التمرد… والثورة

التمرد… والثورة

أحمد حسين

 

        يختلف التمرد عن الثورة في أن التمرد يتوقف عند استبدال نظام أو شخص معين بغيره، بينما الثورة تقوم لتأسيس نظامها البديل الذي يتجاوز إلغائيا، طبيعة وفلسفة ودستور الحركة الإجتماعية القائمة. ألتمرد حركة في إطار القائم، قد تكون أحيانا، مجرد انقلاب شخص على آخر، أو فئة على أخرى. وهي في أفضل تجلياتها تغيير في الدستور، لتعديل أوضاع اجتماعية بالغة الإجحاف أو الفساد. بينما تتحرى الثورة تلك الأعراض المجحفة والفساد المستحكم، في أسبابه الإجتماعية والسياسية الأعمق من أجل تحديد نظامها البديل، على طريقة استئصال المرض وليس تخفيف أعراضه.

        وفي عصر الإستبداد العالمي الذي نعيشه، تتجذر علاقات هذا الإستبداد وتتكامل في الأداء، إلى درجة أن أي مظهر له في أية حركة اجتماعية محلية، لا يمكن فهمه إلا أنه امتداد مباشر لعلاقاتها بالنظام السياسي والإقتصادي للمركز الدولي الإمبريالي. كل ظاهرة استبداد أو فساد محلية، هي امتداد شرياني من المركز. وكلما كانت الشخصية الإجتماعية لشعب من الشعوب أضعف، كان عليه أن يدفع ثمنا أكبر عن وجوده لذلك المركز. وهذا هو انعكس اجتماعي للقانون الطبيعي، حول ملء الفراغات الأكبر بحضور مادي أو معنوي أكبر. وبالمقابل فإن مدى استقلال المحلي، المادي أو المعنوي، عن المركز الإستبدادي العالمي، ينعكس على شكل استبداد أقل، يعني في النتيجة، خبزا أكثر وحرية سياسية واجتماعية أكبر، وذات الأمر معكوسا.

        وتعتبر المنطقة العربية بلوجستياتها النظرية المتميزة، وضعفها الإجتماعي المذهل، نموذجا لأسوأ علاقات الإستبداد الإمبريالي المركزي. يكفي أن نقول أن كل الشعوب العربية، بشهادة الوقائع، مستباحة استبداديا أكثر من أية شعوب أخرى في العالم. مستباحة اقتصاديا وسياسيا

        وإنسانيا. ونستطيع القول بدون مبالغة، وبشهادة الوقائع أيضا، أن الإستهانة بالوجود العربي بلغت في المركز الإمبريالي العالمي، حد استهداف الدم والكرامة الإنسانية، كمشروع للتدنيء المعنوي. وبهذا الصدد يكفي أن نذكر أن العراق أبيد بكل معنى الكلمة، وأن الإجتماعية العربية ساهمت بخصائصها التكوينية في ذلك. ليس بالصمت فقط، وإنما بالمساهمة العملية، والتمصدق الثقافي لعجول الدين واللبرالية العربية.

        لنتصور فقط، أن الشعوب العربية كانت في وضع آخر، واستطاعت أن تحمي 50% فقط من ثرواتها، وتتنازل عن الباقي لأمريكا، ثم تقيم بها مشروعا للتنمية تحت المظلة الأمريكية، فهل كانت الأوضاع ستكون كما هي عليه. لماذا لم يحدث ذلك؟ إنه ليس طموحا أكثر من متواضع، ومع ذلك فإن أمريكا لا تستطيع السماح به، لأن مشروع العولمة الأمريكي الصهيوني، يريد منطقة شرق أوسط، خالية من العرب قوميا وتنمويا، وليس شرق أوسط مع إشكال قومي عربي على أي مدى محتمل. هل سأل الشباب العرب أنفسهم لماذا، عند تحديد أهدافهم الثورية؟ لأن الحضور العربي يجب أن يبقى تحت السيطرة الكاملة أمريكيا، لمنع المشروع النظري لحضورهم القومي، الذي يعني أمة قوية في أهم منطقة في العالم.

        إذا كان الوصف المقدم ينطبق على حقيقة المعاينة، فكيف يمكن أن تطالب أية ثورة عربية شعبية، ليست قيد الفكفكة المضادة، بأقل من تحقيق الذات القومية التحررية، كبوابة وحيدة للإستقلال عن الإستبداد الأمريكي، الذي يقف حائلا بين العرب وبين مشروعهم في الحياة، وحرية تشخيص ذاتهم التاريخية؟ ليس هناك ثورات ذات جدوى في العالم العربي، إذا لم تحدد موقفها وطنيا على الأقل. فلماذا لا تحدد الثورات القائمة توجهاتها ومواقفها من أمريكا بوضوح لا يقبل المساومة؟ من يظن أن التحرر الإجتماعي ممكن بدون التحرر من أمريكا سياسيا على الأقل، هو إنسان ناقص العقل وليس الوعي فقط. إذا اختارت الشعوب العربية وطنياتها الخاصة، فيجب احترام ذلك بدون تردد، ولكن الإستهداف هو استهداف إقليمي مصدره معروف وأخطاره معلنة. وجوهر الإستهداف الإقليمي لأمريكا، ويا للسخرية، هو توحيد كل الإقليميات العربية في المشروع الإلغائي الأمريكي. فلماذا ليس هناك رابطة إقليمية وطنية في التصدي الإقليمي ما دام الإستهداف المعادي إقليميا موحدا. ليس الصراع من أجل الحرية الإجتماعية في أي بلد في المنطقة سوى صراع مع أمريكا والصهيونية العالمية، فكيف يكون صراعا ثنائيا متعددا في الأهداف؟ ألعدو واحد، وأهدافه إقليمية واحدة، فما معنى تجاهل هذه الحقيقة، وعدم رفع شعار العداء الموحد لأمريكا، من جانب الثورات ثنائيا أو إقليميا أو قوميا، سوى أن الطابع الثوري الشعبي أصبح يتراجع لصالح التمرد العابر؟ إنه لمؤسف ومحزن معا، أن لا تستطيع الثورات العربية، حتى وطنيا أو إقليميا إدراك الضرورة الموضوعية لرفع وتوحيد شعار العداء لأمريكا، ولو من منطلق موضوعية مقابلة مفادها أن أمريكا عدو موضوعي للجميع، ومن منطلق تعبئة الوعي الشعبي حول حتمية الثورة الكاملة، كي لا يترك جسدا بدون أية مناعة، أمام فيروسات وجراثيم الثورة المضادة.

