حول عسكرة السياسة الخارجية الامريكية في عهدي ادارة جورج بوش (الابن)
الشرق الاوسط والقضية العربية الفلسطينية 2001 ـ 2009
(الجزء الاول)
نورالدين عواد
ملاحظة من كنعان
اعدت هذه الورقة عام 2008، في اطار ابحاث الكاتب لرسالة دكتوراة علوم سياسية باللغة الاسبانية، وخضعت للمناقشة، بنجاح، امام لجنة علمية ذات اختصاص في جامعة هافانا. و هي موجهة اصلا الى العالم الاكاديمي والراي العام الغربي اللاتيني مما سحب نفسه على المعلومات الواردة فيها واسلوب الصياغة والمخاطبة، دون الانتقاص من قيمة التحليل النظري والسياسي والاستنتاجات التي توصل اليها الكاتب.
قريبا ستنشر كنعان ورقة اخرى تتطرق الى السياسة الخارجية لادارة باراك اوباما استكمالا لهذا البحث.
( *** )
مقدمة:
ما فتئت العلاقات الدولية ـ بصفتها تجسيدا للسياسة الخارجية للدول ـ تشهد تغيرات جوهرية شكلا ومضمونا منذ بداية القرن العشرين، تبعا لتطور النظام الراسمالي العالمي السائد، وانتقاله ـ منذ نهايات القرن التاسع عشر ـ من راسمالية المنافسة الحرة الى الراسمالية الاحتكارية : اي الامبريالية؛ اختفاء ما يسمى بـ “الحرب الباردة”؛ وظهور او احتمال ظهور فاعلين جدد على المسرح الدولي، وبالتالي تشكّل نظام دولي جديد متعدد الاقطاب، على ضوء المخاض الذي يطلق عليه كثير من المؤلفين “امبراطورية امريكية”.
بعضهم يفهم الامر على انه امبريالية عظمى؛ مابعد امبريالية؛ امبريالية حقيقية؛ امبريالية انسانية…الخ. في رايي، اننا نشهد مرحلة جديدة في تطور ظاهرة الامبريالية نفسها، والتي لم تكن قد استنفذت امكانياتها وطاقاتها الكامنة لتطورها في حد ذاتها. حتى وان تمّ الاعتراف بان الولايات المتحدة الامريكية(من الان فصاعدا اكتفي فقط بقول: امريكا) تشكل القوة العظمى الوحيدة سياسيا وعسكريا واقتصاديا في العالم، وتمّ التفكير بانها في طور التحوّل الى امبراطورية عالمية، فانه يجب عدم تجاهل “الوقائع العنيدة” حسب تعبير فلاديمير ايليتش لينين.
ان هذا التقدير ليس مطلقا بل نسبيا. الديناميكية المتسارعة للاحداث والصيرورات الاجتماعية السياسية والعسكرية في مختلف انحاء العالم تثبت ذلك. وهذا بعض منها:
1. ازمة اقتصادية بنويوية ـ وظيفية عميقة في امريكا، تضعف لكنها لا تنهي غلبتها وهيمنتها في اطار الثلاثي الامبريالي: امريكا اليابان الاتحاد الاوروبي (الامبريالية الجماعية على حد تعبير سمير امين). ان العامل الاقتصادي الذي لا بد منه لاية امبراطورية يشكل “كعب اخيل” (ثغرة قاتلة) في حالة امريكا.
2. التورط العسكري الامريكي في العراق دون افق للحل العسكري او السياسي للحرب على المدى المنظور. صاموئيل هانتيغتون Samuel Hunttington، فيلسوق اليمين المحافظ المتطرف وحامل لواء نظرية صدام الحضارات، دعا علنا الى سحب القوات الامريكية من العراق، لانه يعتقد ان الانتصار في تلك الحرب ضرب من المستحيل: “لقد وضع الرئيس بوش امريكا في حرب ضد الشعب العراقي حيث لن يتمكن من تحيق النصر. لذلك لا مفر من تخفيض الوجود العسكري هناك وتسليم السلطة الى الشعب العراقي (…) الحرب لم تحرز المكاسب بل جعلت الشعب العراقي عدوا جديدا لامريكا (…) امريكا خاضت حربين في العراق الاولى ضد صدام وانتصرت فيها والثانية ضد الشعب العراقي ولن تحقق فيها الانتصارا ابدا (…) ان احراز النصر في حرب ما، يعتمد على عنصرين: مصالح قومية وقيم اخلاقية جديرة بالدفاع عنها. كلا العنصرين مفقودان في الحرب الراهنة ضد العراق”.
