مقدمات في التنمية
(الجزء الثالث)
عادل سمارة.
في اسس التنمية
المكان الزمان والواقع
التنمية حالة فعل إنساني لتجاوز ظروف معينة باتجاه حياة افضل جوهرها ومنتهاها تحقيق الاشتراكية. هي تدريب بشكل جماعي على الاشتراكية لأن الاشتراكية قمة العمل الاجتماعي والجماعي ايضاً. إن المكان اساسي للتنمية وهو ما تشترك فيه مع الاقتصاد بمعنى أن تحقيق التنمية يشترط وجود المجتمع وحاجته وتبنيه للمشروع التنموي وهذا تطلب العمل والعمل الاجتماعي وكل هذه لا تتحقق إلا بوجود المكان اي في المكان.
ولكن الوجود المجرد للمكان ليس كافياً، فلا بد أن يكون المكان مؤاتياً وذلك بوجود بيئة اجتماعية وسياسية إن أمكن متقبِّلة للنشاط التنموي وهذا هو الواقع المجتمعي. وهذا يفترض قيام علاقة عميقة ومنسجمة وتعاونية بين طلائع أو مريدي العمل التنموي والوسط الاجتماعي.
التنمية بما هي عمل إنساني إنتاجي، بما هي إنتاج قيم لحياة أفضل للناس، فهي مطلوبة وضرورية في مختلف المكان والزمان. هي ليست زمانيا مرحلة انتقالية لأن طورها الأعلى هو الاشتراكية وصولا إلى الشيوعية، اي أن الأخيرتين هما تطور وتصاعد المسيرة التنموية.
لا ننسى أن الزمان والمكان محايدين، فهما فرضيتين فكريتين بل فلسفيتين. وما يعطيهما معنى ملموساً هو الواقع الاجتماعي الاقتصادي في هذه المرحلة أو تلك، اي والناس. التنمية مطلوبة لكل مكان وزمان ولكن تحقيقها متعلق بمدى موائمة أو مجافاة الواقع المتعلق. إن مجرد العمل على تحقيق التنمية يعني أنها عملية كفاحية، عملية تغيير الواقع.
ليس شرطاً أن تبدا التنمية على نطاق كلي، اي لتغيير تشكيلة اجتماعية اقتصادية بأكملها. قد يتم هذا على مستوى التخطيط لتنمية شاملة على صعيد الدولة القومية.
إن فرقة او عصبة محدودة العدد في قرية زراعية فلاحية يمكن أن تكون نواة مشروع تنموي ناجح إذا ما كانت من صلب البنية المجتمعية، قادرة على العمل مع الناس والتشارك معهم في العمل والإنتاج، وتجسيد نموذج مثالي في السلوك والتضحية والعلاقات الحميمة.
إن نجاح هذه الفرقة الصغيرة هو مثابة تطهير موقع مجتمعي وتحويله بحيث يصبح أكثر اعتمادا على النفس في أوسع نطاق ممكن وقيامه بحماية ما أنجز كنموذج للحماية الشعبية من الشعب لما قام هو نفسه بإنجازه.
وما ينطبق على قرية أو بلدة يمكن أن يتسع لينطبق على إقليم ودولة. بعبارة أخرى، فالتنمية هي حالة أو مستوى من المقاومة حينما تشتد تتحول إلى هجوم تغييري على الصعيد الوطني/القومي الشامل.
حركة فعل لا حركة مطالبة
قد يتخيل البعض منا أن التنمية حركة مطلبية تطالب بتحسين شروط المعيشة أو تقليص ساعات العمل كما تفعل النقابات العمالية. يمكن لمشاركين في المشروع التنموي أن يطالبوا بمطالب نقابية حين يكونوا عمالاً مأجورين في موقع عمل معين أو في قطاع عام. ولكن المشروع التنموي هو مشروع جماعي إنتاجي اساساً يقوم على الاعتماد على الذات والأهم أنه مشروع عملي لا يخضع للمالك الفرد أو بيروقراطية الدولة.
إن العملية التنموية عملية فعل وإبداع ذاتي، ولكنها تعمل في وسط اجتماعي وفي موقع معين وفي فترة معينة هي ترفضها وتعمل على تغييرها، فإن العملية التنموية هي عملية مقاومة متعددة المستويات فهي مقاومة بالمعنى الانتظامي والإنتاجي ومن ثم السياسي والاجتماعي.
