حكما مشاعيا متقدما بديمقراطيته على جمهورية افلاطون، حكما خالي من نظام السادة والعبيد، حكما المرأة فيه على قدم المساواة مع الرجل، حتى هؤلاء رقعوا نسيجهم بقطع من قماشة الاسلام لانهم وجدوا فيه ما يلائم تطلعاتهم تاويلا وقياسا، وليس نقلا ونصا!
بهذه العناوين، الاسلام كنظام دولة انتهى منذ نهاية الخلافة الاولى، وما صار بعدها هو حكم امبراطوري لا يختلف عن الامبراطوريات الاخرى في التاريخ ـ واليات العلاقة بين المركز والاطراف فيها ـ والتي كانت هي ايضا بايديولوجيات اخرى!
ان ظهور المذاهب الاسلامية الرسمية وغير الرسمية هو تعبير صارخ على مدى انفصال الدين الاول اي القرآن والحديث والسيرة عن مسارات الدولة الامبراطورية، والتي كان لها شيوعا وتنوعا، فالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والايباضي والزيدي والجعفري، كانت بمثابة تكييفات للتنفس الايديولوجي الذي اصبح عسيرا كلما ترامت رقعة الامبراطورية وتنوعت مشكلاتها!
الدولة في مجتمعاتنا تتمتع بخصوصيات تتفوق نوعيا على خصوصيات الدين عندنا وعلى تاثيره في التجاذبات والصراعات الاجتماعية وبالتالي على وجهتها، فتاريخ الدولة في مجتمعاتنا تاريخ سحيق يمتد الى اكثر من ثلاثة الالف سنة قبل الميلاد اي الى اكثر من ضعف الفترة الزمنية للاسلام وظهوره وهي دول امتازت بمركزيتها الشديدة قامت في الحضارات النهرية القديمة ـ انها المسؤولة عن تنظيم الري وبالتالي عن الحياة والموت لنمط المعيشة السائد ـ بناء السدود لمنع الفيضان، رفع مستويات المياه للري والشرب، اضافة الى وظائفها التقليدية، الدولة عندنا مالك شامل للارض، وكتكوين سياسي عسكري فائق الهيمنة، انتج في الواقع الاجتماعي وفي وعيه مسألة قد تكون غائبة عن الكثير من علماء وباحثي علم الاجتماع الاكاديميين الممارسين العرب، لكننا نجدها حاضرة جدا في البحوث اليسارية العربية وبمتانة عالية، لانها محاصرة ولا يتاح لها الانتشار، بل هي تحارب من قبل الرقابة التي تخشى من سيادة العقل النقدي كي لا يكون محفزا للثورة الاجتماعية والسياسية، انها مسالة ملكية الدولة لكل شيء في مجتمعاتنا!
بعد ظهور الراسمالية في منطقتنا لعبت الدولة الدور الحاسم في حمل مهمة التحديث الراسمالي للعلاقات السائدة وعندما استقامت الامور لها على هيئة راسمالية دولة اكتسبت قوة عمودية هائلة جعلتها اكثر قدرة على التمدد والتمادي، الراسمالية كنظام اجتماعي اقتصادي له وجه سياسي يحكم الدولة ومؤسساتها مثله مثل الانظمة التي سبقته ـ العبودي والاقطاعي ـ لكنه يمتاز عنها بان له مجتمع مدني يوازي مجتمعه السياسي ـ الدولة ـ ليوازن فيه ايقاع الحركة الاقتصادية الاجتماعية التي تستند على الفكرة الليبرالية، لكن في مجتمعاتنا مجتمعات راسمالية الدولة المالكة لكل شيء حتى ارواح البشر فان المجتمع المدني الذي يوازيها كان ضعيفا ومهتكا ومثقل بالعلاقات القبلية والطائفية مع تشابكه ببقايا العلاقات شبه الاقطاعية واستمرار شكل الانتاج الراسمالي البسيط ـ فلاحي صغير في الريف وانتاج حرفي في المدينة ـ هنا يقول فالح عبد الجبار وهو باحث يساري مجتهد : ” التوازن بين المجتمع السياسي ” الدولة ” والمجتمع المدني كان يسير في اتجاهين متناقضين، فبمقدر ما كان الدور الراسمالي للدولة يمضي قدما، كانت الدولة تزداد قوة وشراسة في عين الوقت مفضية تاليا لبروز انظمة الحزب الواحد.. ” وفي مكان اخر يقول : ان دور الدين شيء ودور الحركات السياسية الاسلامية شيء اخر وان الخلط بينهما اجراء فاضح منهجيا وعمليا.. لقد قسم اسلافنا العظام بشكل مضمر الفكر الديني الى عناصر عديدة هي:
اولا : اعتقادي ـ ايماني، اختص به علم الكلام : الذات الالهية، مسالة الصفات، التنزيه، التجسيم او التشبيه، الاتصال بالذات الالهية عن طريق المعرفة ” الاتصال ـ الاتصال بالعقل الفعال ـ او عن طريق التصوف ـ الاتحاد، الحلول؛
ثانيا العناصر الاقتصادية الاجتماعية ـ الاخلاقية التي اختص بها الفقه ـ فقه المعاملات؛
ثالثا عناصر العبادات التي كرست لها كل المذاهب نواظم وشروحات، نجد هذا التقسيم حتى عند مؤرخي الفرق الاسلامية المعاصرة ـ ابو زهرة مثلا ـ الذي يقسم الفرق الاسلامية الى ” التي بلغت 73 فرقة حسب البغدادي” فرق سياسية واعتقادية.