كما ان عالم الاجتماع الامريكي جيمس بيتراسJames Petras توصل الى الخلاصة التالية: “لقد اثبت عام 2004 باقصى درجة ماساوية ونهائية، ان آلة الحرب العسكرية الامبريالية يمكن ان تمنى بالهزيمة. فالمقاومة العراقية اثبتت انه يمكن الحاق الهزيمة بالامبراطورية الامريكية (…) ان جيش الاحتلال الامريكي عاجز عن الوصول بهذه الحرب الاستعمارية الى نهاية مظفرة”[1].
يلاحظ فشل سياسي وعسكري مرئي (لا يصل الى درجة هزيمة نهائية حتى الان) للسياسة الخارجية الامريكية في مسارحها الرئيسية في الشرق الاوسط . ويبدو اننا بصدد مرحلة جديدة من “الحرب الباردة” في منطقة “الخاصرة الرخوة” لروسيا والصين.
3. ان حقيقة وجود قوى عسكرية نووية كالصين وروسيا وان كانت غير معنية بمواجهة حربية مع امريكا، لا يعني تلقائيا انها خاضعة لارادتها. فمجرد وجودها يفترض عقبة كأداء امام تشكل الامبراطورية الامريكية العالمية.
4. ممانعة مسلحة متزايدة الشدة ضد امريكا في افغانستان؛ ومقاومة مسلحة في فلسطين ولبنان[2]؛ وصمود سياسي في كوريا الشمالية وايران وسوريا والصين وروسيا[3] وكوبا وفنزويلا البوليفرية وغيرها.
5. تطور الصين كقوة اقتصادية كبرى. في هذا السياق، ينبه تقرير اعدته “اسرة الاستخبارات القومية الامريكية” ونشرته وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (سي آي إيه) الى امكانية ” قيام العملاق الصيني بغزو العالم اقتصاديا وثقافيا في آسيا وامريكا اللاتينية وحتى في امريكا على حد سواء (…) وبالفعل، لقد شرعت الصين بمخططها، انها تغزو بسلعها الاسواق الامريكية ( 3 بيليون دولار سنويا)؛ لقد ازاحت الصين امريكا من التجارة والاستثمار والثقافة والسياحة في كافة البلدان الاسيوية؛ الصين هي المصدّر الاول نحو البرازيل وتشيلي”[4].
6. المجتمع المدني الدولي اخذ يلعب دورا متصاعدا وفعالا ضد سياسات وافعال الامبريالية والدائرين في فلكها. بدات تتشابك النضالات الاجتماعية والسياسية المحلية والاقليمية والدولية ضد عولمة طغيان راس المال المالي عابر الاوطان وتبعاته.
من الممكن ان نكون في حضور صيرورة عولمة للتضامن الانساني بين الشعوب والامم في مناهضة العولمة الليبرالية الجديدة وعسكرتها، بزعامة النخبة الاوليغاشية المسيطرة في امريكا وحلفائها في مراكز اخرى للسلطان الراسمالي العالمي.
بصدد السياسة الخارجية الامريكية
“عندما تضعف الايديولوجيا البرجوازية وتتفسخ وتفقد نفوذها على الشغيلة، تلجا دائما وفي كل مكان الى الدجل المخيف والنفاق”.
لينين
تتحدد السياسة الخارجية للدول عموما بسلسلة من المتغيرات الرئيسية الداخلية والخارجية والتي تسهل او تعرقل القدرة على اتخاذ القرارات وتحقيق الاهداف التكتيكية والاستراتيجية لتلك السياسة. هناك عنصر مفتاحي وحاسم يشكل شرطا لاتخاذ القرارات والاسقاطات الدولية لدولة ما ويكمن في : المصلحة او المصالح القومية و/او الحيوية، والتي تتحدد بدورها بعوامل تاريخية اوجغرافية اواقتصادية اوايديولوجية اوسياسية اواخلاقية او فلسفية. الطبيعة الاجتماعية وايديولوجية السلطة السياسية والمرحلة التاريخية تحدد الى درجة كبيرة، جوهر هذه المصالح ناهيك عن تغيرها الايجابي او السلبي. في النظام الاتوقراطي (حكم الفرد)، الطبقي او الطائفي، عادة ما تتم مماثلة المصلحة القومية مع مصلحة الزعيم او الطبقة الاجتماعية ( وحتى نخبة تلك الطبقة) او الطائفة الدينية بالتوالي على حساب الشعب او الامة.