لذا ليس المشروع التنموي جزءاً من الاقتصاد الراسمالي الرسمي، هو جزء من التنمية بالحماية الشعبية، هي اقتصاد آخر لا يقوم على الملكية الخاصة والفردية ولا على مصالح الطفيليات والكمبراور. يمكننا القول إن أول تجربة لهذا الاقتصاد الآخر، اقتصاد الحماية الشعبية هي اقتصاد الانتفاضة الأولى، وهو الاقتصاد الذي أسس للاعتماد على الذات ومقاطعة اقتصاد الكيان الصهيوني، وأرسى بنية وطنية للقيمة.
اقتصاد الطبقة
تزعم البرجوازية دائماً أنها تمثل المجتمع بأسره، وهذا مأخوذ على أية حال من الزعم المشوه والتضليلي من قبل البرجوازية الأوروبية البيضاء حيث تزعم أن أوروبا تمثل كل العالم وأن ما ينطبق عليها وفيها ينطبق على العالم بأسره. أليست البرجوازية في بلدان المحيط صدىً ونسخة مسودة للبرجوازية في المركز؟
ولكن الحقيقة وراء زعمها هذا معاكسة له. فالبرجوازية تمثل مصالحها وتُخضع مصالح الطبقات الشعبية لهذه المصالح، وكل هذا عبر عملية الاستغلال الاقتصادي الذي تتم تغطيته بخطاب بليغ عن الوطن والمصلحة القومية وتطوير الاقتصاد والنمو والتسابق مع الأمم الأخرى، والحرص على الاقتصاد وضرورة الاستقرار واحترام القانون والنظام وإطاعة أولي الأمر…الخ. وهذه جميعاً تلخص في مسالة مركزية هي مصلحة البرجوازية في الاستمرار في السلطة والملكية الخاصة.
ليس صحيحاً أن ما يسمى الاقتصاد الوطني هو لكل الناس. هو درجات من الملكية ودرجات من الاستغلال، وطالما هو درجات، فهو لا يعبِّر عن المساواة قط. وقد يكون قياس معدل النمو ومتوسط دخل الفرد هو أكثر اساليب التزييف في هذا المستوى، وهو نفسه إذا ما أحسننا قراءته يكشف لنا زيف وتزييف هذا الادعاء.
فحين يقولون أن متوسط دخل الفرد في مجتمع معين هو 10،000 دولار في السنة، فهذا يعني أن كل فرد يحصل بالتساوي على هذا المقدار. وفي حقيقة الأمر فإن نسبة من المجتمع قد لا تصل 5% من عدد السكان تحصل على الملايين، ونسبة تصل إلى 40% لا تحصل على أكثر من دولارين في اليوم. فهل اقتصاد هؤلاء وأولئك واحداُ؟؟
إن نفس الإحصائيات التي تتحدث عن متوسط دخل الفرد تقول كذلك إن نسبة الذين تحت خط الفقر هي 30 أو 40 بالمئة من المجتمع. كيف يحصل هذا؟ والأهم: كيف نقرأ هذا الرقم وذاك الرقم دون أن نرى التناقض بينهما؟ إن التقاط التناقض في هذا المثال هو التطبيق الفعلي للتفكير النقدي والنقد المشتبك.
ملخص القول ان الحديث العام عن الاقتصاد الوطني هو حديث وإقرار بالهيمنة الاقتصادية للبرجوازية. فلكل طبقة اقتصادها الذي هو احد اسس تسميتها طبقة.
إن قراءة دقيقة للمادية التاريخية وخاصة الصراع الطبقي تؤكد لنا أن الطبقات في صراع يقوم اساساً على تناقض المصالح المادية، على رفض الطبقات الشعبية لما يقع عليها من استغلال ومصادرة القيمة الزائدة، ويبين لنا، بأن المشروع السياسي للطبقات الشعبية هو تغيير الواقع واستعادة حقوقها في ما تنتجه قوة عملها. لا يكون هناك اقتصادا وطنيا عاما إلا في ظل الاشتراكية. ومن هنا أهمية التنمية بالحماية الشعبية أي بناء اقتصاد الطبقات الشعبية وتحريره ولو تدريجيا من هيمنة اقتصاد الطبقة البرجوازية. وهذا لا يتأتى بدون مشروع تنموي.
