د. عادل سمارة ـ رام الله المحتلة
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 2107 )
دخل الأرض المحتلة بهدوء، لم يشعر به أحد، لم يتفاخر بأنه ترك مشغله للراديو والتلفزيون في بغداد لأخته التي لم تتمكن من إدارته، وعاد إلى الأرض المحتلة، ولم يدر أحد كيف كان يتدبر قوت يومه في قريته بيتونيا التي غادرها منذ زمن. كما دخل بهدوء، وعمل بنشاط هادىء، رحل أيضاً بهدوء ولكن خارج الوطن الصغير، رحل إلى الجناح الشرقي للنهر (نهر الأردن ويسمى الشْرِيعة) الذي طالما قطعه عَوْماً مع رشدي ديدح ومجاهد الذي ذات مرة مشى حافياً من النهر حتى رام الله ومع غيرهما.
هو خلف حسين نصار من بلدة بيتونيا، عرفناه حين انضم إلينا في محاولة المقاومة في أعقاب هزيمة 1967. انضم إلى إحدى مجموعات الجبهة الشعبية آنذاك. كان شديد الهدوء تماماً كالقنبلة الموقوته، فهي باردة ولكن دفعة قوية سوف تنكشف عن انفجار هائل. في مختلف نقاط التفتيش في الأشهر الأولى للاحتلال، لم يرم المسدس عن خاصرته تحت الجاكيتة الخضراء التي كان يرتديها كما كان يعتمر كوفية حمراء، نعم كان شتاء 1967. وحده من بيننا الذي مر على نقاط التفتيش ومسدسه الصيني الصنع على خاصرته. قالوا لنا اسم المسدس “دوكريف” ونحن أسميناه ماو.
“فلان” كان منا في حركة القوميين العرب، وكان خلوقاً ومنتظماً وهادئاً، فلان نفسه الذي شعر باسترداد شرفه حينما قُتل أخوه، وكان أبو الوفا ممن خططوا لذلك. جرى اغتيال أخيه الذي انتظم باكراً في صفوف العملاء. وفلان هذا أفحمني وأحرجني، فقد تمكن باكراً من الفصل المطلق بين علاقة الأخ والواجب الوطني. فلان هذا بعد اعتقالنا يوم 15-12-1967، أي مثل هذا اليوم “الجميل”، أُخذت للتحقيق بعدها بضعة أيام إلى دائرة الصحة في مدينة البيرة التي حولها الاحتلال إلى مخفر للشرطة (الذي يقع بين مركز بلدنا الحالي ومدرسة الفرندز للذكور). كنت مكلبشاً بكافة أنواع هذا النوع من الِحلِيْ. وأُجلست بعد جولة تحقيق قام بها الضابط جولان، عراقي الجنسية أصلاً، أُجلست في الليوان الذي تحيط به الغرف.
يا للهول، أنا في الطرف الشمالي للليوان، وفلان في الجنوبي، هادىء وعادي. توقعته أن يبكي أو ينفعل. وإذا به يلتقط لحظة غياب الشرطة ويرفع لي قبضة يده بمعنى: إصمد!!
لم ينكشف ابو الوفا حين اعتقالنا.
بعد ثلاثة شهور، وكنا ما نزال في الزنازين والإكسات، كنت أمشي من الزنزانة إلى وحدة الحمامات، وورائي الجندي الصهيوني. أثناء الانتقال كنا نمر أمام ثلاث غرف للمعتقل برام الله، أبوابها من القضبان، ولمحت خلف – أبا الوفا داخل الغرفة، كان يقف في زاوية بحيث أراه ويراني. من جهتي اهتز بدني تماماً، لكنه أوصل الرسالة حين جاءت عيني تعانق عينه كزَّ على شفته السفلى، فأدركت أنه لم ينكشف. أية لغة هذه يطورها الإنسان حسب المكان. بعدها تمكن من اخبار أبو سليمان بأن يطمئنني بأنه أتى في لمَّة عادية إثر استشهاد الشهيد يوسف العَبَدة من بيتونيا في بيتونيا. أبو سليمان من بيت عور التحتا كان قد اعتقل مع 30 رجل من كبار العمر بتهمة المعرفة عن بندقية. أبو سليمان كان صديق أبي ويعرفني جيداً. كان هادئاً إلى درجة البرود الدبلوماسي، ولأن تهمته بسيطة كان يُسمح له وللشيوخ ببعض الحركة، ذات يوم وأنا أمر من باب الغرفة ناداني:
تعال يا عدنان ـ هذا اسمي في قريتي ـ هات سيجارة، وأطلق لي السر بأن أبا الوفا نظيف، صاح الشرطي واسمه “حكشر” كان يكرهني بشكل خاص: يا لله ولا يا ابو عرص، هكذا كانوا يسمونني. ومشيت سعيداً سعادة أبي نواس الذي وصل حد أن “يرى الديك حماراً”.
أُطلق سراحه بعد ثلاثة أسابيع، لكن يبدو أنه استشعر أن لديهم عنه شيئا ما. فغادر إلى عمان.
كان هو وفرقته كلما دخلوا في دورية إلى الوطن يختلق الفرصة ليزور حليمة، أمي، ويطمئن عليها.
دار الزمان، واقتُلعَت المقاومة من الأردن، وذهب معها وعاد بعد التسوية إلى الأردن.
حاولت زوجته كل وسيلة لعودته، ولكن لا سبيل.
سألتني ذات مرة إن كان بوسعي المساعدة في ذلك.
ضحكت ضحكة باكية، فلا أنا من ذوي الوساطات، ولا حتى لي حقوق المواطن العادي لا لدى سلطة أوسلو ولا الاحتلال، بل بعد أوسلو قررت أخذ الجنسية الأميريكية كي اتنقل إذا ما اقتلعتْ. فزوجتي عناية قضت 33 عاماً وهي زائرة في بلدها، تخرج كل ثلاثة أشهر لتجديد إقامتها.
وظل أبو الوفا في عمان.
قبل أيام ذهبت إلى بيت أهل زوجتي في بيتونيا مع صديقين يبحثان عن مكان للإيجار ليروه، دون أن يعرفا أنه لزوجتي. زوجة أبي الوفا جارة المنزل، عرفت من أحد الصديقين أن أبا الوفا قد رحل قبل ستة شهور.
للوهلة الأولى حسبت أنه رحل قبل أسابيع، أي حين كنت في سفر. لكني تاكدت أنه رحل بينما كنت أنا في رام الله.
لم أسمع ولم يقل لي أحد ولم أنتبه للصحف. لقد شعرت بالعار من نفسي! وتأكدت أن الذين ابَّنوه لم يعرفوه كما هو! قد أكون مخطئاً!
وهكذا، رحل أبو الوفا بهدوء، كما دخل بهدوء، وكما ناضل بهدوء. ولأنه هكذا، لم يُطبِّع الاحتلال معه، فمنع دخوله الأرض المحتلة حياً وميتاً.
أيها الناس،
إذا كان أحد لم يقتنع أن الاحتلال هنا، وأن الاحتلال هو المقرر المطلق لكل شيىء هنا، فليتفضل بدل أن يقدم طلب تصريح لنقابي عربي ميت ليزور الأرض المحتلة، فليحضر تصريحاً لأبي الوفا الحي ليأتي ويستريح جثمانه هنا.
هل يستطيع؟