بايجاز، طبيعة العلاقات الدولية لدولة ما، تتحدد جوهريا بالعلاقات الداخلية و بالطبقة او الكتلة الطبقية التي تستحوذ على السلطة السياسية، وفقا للمفهوم اللينيني، دون اغفال الدور الذي قد تلعبه عوامل ثقافية او جيوسياسية ..الخ.
في الحالة الخاصة بامريكا، منذ تاسيسها عام 1776، ارست الاسس التاريخية لسياستها الخارجية، على النزعة التوسعية والمبالغة في اهدافها تجاوزا لقدراتها الواقعية؛ والنزعة الانعزالية التي ولّّدت لديها النزعة الاستفرادية التي لا زالت تسم انتهازية سلوكها الدولي.
على امتداد اكثر من قرنين من الزمان على وجود امريكا، ماانفكت سياستها الخارجية تتطور وتتذبذب بين مختلف العقائد والتقاليد: سنّة جيفرسون؛ مبدأ عدم المجازفة؛ مذهب مونرو؛ عقيدة ترومان؛ (عقيدة ايزنهور؛ مبدا كيسنجر؛ عقيدة بوش)[5]. الخيط الناظم لها جميعا يتمثل في هدفها الرامي الى الحفاظ على المصالح الطبقية للاوليغارشية القومية وحمايتها ( تمر هذا الاوليغارشية حاليا بصيرورة عولمتها) وتأبيد النظام الراسمالي العالمي، بغض النظر عن التناقضات التي تبرز احيانا بين مكونات الامبريالية الجماعية او الثالوث الامبريالي.
وفقا للاكاديمي العربي عبد الوهاب المسيري، “تتحدد سياسة امريكا بشكل عام بمصالحها الذاتية وفقا لمنظور النخبة الحاكمة، والمجمع العسكري ـ الصناعي والشركات العملاقة. لا يستطيع اي لوبي (جماعة ضغط و/أو مصلحة) مهما كان قويا ومؤثرا ان يغيّر النهج الاستراتيجي الامريكي العام”[6].
اعتبارا من نهاية “الحرب الباردة” في بدايات التسعينات من القرن العشرين، وتكريس امريكا كقوة عظمى وحيدة، مهيمنة سياسيا واقتصاديا وعسكريا وايديولوجيا، بدأت تتضح استراتيجيتها للسيطرة على العالم باطماع امبراطورية. اعتقد ان هذا المشروع، يشكل المعضلة الكونية المعاصرة المفتاحية والاكثر خطورة على حاضر ومستقبل الكرة الارضية والبشرية جمعاء.
لدى تطرقه الى طبيعة الحكومة الامريكية وسلوكها الدولي،اكد نعوم شومسكي Noam Chomsky : “ان الحكومة الامريكية ارهابية ، وفقا لنفس تعريفها. وبموجب قانونها ـ والقانون الدولي ـ يواجه الرئيس جورج بوش الابن وشركاؤه عقوبة الاعدام بسبب افعالهم، لكن من الواضح ايضا ان هذا الامر لن يؤخذ ابدا على محمل الجدّ، لانه تمّ التحقق من ان حكام امريكا لا يتصرفون ابدا مع مراعاة القوانين”[7].
ان الكلمات التنبؤية التي اطلقها محرر امريكا اللاتينية، سيمون بوليفر Simon Bolivar : ” يبدو ان العناية الالهية قد اختصت امريكا لكي تغرق القارة الاميريكية في وباء الجوع والبؤس تحت شعار الحرية”، يمكن ان نقوم بتأويلها جدليا وتعميمها لتطال العالم بأسره: “يبدو ان اله راس المال قد اختص امريكا لكي تغرق البشرية جمعاء بوباء الجوع والبؤس والموت تحت شعار الحرية والديموقراطية الامريكية والعولمة الليبيرالية الجديدة”[8].