        منذ متى كانت أمريكا حريصة على الدم العربي، والتحرر العربي، والإنسان العربي؟ هل يتحول النسيان لدينا إلى عمى؟ كلينتون تبدو كمذيعة في قناة الجزيرة، وهي تتحدث عن عدم استطاعة أمريكا السكوت على قتل الشعب الليبي على يد القذافي، أو التخلي عن مساندة الشعوب العربية في شعيها المشروع إلى الديموقراطية والإصلاح، كما سبق ودعمتها في العراق ولبنان والصومال، وكما تدعم الشعب الأفغاني ضد نفسه. الا يجب على العقل العربي بالذات، أن ينفجر أمام هذا المشهد العبثي، ويخرج عن طوره؟ إن حب المجرم لضحيته ممكن في حالات نفسية معقدة، ولكن في حالة هذه المرأة لا يمكن أن يحدث ذلك. لأنها لا تكره ضحاياها، وإنما تعرف فقط بأنه لا بد من قتلهم. وأمريكا تفعل ذلك الآن في ليبيا، بتزويد الغزو الثوري بالأسلحة ومرتزقتها العسكريين في الشركات ألأمنية كما فعلت في العراق، وتحت ذات المظلات العربية النظامية، والحقوقية، والشرائح الشعبية ذات الثقافة الدينية. وهي تؤجل غزوها الصريح لليبيا لأنها تريد تأليب الدوليين الأخرين للحرب إلى جانبها، لأنها لا تريد التورط لوحدها في أية تطورات محتملة، ولأنها تريد هذه المرة تأسيس أنظمة ذات اتصال بالقاعدة الشعبية، واستغلال لعبة الديموقراطية لتصبح جزءا مباشرا من النظام ومن القاعدة الشعبية. أي أن اهدافها وترتيباتها في المنطقة العربية، هي وحدها التي ترقى إلى مستوى جوهرية التغيير”الثوري”، من خلال التخلص من نمط الأنظمة القديمة، مستغلة الهبات الشعبية لصالحها. ولكن مهما قيل، فإن الهبة الشعبية في مصر وتونس، أظهرتا أن الوعي الشعبي العربي لم يعد كما كان أيام حرب العراق، وأن التدخل الأمريكي والأجنبي عموما فيما يسمى الشرق الأوسط،محفوف بالمخاطر.

        أما ركاب الساركوزية المتوسطية، فهم لا يقلون هلعا على الشعوب العربية من كلينتون، ولذات الأسباب، ولكنهم رغم اختلاف مواقفهم من المتوسطية وضعفهم أمام نفوذ الصهيونية بشكل خاص في بلادهم، يدخلون الحلبة الشرق أوسطية هذه المرة كمنافسين لأمريكا والصهيونية، وليس كمجرد حلفاء رغم أنفهم.

        ويبدو من الإيجابية الثورية في كل من مصر وتونس تجاه الأداء الأمريكي في بلديهما، بدأت تتغلب على الحذر. والدليل على ذلك، أن التنصيبات التي يقوم بها العسكر، باسم التجاوب مع الثورة، لا يوجد أي مبرر منطقي للوثوق بها. فشرف في مصر وأكثر منه السيسي في تونس، ما زالا يشبهان الحلول الوسط، كوجهين سياسيين قادمين من الغموض. وقد يكونان فخين أكثر تقدما ممن سبقهما، في سياق اللعبة الأمريكية التي يلعبها العسكر قي البلدين. ولكن الأمر المؤكد تماما أنهما ليسا وجهين لثورة شعبية. وسوف يتأكد الشعبان بعد حين أنهما كانا ضحية لانعدام الحذر، وتمرير لعبة العسكر عليهما.

        مأ يأمل فيه البعض الآن وأنا واحد منهم، أن يصمد القذافي أمام الغزوة الإخوانية، ويجبر أمريكا على التدخل العسكري الصريح لإنقاذ “الشعب الليبي” أي “الناشطين السياسيين” حسب التعبيرات الإبداعية المترجمة لقناة الجزيرة، لتحسم الأمور نهائيا. إما التحرر العربي أو الإقليمي، أو بداية القرون الوسطى في العالم العربي.