الخلاصة هي عدم الخلط بين الدين ككيان ابستمولوجي ومؤسساتي، في تاريخه المتطور وبين الحركات السياسية الاسلامية المعاصرة التي هي احزاب سياسية صرفا “!
اذا اطلعنا على اغلب الدراسات اليسارية المتعلقة بالتاريخ الاسلامي او الحركات الاسلامية السياسية المعاصرة سنجد تحليلات وافية وبحوث تضع الاصابع على الجروح لكن المشكلة في الذين لا يقرؤون. هذا البروفيسور حنا بطاطو كتب اروع ما يكون عن الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية في العراق هل تصفحه شامل عبد العزيز مثلا؟ هل اطلع على كتابات حسين وكريم مروة، هل اطلع على كتابات مهدي العامل، هل تصفح كتاب وعاض السلاطين لعلي الوردي؟
ان اضمحلال الدولة وبالتالي اضمحلال ما يوازيها من مجتمع مدني يفترض عمليا وعلميا ظهور تشكلية اجتماعية اقتصادية جديدة تلغي الانفصال القسري القائم بينهما كما تلغي نهائيا الفوارق بين العمل العضلي والذهني وبين الريف والمدينة وبين المراة والرجل، لتنهي والى الابد ظاهرة الاغتراب بين المنتج والمنتوج وبين الانسان ونفسه، الى حيث افاق الحرية الكامنة خارج طبقات الارض والسماء انه المجتمع اللاطبقي مجتمع المشاعة الواعية مجتمع التسيير الذاتي بدوافع مدغمة فيها الذات والموضوع!
يقول جان جاك روسو : فرد يملك كل شيء = ملكية مطلقة، ومجموعة تملك الكثير = حكم ارستقراطي، الكل يملك = ديمقراطية!
هيجل يقول : انسان واحد حر = دولة مستبدة، بعض الناس احرار = دولة ديمقراطية العبيد، كل الناس احرار = دولة ديمقراطية حديثة!
ابن خلدون يقول : ان العلوم العقلية لا تسلم بالمنقول من الشريعة والسلف.. واذ يؤكد على ارتقائية المعرفة فيطرح ثلاث مراتب في عقل الانسان هي : العقل التمييزي، العقل التجريبي، العقل النظري ومن هنا فهو يعتبر علم الاجتماع البشري وتاريخه هوعلم عقلي صرف!
عام 1513 كتب ميكافيللي كتابه الشهير الامير، حيث دشن فيه عملية الطلاق بين السياسة والاهوت، منطلقا من واقع جديد اخذت تفرزه البنى التحتية الجديدة، تفسخ الاقطاع وبزوغ الوليد الجديد من رحمها الراسمالية، وراح يقول ان السياسة تناقض الدين من حيث هي قوة للخداع وخداع للقوة، وانها بريئة من اي التزام اخلاقي، اخلاقها الوحيدة هي ان الغايات تبرر الوسائل ومهما كانت قبيحة!
نعود الى موضوعنا :
هل استكملت عندنا كل لوازم ـ التغييرـ التطور الاجتماعي ولم يتبقى منها سوى العامل الديني حتى نقول ان الاسلام هو العائق الاول والاخير؟
وحتى نجيب بدقة على التساؤل اعلاه علينا ان نتفق ماذا نقصد بالتغير الاجتماعي؟
هل نقصد به العادات والتقاليد، او نمط العيش، ام التشدد والتطرف، ام التخلف بكل انواعه؟
اذا قصدنا كل هذه المعاني وتحديدا الاخيرة ـ التخلف بكل انواعه ـ فانه يكون من الادق استخدام مفردة التطور لان مفردة التغير يمكنها ان تشمل الكم او النوع بالسالب او الموجب، ولكن مفردة التطور تعني النمو الكمي والنوعي الايجابي!
امعانا بالدقة نقول ان سيادة الفكر الديني على الدولة والمجتمع ووصايته تساهم وبقدر كبير في اعاقة تطور اي مجتمع كان!
الخلاصة
الاسلام كدين ـ ايمان، وكحركات سياسية هو ليس خارج السياق التاريخي السائد في مجتمعاتنا وهو بالتالي يتاثر ويؤثر بطبيعة التطورات والصراعات الطبقية القائمة، والجزء السياسي منه تحديدا هو تعبير عن مصالح طبقية قائمة وتمارس الحداثة السياسية بمظاهر دينية اي انها تستخدم هذه المظاهر وتجير ما تراه مناسبا لها من احكام دينية لخدمة وجودها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وهي بذلك تستغل الدين اسوأ استغلال.
مهمتنا كعلمانيين اصلاء ويساريين مبدعين تجريد الاسلام السياسي من اسلحته الاعتقادية وذلك بعزل الاعتقاد عن الدولة وجعله علاقة فردية خاصة، اما الغلو والتطرف او العمل على تكتيل الاعتقاد بسياسة الاسلاميين واصحابها والدعوة لاقصائهما واستاصالهما فهي دعوات تعطي نتائج عكسية بل انها تصب لمصلحة الاسلام السياسي نفسه، وهنا تنطبق مقولة التقاء وتخادم التطرفين اليساري واليميني على واقع التطرف العلماني والسياسي الاسلامي!