في هذا السياق نفسه، يقول روبرت شتراوس هوبيه Robert Strauss Huppé في كتابه “توازن الغد” الذي نشره عام 1994: ” ان المهمة الاساسية لامريكا تتمثل في توحيد الكرة الارضية تحت قيادتها ومواصلة هيمنة الثقافة الغربية. لا بد من القيام بهذه المهمة بسرعة ومواجهة نمور آسيا واية قوة اخرى لا تنتمي الى الحضارة الغربية (…) ان مهمة الشعب الامريكي هي القضاء على الدول القومية؛ المستقبل على امتداد الخمسين سنة القادمة سيكون من نصيب الامريكيين ويجب على امريكا ان ترسي اسس الامبراطورية الامريكية بحيث تغدو مرادفة لـ “امبراطورية انسانية”[9].
جاءت السياسة الخارجية لادارة جورج بوش الابن لتعزز مبتغى النظام السياسي الامريكي في حماية وحفظ المصالح الطبقية للنخبة الحاكمة والمجمع الصناعي العسكري والشركات العملاقة وتابيد النظام الراسمالي العالمي في سعيها الى تحويل امريكا الى امبراطورية كونية.
تركيز المركز وتذرير المحيط[10]
خلال حقبة عالم القطبية الثنائية كانت تسود في الصراعات الدولية، العوامل القومية والحدودية والاقتصادية …الخ. اما في عالم القطبية الوحيدة، فقد سادت العوامل العرقية والايديولوجية والمذهبية والطائفية والدينية…الخ. الخريطة السياسية لعالم اليوم تشهد على ذلك. العولمة الليبرالية الجديدة بصفتها طورا راهنا للراسمالية الاحتكارية، سهلت للسياسة الخارجية الامريكية، خلال عهدي جورج بوش الابن في رئاسة امريكا، فرصة تذرير بلدان محيط النظام الراسمالي، وتدمير دولها القومية ماديا او من خلال سلب سيادتها واعادة قطعنتها[11]، من اجل ضمان تفوق امريكا لاقصى فترة زمنية ممكنة وتكثيف الاستغلال الاقتصادي ـ الاجتماعي لتلك البلدان، سعيا وراء الحد الاقصى من معدل ربح راس المال الامريكي الكبير.
على الرغم من ان سيادة الدولة[12] تشكل حجر الزاوية في القانون الدولي العام، فانني اعتقد انها نسبية في العلاقات الدولية،ناهيك عن ان حق النقض (الفيتو) في مجلس الامن الدولي، يدحض اطروحة المساواة السيادية بين الدول. مع ذلك، تتجلى سيادة الدول بشكل افضل في نطاق الاختصاص الاقليمي (الترابي)، اذ انه لا يوجد لها منافس داخلي وتشكل في الوقت نفسه، اداة للسيطرة الطبقية.
في ظل العلاقة غير المتناظرة بين دول المركز ودول المحيط الراسمالي، والنيّة الصريحة للاولى في تفكيك القومية في الثانية، تؤدي الليبرالية الجديدة المعولمة موضوعيا الى استقطاب متزايد لدى الفريقين. نخب المحيط التحقت من موقع التابع بنخب المركز، في حين ان ” الجماعات الاجتماعية الكبيرة تحولت بعضها الى اقطاعيات وبعضها الاخر الى كتل جماهيرية متراكمة بشكل جمعي، وفي القطب المقابل لها نهضت الحكومة المتغولة (ليفياتانية Leviathanic) مدعومة بنخب مترابطة باضطراد، وقوة اقتصادية وتكنولوجية هائلة الابعاد”[13].
