ملامح فقدان إنسانية البشرية:
سقوط مفهوم فائض القيمة المتحصل عن العمل
د. توفيق شومر
تندغم اليوم فلسفة ما بعد الحداثة بأخلاقيات عالم العولمة الحديث، فتتحول الحقيقة إلى حقيقة فردية لا يرى الإنسان الفرد فيها أكثر مما يراه هو من حقيقة، وتصبح الحقيقة الموضوعية المستقلة عن الذات العارفة ضربا من الحلم الذي يعاني الكثيرون في البحث عنه والوصول إليه. وتصبح الفردانية سيدة الموقف والتفكيك أداته الأولى في تحطيم النسيج الاجتماعي والكل الإنساني.
ازدهار الفكر الوجودي
ازدهرت بعد الحرب العالمية الثانية، الكثير من المحاولات الفكرية المنادية بنشر فكر إنساني، وقد يكون أكثرها شهرة الفكر الوجودي وعلى الأخص فكر جان بول سارتر. والذي حاول أن يقدم فكراً يوقف السعي نحو التدمير الذي تسير به الإنسانية فهو الذي قال منذ خمسين عاماً أن أصعب ما يواجه البشر اليوم هو أنهم يعلمون “أن في استطاعتهم تدمير الكون.” هذه الحقيقة هي للأسف الحقيقة التي ما تزال تحكمنا اليوم. فعلى الرغم من الاتفاقات المزعومة للحد من انتشار الأسلحة النووية فإن المخزون العالمي لهذه الأسلحة كفيل بالقضاء على العالم أربع مرات لا مرة واحدة فقط. وهذا هو الغريب بالموضوع. فإذا كان الغرض من السلاح النووي هو الردع كما تدعي الدول التي تخزنه فإن مخزونه يكفي لتحطيم العالم لمرة واحدة كفيل بالردع فلماذا الإبقاء على المخزون الحالي؟
الغريب بالموضوع أن الدول النووية هي الدول التي تفرض السياسات العالمية في عالم العولمة الحالي وهي التي تحدد من يحق له أن يكون في النادي النووي ومن لا يحق له ذلك. فهي تغض الطرف عن دول تملك ترسانات نووية كدولة الكيان الصهيوني بينما تعتبر أن مجرد التفكير باقتناء التقانة النووية وحتى لأغراض سلمية غير مقبول لدول أخرى كإيران. ولكنها وعندما تمتلك أي من الدول قوة الردع النووية يتحول التعامل معها إلى أسلوب مختلف فلا تعود لغة الحرب والدمار هي اللغة السائدة في التعامل معها بل لغة الحوار لوقف تطور قوى الردع النووي عندها. فعلى الرغم من تصنيف الولايات المتحدة لكوريا الشمالية على أنها من دول محور الشر، إلا أن لغة الحرب والضربات الاستباقية لا تفرض نفسها على التعامل مع كوريا، بل تؤكد هذه الإدارة أن الحل في شبه الجزيرة الكورية يجب أن يكون سلمياً بالعقوبات والحوار متعدد الأطراف. لكن عندما يكون الحديث عن إيران مثلاً يتم الحديث بصراحة بأن الاحتمالات كلها مفتوحة، إن كان ذلك في الحقيقة هي السياسة التي ستنفذ ضد إيران أو لا فتلك قضية أخرى.
النزعات الإنسانية التي انتشرت في العالم تنوعت من النزعات الوجودية إلى النزعات الدينية لكنها لم تتمكن من الانتشار بل بقيت محض أفكار. فالعالم اليوم لا يحتكم لفكر إنساني بل لفكر الدمار والحرب المتمسك بفكر ما بعد الحداثة. ولكن لماذا تمكن هذا الفكر من بسط نفوذه على العالم المعولم اليوم؟ هذا هو السؤال الذي سأحاول التصدي له هنا.