اقتصاد الحزب
يبقى المشروع التنموي بما هو مشروع إنتاجي غير مستقر ولا ثابت ما لم يكن له حاملاً سياسياً منظماً. والحامل السياسي هو حامل اجتماعي اساساً، وهذا يلتقي مع المبدأ الأساسي للتنمية. إنه في تطوره الأعلى الحزب السياسي.
والحامل السياسي للتنمية ليس مجرد تراكم اعضاء ومراتبية. بل بنية متفاعلة تبادلياً أفقيا وعامودياً لأن التنمية عمل وإنتاج على اساس تعاوني في الحد الأدنى. وبهذه البنية وطبيعة هذه البنية يتكون اقتصاد الحزب السياسي الذي يتحول إلى خلية مجتمعية نموذجية تعتمد على ذاتها.
لن يكون الحزب السياسي مثالاً يُحتذى ما لم يكن قادراً على كفاية نفسه. فحينما يرتهن الحزب معيشياً للدولة أو المساعدات الأجنبية او تمويل الأنجزة لا يمكن ان يقيم تنمية حقيقية لأنه سيكون مرهوناً لتلك المصادر.
بما أن الحزب السياسي فريق/فرق من الناس لديها عقيدة ورؤية لليوم والمستقبل، فلا بد أن يكون له ذلك الانسجام الداخلي الذي يؤصل روح العمل والتضحية ومن ضمنها التنمية.
ليس غريباً أن التبعية الاقتصادية تقود إلى التبعية السياسية ومن ثم الفكرية والبرنامجية. وإذا كان هذا ينطبق على الدول والأفراد فهو منطبق لا محالة على الحركة السياسية. وما لم تعتمد الحركة السياسية على نفسها، فإنها لا شك سوف تُفرغ من شحنتها الثورية وانتمائها للتغيير وحمل مشروعه بالطبع.
قانون قيمة وطني
التنمية باتجاه اشتراكي هي نقيض ومقابل للاندماج والانخراط في هذا النظام الرأسمالي العالمي. والعلامة الفارقة والمميزة بينهما مسألة قانون القيمة المسيطر في هذا النظام والذي يسحب نفسه على مختلف البلدان التابعة ولكن بموجب مصالح دول المركز وتحديداً الطبقات المالكة/الحاكمة في تلك البلدان.
إن نظرية قيمة العمل هي الطريقة التي يتم بها استخلاص فائض القيمة وحيازته في ظل قانون وحكم رأس المال. يرى ماركس أن قانون القيمة هو قانون راسمالي يبقى ويتواصل عمله حتى في المرحلة الانتقالية الاشتراكية التي يجب خلالها أن تعمل الدولة الاشتراكية على تجازوه.[1].. تمزج أو تصهر نظرية ماركس في قانون القيمة العلاقات الكمية بين المنتجات والعلاقات المشروطة تاريخياً بين المنتجين. فهو يبيِّن أن السلعة قيمة استعمالية، وبانها شيىء/موضوع مفيد –انها قيمة تبادلية. ويرى أن القيمة هي مقولة أو معطاة اجتماعية تعبر عن منظومة من العلاقات الاجتماعية السائدة في لحظة تاريخية معطاة. إن إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية المتجسدة في الإنتاج السلعي لا تشكل شكلاً كونياً للوجود الاقتصادي في التاريخ الإنساني. وبالنسبة له فإن المقولات المستخدمة في توصيف نمط الإنتاج الرأسمالي هي “اشكال من التفكير التي تُستخدم اجتماعياً بشكل مشروع، وبناء على ذلك فهي موضوعية، بالنسبة لعلاقات الإنتاج التي تخص نمط الإنتاج الاجتماعي المحدَّد تاريخياً، مثلاً، الإنتاج السلعي[2]“.
” إن قانون القيمة هو قانون موضوعي لمجتمع مُنتج للسلع. إنه ينظم تبادل السلع طبقاً ل العمل الضروري اجتماعياً الذي يُنفق أو يُبذل في إنتاجها. وفي معرض ترتيب او تضبيط التبادل الراسمالي للسلع، فإن هذه القيمة تضبّط كذلك توزيع العمل ووسائل الإنتاج بين مختلف أفرع الإنتاج. وعليه، فإن قوة العمل لا تعود تشكل سلعة في ظل الاشتراكية”[3].