ان محاولة اعادة قطعنة بلدان ما، تشكل سلوكا رجعيا تضطلع به الامبريالية، اذ انها تعتزم النكوص بمجتمعات بشرية والحكم عليها بالعودة الى تشكيلات اقتصادية ـ اجتماعية ما قبل راسمالية، تجاوزها التاريخ والنضالات الاجتماعية. يجب ان لا يفهم من هذا الاستنتاج ان مجتمعا بشريا ما، يعيش تشكيلة ما قبل راسمالية او من المحيط الراسمالي المهجّن، لكي يصل الى تشكيلة اقتصادية ـ اجتماعية اعلى من الراسمالية (اي الى الاشتراكية) يجب ان يمر اجباريا بالراسمالية او بالراسمالية الصناعية تحديدا. فالتجربة التاريخية والراهنة تثبت العكس، وكأن لسان حالها يقول: كلما ازداد المجتمع تطورا راسماليا صناعيا، كلما قلت امكانية حدوث ثورة اجتماعية ضد الراسمالية.
في حالة الدول القومية حتى لو كانت راسمالية تماما، فانه لا توجد اية ضمانة لتصبح دويلاتها راسمالية ايضا. حتى لو ان الامر لا يتعلق باعادة مجتمعات حالية الى الاقطاعية، فانها نظرا لوضعها التابع يمكن ان تتحول عمليا الى اقطاعيات اي الى مناطق مغلقة تحت سيطرة الامبريالية، وحتى لو سادت داخلها علاقات راسمالية فانها ستبقى بصفة “لا دولة” على حد تعبير عادل سمارة. في كلتا الحالتين سيتجلى الطابع الرجعي للامبريالية. مشروع الشرق الاوسط الكبير والنزعات الانفصالية في بعض بلدان امريكا اللاتينية (فنزويلا والاكوادور) تشكلان امثلة ملموسة على استراتيجية تدمير الدول القومية واعادة تركيب او قطعنة مجتمعاتها.
بعض حقائق الوضع الدولي الراهن
تخمّن امريكا بانها سلطة كونية ـ بالتحديد في الميدان العسكري ـ ولذلك فانها ومنذ عقدين من الزمان ما انفكت تحاول تجسيد هذا المفهوم في علاقاتها مع بقية الدول والفاعلين في العلاقات الدولية. في هذا المنحى “لديها خياران. الاول (…) اقامة شكل ما من امبريالية امريكية لكي تحكم العالم وتصون السلام والامن. اما الثاني فهو اقامة امبراطورية: شكل ما من حكومة كونية تشمل نخب كونية ايضا (…) وكذلك زعماء الشركات العملاقة ووسائل الاعلام …الخ[14]. وكلاهما ليس سهل المنال.
في سبيل التوصل الى فهم اكبر واعمق للسياسة الخارجية الامريكية ازاء الشرق الاوسط، وفي القلب منه القضية الفلسطينية، من اللائق بمكان، التطرق الى المشهد الراهن للعلاقات الدولية، حيث تتضافر الاستراتيجيات العالمية والاقليمية الامريكية.
يمكن ملاحظة الامور التالية:
هيمنة وسطوة القوة العظمى الامريكية على مستوى كوني، واستعمال القوة العسكرية الوحشية والتمادي فيها، في اطار العلاقات الدولية. ادارة بوش الابن ـ بصفتها ممثلة للقطاع المعولم من راس المال المالي، والشركات عابرة الاوطان و / او متعددة الجنسيات والمجمع العسكري الصناعي ـ اطلقت العنان لواقعية موغلة في التطرف في علاقاتها مع العالم، باستخدام جبروتها الهائل، من اجل الدفاع عن مصالحها الجيوستراتيجية في مختلف اصقاع الكرة الارضية.
ان تغيير لهجة الخطاب السياسي للادارة المسيحانية من “حرب ضد الارهاب” (اعتبارا من 2001) الى “كفاح في سبيل الحرية وضد الطغيان والاستبداد” (اعتبارا من 2005) لا يعني تغيرا جوهريا في استراتيجيتها السياسية ـ العسكرية، بل يعكس ديماغوجيا سياسية، واعترافا معينا بفشل حملتها، ومحاولة تكييف مخادع للتبشير الدعاوي الذي تضطلع به الزمرة المستبدة في الادارة الامريكية.
تسير على قدم وساق صيرورة تشكّل شريحة او طبقة اجتماعية على نطاق دولي، تتماثل وتتشابك مصاحها الطبقية، تحت راية ايديولوجية نازية ـ فاشية جديدة، مصرّة على لعب اي دور يضمن لها امتيازاتها ومصالحها، على حساب بقية البشرية. هذا الواقع، في رايي، خلق الاساس المادي لاقامة تحالف سياسي ـ عسكري انتهازي بين مختلف القوى والبلدان تحت قيادة امريكا.