البورجوازية الصناعية
عندما تمكنت البورجوازية الصناعية من السيطرة السياسية عبر الثورات التي انتشرت في العالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت هذه البورجوازية، وعلى الرغم من التنوع الفكري الغني الذي يمكن أن نعتبره نتاجا طبيعيا لسيطرة نمط الإنتاج الرأسمالي، تدافع بشكل أساسي عن الفكر الليبرالي، على المستويين السياسي والاقتصادي على الأقل، ويمكن لذلك اعتبار الفكر الليبرالي على أنه فكر الطبقة البرجوازية الصناعية. (هنا لا بد أن نوضح بأنه وعلى الرغم من التبني العام للفكر الليبرالي إلا أن الطبقة البرجوازية الصناعية تنوعت في مواقفها من القضايا الأخلاقية بحسب الارتباطات الثقافية والاجتماعية الخاصة بكل بلد (وبكل منطقة) من بلدان العالم الرأسمالي.
وعند تتبع الواقع السياسي لتلك الدول، نستطيع الادعاء بأن الطبيعة السياسية للبرجوازية الصناعية المسيطرة في الغرب كانت تحمل في طياتها وجهين: وجها للحياة وآخر للموت. فبينما كانت تتوسع استعمارياً وتنافس بعضها على أساس قومي في إطار من الحروب المحدودة والكونية، وتحارب من أجل السيطرة على المصادر الطبيعية، وتستخدم في سبيل ذلك كل وسائل الموت والإبادة؛ كانت في الوقت عينه تدعم جانب الحياة في سعيها إلى بناء آليات اقتصادية جديدة تفتح آفاق العمل لجموع كبيرة من البشر، وتدعم العلم والتقدم التكنولوجي، وهي تعطي (عندما تضطر لذلك) حقوقاً أكبر للطبقة العاملة وتساهم في تطوير علاقات العمل وتطوير الضمانات الاجتماعية في دولها. وإن كان بعض من جوانب الحياة التي تقدمه كانت تقدمه ملزمة وتحت ضغوط المطالبات العمالية، إلا أن هذه الجوانب أبقت روح الإنسانية قائمة ولم تحول نمط الرأسمالية القائمة إلى أن تكون رأسمالية متوحشة، على الرغم من أنها اضطرت للبس وجهها الإيجابي بغرض تحقيق ربحية أكبر فقط.
كان للتحولات والتغيرات المعقدة التي فرضت نفسها على العالم على المستويات الاقتصادية والسياسية بعد الحرب العالمية الأولى وانتصار أول ثورة اشتراكية الأثر الأكبر في أن تتبنى هذه الدول لهذا النوع من التحول الإنساني. فلكي تتمكن هذه الطبقة من وقف زحف الثورات الاشتراكية غرباً كان لزاماً عليها أن تقدم بعض التنازلات الضرورية للطبقة العاملة في بلدانها وتحد بهذه الطريقة من إمكانية الفكر الاشتراكي على استقطاب الجموع الغفيرة نحو التغيير في تلك الدول. وتمثل هذا التحول بتعديل فيما تقدمه هذه البرجوازيات للطبقة العاملة من تأمينات صحية وتقاعد وغيرها من الاستحقاقات الاجتماعية التي بدأت بالانتشار في العالم الغربي ولو بشكل محدود قبل الحرب العالمية الثانية ولكن وبشكل واسع جداً بعد الحرب العالمية الثانية. واتضح مع هذه التغييرات طبيعة البرجوازية المتمثلة في قدرتها على تجديد ذاتها. فهي لا تستطيع أن تستمر بالسيطرة إلا إذا تمكنت بين الحين والآخر من إدخال تغييرات ثورية (نوعاً ما) مستمرة على أدوات الإنتاج، وبالتالي على علاقات الإنتاج، وهذا ما سيؤثر بالضرورة على العلاقات الاجتماعية برمتها.