وإنه من أجل تطويع إبداع هذه الأطروحات كي تتقبل التنمية لا بد لذلك أن يحصل عبر قطع مع كل ما يتضمن خضوعاً لقانون القيمة العالمي، وبكلام آخر، إنه يتضمن فك الارتباط. والقبول بهذا، يعني الإقرار بأن التنمية ضمن النظام الراسمالي العالمي تبقى، بالنسبة لبلدان المحيط، في حالة إنسداد”.
يفسر هذا ما كانت صين ماوتسي تونغ، تحاوله في تجاوز قانون القيمة، بما هي التجرية الاشتراكية الأكثر جذرية، حيث لم تقطع معه تماماً بما هو قانون راسمالي، ولكنها كانت تحاول بشكل متواصل إنجاز ذلك القطع.
إن ما قصدته بتوجه الانتفاضة الأولى لإبداع قانون قيمة وطني، وإن كان هو قانون رأسمالي، إلا أنه كان يعمل ضمن علاقات السوق في الضفة والقطاع فقد كان مجرد وجوده تقليلاً للارتباطات بقانون القيمة العالمي، لأنه أدى إلى زيادة التبادل داخل الضفة والقطاع حيث الإنتاج المحلي يُسوَّق محلياً رغم المعيقات الصهيونية. وطبقاً لتزايد فك هذه الارتباطات، فقد أُعتبرت خطوة إلى الأمام على الرغم من كونها تأخذ موضعاً أو مكاناً على صعيد السوق وضمن مساحة صغيرة التي يُشرط نجاحها الاقتصادي بانخراطها في الاقتصادات العربية.
قد يتبع الإنتاج الذاتي والعفوي لقانون القيمة الوطني الزعم بأن هذا المدخل هو طبعة من الأوتاركية. ولكنه كموديل التنمية بالحماية الشعبية ليس فيه ما ينسبه إلى القطيعة. فلا بد من التاكيد بأن تصميم قانون القيمة الشعبي هذا يجب أن يُربط بالثورة الثقافية كسبيل للتطوير المتواصل لهذا القانون.
فخلال الانتفاضة الأولى، فإن مستويين من قانون القيمة قد تشكلا:
الأول: وهو الداخلي اي التبادل (التسويق) بين الطبقات الشعبية التي خلقت قانونها الذاتي للقيمة، وتقديرها الخاص للقيمة، الكلفة، الأسعار…الخ ولآلياتها الخاصة للتوزيع تحت الإجراءات الصهيونية القاسية في الإغلاق.
من السهولة على البعض تسمية ذلك قطيعة، ولكنها ليست. إنها نموذج تنمية على الأرض، في الميدان كاستراتيجية بقاء.
وثانياً: وبالتوازي مع هذا، فإن الطبقة الراسمالية قد تمسكت بقانون القيمة العالمي، وخاصة عبر التمسك الواعي بعادتها الاستهلاكية. لذلك واظبت هذه الطبقة على استهلاك المنتجات الصهيونية والأجنبية من جهة، وتسويق ما بوسعها تسويقه من هذه المنتجات (رغم اسعارها العالية) في السوق السوداءالمحلية على الرغم من مختلف المنشورات من القيادة الوطنية الموحدة الداعية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية إلى جانب نشاط اللجان الشعبية التي كانت تحاول منع التجار من استيراد وتسويق تلك المنتجات من جهة ثانية. وإضافة إلى ذلك، فإن شركات التعاقد من الباطن قد تزايدت في فترة سلطة الحكم الذاتي/اتفاق أوسلو منذ عام 1993. إن عادتها الاستهلاكية ومصالحها كنخبة متغربنة هي في انسجام مع اقتلاعها للجان الشعبية. فلو لم تكن سلطة الحكم الذاتي نظاماً كمبرادورياً، لكان للتنمية بالحماية الشعبية فرصة الذهاب إلى حد توسيع قانون القيمة المحلي. وفي الحقيقة فإن أنظمة الولايات المتحدة والكيان قد جلبت سلطة الحكم الذاتي إلى الضفة والقطاع لكي تحتجز وتقوض الانتفاضة ومن ثم الحيلولة دون تصاعدها إلى انتفاضة اجتماعية ثقافية وتنموية. ولعل ما جعل اغتيال الانتفاضة قيد الإمكان هو خلو الساحة من حركة ثورية تقوم بتعميق ثقافة التنمية بالحماية الشعبية ومقاطعة منتجات الأعداء وهي الحركة التي تعمق ثقافة المقاومة. ولسوء الحظ لم تكن الحركة السياسية الفلسطينية من هذا الطراز؟