يمكن تلمس ظاهرة جديدة من الاندماج المتكامل بين الاصولية المسيحية (البوشية) والاصولية اليهودية (الشارونية). ان التماثل والاندماج الايديولوجي ـ الديني (الصهيونية المسيحية ـ الصهيونية اليهودية) يفسر مستوى التداخل المسامي العضوي، السياسي، الاقتصادي، الاخلاقي، والعسكري، بين الادارتين الامريكية و”الاسرائيلية”، وتقاسم وتكامل الوظائف بينهما، في مختلف المسارح الدولية، تبعا لمصلحة وامكانية كل منهما.
اللجوء الى شكل الاستعمار القديم. وهذا نكوص (طفرة سلبية) ايديولوجي وسياسي للراسمالية مافوق المتطورة. ان التدخل العسكري واحتلال بلدان مستقلة وذات سيادة واعضاء في الامم المتحدة، على يد امريكا وحلفائها الرئيسيين، ليس الا محاولة لفرض العولمة الليبرالية الجديدة على بقية البشرية، اي، “عسكرة العولمة حسب تعبير سمير امين، وهذا ما يفترض بالضرورة عسكرة السياسة الخارجية الامريكية بعينها.
هذا البعد الجديد اخذ يتجلى في العلاقة مع البلدان التي تتعرض للحملات العسكرية الامريكية كما هو الامر في العراق ومن المحتمل ايضا في الحالة الفلسطينية وغيرها. زبيجنيو بريجنسكي (مستشار الامن القومي في ادارة جيمي كارتر) ينتقد هذا النكوص السياسي ـ العسكري،عندما يدلي برايه قائلا ” ان الحروب الاستعمارية الامريكية في عصر ما بعد الاستعمار يمكن ان تمنيها بالهزيمة؛ هذا هو العيب القاتل في سياسة بوش الابن”[15].
العدوان الجامح على الشرعية الدولية والقانون الدولي وهيئاته ومنظماته ومؤسساته، في محاولة لضمان عصمة مطلقة للامبراطورية من العقاب، وتكريس الداروينية وقانون الغاب في المجتمع البشري والعلاقات الدولية، اي (الداروينية الاجتماعية).
هذا الواقع يبرهن على وجود انتقال من “تعددية الاطراف” التي دفع به جورج بوش الاب في وثيقة امريكية رسمية سريّة تحمل عنوان “استراتيجية الامن القومي الامريكي. آب 1991” الى “الانفرادية” العلنية والعدوانية، وادارة الظهر للامم المتحدة ولاكثرية الحلفاء و”الاصدقاء”، متسلحة بمبدا غير عقلاني اختلقته الفاشية الشتراوسية: “من ليس معنا فهو ضدنا” الذي رفع رايته جورج بوش الابن.
محاولة اضفاء الطابع الديني على الصراعات الدولية، ولا سيما حرب امريكا ضد “الارهاب”[16]. يا لها من مفارقة! ” الدولة الوحيدة التي صوتت الى جانب اسرائيل، ضد قرار صادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1987، يدين الارهاب الدولي، كانت امريكا بذاتها”[17].
ان نظريات “نهاية التاريخ” و”صدام الحضارات” التي تشكل فلسفة سياسية لادارة جورج بوش الابن، ليست الا تاسيسا ايديولوجيا وتبريرا نظريا للرؤية الكارثية للتاريخ والبشرية.
خلاصة القول ان ادارة جورج بوش الابن حظيت بجهاز ايديولوجي ـ سياسي، وجبروت عسكري وتحالف طبقي ، قومي ودولي، مهد لسلوكها الاستفرادي والواقعي الموغل في تطرفه والفاشي صراحة في علاقاتها الدولية.
[1] المصدر : موقع ريبليون بالاسبانية http://www.rebelion.org/noticia.php?id=9395
[2] الهزيمة العسكرية التي تكبدها الجيش الصهيوني امام المقاومة اللبنانية في حرب حزيران ـ تموز 2006، التي امرت بها وقادتها امريكا سياسيا وعسكريا عنت نكسة اضافية للسياسة الخارجية للادارة. ونفس الامر ينطبق على صمود المقومة في غزة ديسمبر 2008 ـ يناير 2009.