واستمرت سيطرة البرجوازية الصناعية لفترة غير بسيطة في المجتمعات الرأسمالية إلى أن بدأ النهج الصناعي القديم في الاهتزاز أمام الكثير من المتطلبات القانونية والعمالية في دول العالم الصناعي القديمة (دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية). وظهر بديلاً عنها الصناعات الأقل كلفة كالصناعات القادمة من دول جنوب شرق آسيا واليابان تحديداً. الاختلاف الأساسي بين هذه الصناعات والصناعات القديمة هي في اعتمادها على نمط تصنيعي مختلف عن ما يعرف بخط الإنتاج التقليدي، ويعرف هذا الإنتاج بالإنتاج المقنن أي الذي يحاول أن يستغل الموارد المتاحة بشكل كامل دون أن يعطي فرصة للهدر (من خلال الأتمتة العالية أو الحوسبة الصناعية).
وهذا التحول أدى بالكثير من المصانع الكبيرة وتحت وطأة المنافسة الشديدة التي شكلتها الصناعات اليابانية ووطأة ارتفاع الكلفة التصنيعية في مواطنها إلى اتخاذ قرارات بنقل القسم الأكبر من العملية التصنيعية إلى البلدان ذات الكلفة التصنيعية الأقل كدول أميركا الجنوبية ودول جنوب شرق آسيا. وبدأت أيضاً الصناعات ومنذ منتصف الثمانينيات بالتحول إلى النموذج الياباني وطبقت بالتالي خطوط الإنتاج المقننة، وحدثت الثورة التقنية الجديدة على مستوى التصنيع وأدى ذلك إلى إعادة النظر في توزيع القوى العاملة على العملية التصنيعية فما كان يستلزم مائة عامل أصبح يحتاج إلى خمسين. كما خلق نوعاً من الانتاج المتعدي للحدود القومية، من خلال شركات عابرة للحدود.
ملاحظة مهمة هنا: فعلى الرغم من أن هذه النزعة في العمليات التصنيعية بدأت بالانتشار خلال التسعينيات من القرن الماضي لا نستطيع أن ننكر أن الإنتاج الأهم للصناعات الحديثة تحديداً (البيوجينية والتقانة العالية والأدوية على سبيل المثال) والصناعات العسكرية والبيولوجية ما تزال متمركزة في المراكز الإمبريالية.
إعادة هيكلة الانتاج الصناعي
أدى هذا التحول في النمط الصناعي إلى تفشي البطالة في الدول الرأسمالية، كنتيجة مباشرة لإعادة هيكلة الانتاج الصناعي بحسب المواصفات الجديدة، مما أدى بالكثير من المصانع إلى الاستغناء عن العمال فيها، حتى بلغت هذه البطالة عتيها في نهاية حقبة الثمانينيات من القرن العشرين. وترافق هذا التحول مع جملة من العوامل المهمة والمتمثلة في تحقيق ثورتي المعلوماتية والاتصالات وانهيار المنظومة الاشتراكية.
التأثير الحقيقي في تراجع سيطرة البرجوازية الصناعية على مقاليد الحكم في العالم الرأسمالي نبع بشكل أساسي من فقدانها للسيطرة الاقتصادية فقد بدأ قطاع الخدمات في البلدان المتقدمة بالتضخم بعد الحرب العالمية الثانية (ابتدأ من 30 % من مجموع القوى القادرة على العمل) ليصل إلى معدلات غير متوقعة، ففي عام 1999 سجل قطاع الخدمات 80 % من مجموع القوى القادرة على العمل. وبالتالي فتقسيم قوى العمل اليوم تتمثل في (الدول المتقدمة فقط): 17 % عمال في المصانع، 2 % عمال زراعيين 80 % خدمات و1 % رؤوس أموال كبيرة. (لنتذكر هنا أن بعض العاملين في قطاع الخدمات يملك مؤسساته الخدمية ولكن هذا لا يخرجهم من تصنيفهم هنا كقطاع خدمي) ويعكس هذا التقسيم حجم القوة الاقتصادية المسيطرة في الطبقة البرجوازية والتي تعكس بشكل أساسي أن الحجم الأكبر للاستثمار هو لرأس المال المالي.