[3] التقارب والتعاون العسكري لروسي الصيني واقامة منظمة تعاون شنغهاي يمكن ان يشكلا جنين حلف عسكري معارض لامريكا في القارة الاسيوية.
[4] المصدر: موقع دنيا الوطن http://www.alwatanvoice.com/articles.php?go=articles&id=17043
[5] عيسى شطات، الامبريالية امريكية منذ عقيدة مونرو حتى عقيدة بوش، منشور يوم 10 نوفمبر 2004 على موقع البصرة الالكتروني. http://www.albasrah.net
[6] عبد الوهاب المسيري، “امريكا والصفقات العسكرية مع اسرائيل”، منشور يوم 24 مارس 2007، على الموقع الفلسطيني للاعلام.
http://www.palestine- nfo.info/Ar/default.aspx?xyz=U6Qq7k%2bcOd87MDI46m9rUxJEpMO%2bi1s7gXqnudRlVu0DZJw%2fcJL2pm3DhNFFZdf8UK5a%2bXdkI0ED%2fSy989yJDJqSoGTPk8DDXSOufV%2bavBQKtiKh0B8Ep%2bYf2JkZcALMVsbRJcLjIrI%3d
[7] نشرة انتورنوEntorno الكوبية، العام الثالث، العدد رقم 6 الصادر بتاريخ 20 يناير 2005.
[8] نورالدين عواد، الاسلام والاقتصاد الدولي. تفاعل مع ثقافات اخرى. نشر على موقع الحزب الشيوعي في مدريد. http://www.profesionalespcm.org/php/MuestraArticulo2.php?id=1862
[9] المصدر السابق.
[10] عادل سمارة، رئيس تحرير مجلة كنعان العربية اللسطينية,
[11] اعني بـمصطلح “اعادة قطعنة”، نية المركز الامبريالي العالمي في تذرير (تفكيك) الدول القومية او شبه القومية في بلدان تخوم النظام الراسمالي العالمي من اجل اعادة تركيب عناصرها التكوينية على شكل “دويليات” على اسس عرقية، دينية، مذهبية…الخ. لايمكن لدويلات كهذه، في اية حالة من الاحوال، ان توفر الشروط التى لا بد منها لكي تتحول الى دول ذات سيادة ومستقلة، ولهذا السبب فانها ستلجأ الى المركز العالمي للراسمالية بحثا عن الدعم الاقتصادي والعسكري بشكل اساسي.
[12] “السيادة تعني السلطان المطلق والمؤبد للجمهورية. المطلق يعني الصلاحية في سن وابطال القوانين والمؤبد يعني السلطان غير القابل للنقض الى اجل غير مسمى”. المصدر موقع لاتيني متخصص بالشؤون الحقوقية.
. (http://html.rincondelvago.com/estado-y-derecho-internacional.html
[13] طليعة فونغ (رئيسة الرابطة الكوبية للابحاث الفلسفية)، “ماركس وعلم السلوك السياسي” منشور في ابريل 2003 على موقع لاتيني http://bibliotecavirtual.clacso.org.ar/ar/libros/cuba/if/marx/documentos/22/Marx%20y%20la%20ciencia%20de%20los%20comportamientos%20pol%EDticos.pdf.
[14] نقلا عن موقع فضاءات سياسية الارجنتيني بتاريخ 9 ديسمبر 2004
http://www.espaciospoliticos.com.ar/academicos/hardt.html
[15] موقع المركز الدولي لدراسات امريكا والغرب بتاريخ 12 يناير 2007.
http://www.icaws.org/site//modules.php?name=News&file=article&sid=9271&mode=&order=0&thold=0
[16] مع اختفاء العدو الاحمر، نقلت امريكا محور المواجهة نحو العدو الاخضر، حتى الان، وربما بعد حين الى العدو الاصفر. انها “عقدة الاشارة الضوئية” التي جاءت لتنسخ “عقدة فيتنام”. الكاتب
[17] موقع البصرة الالكتروني بتاريخ 7 يونيو 2007.
http://www.albasrah.net/ar_articles_2007/0607/jasani_080607.htm