وبما أن الحراك الاجتماعي يؤدي بالضرورة إلى بروز منظومات فكرية متوائمة معه، فقد كان من الطبيعي أن تنحسر النزعة الليبرالية التقليدية لدى البرجوازية المسيطرة وأن تتقدم منظومات فكرية مختلفة لتمثل الطبقة الجديدة. وقد وجدت هذه الطبقة في فكر ما بعد الحداثة البوتقة المناسبة لمنظومتها السياسية المتحركة.
ونظراً لأن الخطر من التحول إلى الاشتراكية انحسر على أكثر من صعيد في هذه الدول، فمن ناحية انحصرت أعداد الطبقة العاملة الصناعية حتى وصلت إلى 17 % فقط من القوى العاملة، ومن ناحية أخرى انهارت دول المنظومة الاشتراكية، لذلك ارتأت هذه البرجوازية التراجع عن المكتسبات العمالية التي تحققت خلال دولة الرفاه. فنرى أن مجمل الدول الرأسمالية الغربية بدأت بتفكيك مفاهيم دولة الرفاه من خلال خصخصة القطاعات الحكومية من نقل وخدمات كالكهرباء والماء والهاتف، إلى التراجع عن التأمينات العامة وخاصة على صعيد العمل والبطالة.
إن طبيعة رأس المال المالي تختلف عن طبيعة البرجوازية الصناعية. فبينما كانت البرجوازية الصناعية مرتكزة على مفهوم فائض القيمة المتحصل عن العمل والانتاج الصناعي، وبالتالي على الطبقة العاملة، كان لزاماً عليها لكي تتمكن من المحافظة على ربحيتها أن تضمن استمرارية قدرة هذه الطبقة العاملة على العمل والانتاج، وبالتالي كان رفع كفاءة العمال وتقديم نوع من الرفاه لهم يساعد في ضمان استمرارية الانتاج. لكن في حال رأس المال المالي، فإن ربحيتها لا تعتمد على راحة الطبقة العاملة. ولذلك فإن الوجه الذي تتمثل به هو وجه واحد متمثل بوجه الدمار والموت.
ملامح البرجوازية الحالية
ولكي نوضح ما نقصده عن أن وجه البرجوازية الحالية هو وجه واحد: الموت، يجب أن نستعرض ما تركز عليه في اقتصادها الخاص. فعلى صعيد رأس المال المالي (الطغمة المالية العالمية): فلهذه البرجوازية آليات قتل مباشرة وغير مباشرة، إلى جانب تحالفها مع أكبر المصدرين في التبادل السطحي أي الاحتكارات العسكرية وهي الاحتكارات التي تنتعش بوجود الحروب والأزمات. وعلى الرغم من أن التوقعات كانت بأن الدور الذي ستلعبه هذه الاحتكارات في فترة ما بعد الحرب الباردة سيتضاءل، إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك. فبدل من التضاؤل انتعشت هذه الاحتكارات من خلال نشوء مجموعة كبيرة من بؤر التوتر الإقليمية في أماكن مختلفة من العالم وصلت بحسب إحصاءات الأمم المتحدة إلى أكثر من 40 بؤرة توتر. هذا بالإضافة إلى إيهامها للكثير من دول العالم بوجود أعداء وهميين تحتاج أن تتسلح في وجههم كما فعلت مع دول الخليج العربي وبالتالي فرضت عليهم شراء ترسانات من الأسلحة التي من الصعب أن يستعملوها في يوم من الأيام.
ونجد أنها تستخدم وسائل غير مباشرة في القتل تتمثل في الآليات التي تمرر فيها سياساتها في “العالم الثالث” من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمجموعات البنكية الأخرى. تقدم هذه البنوك تسهيلات مالية وقروض “تنمية” لدول “العالم الثالث” ولكن ضمن شروط قاسية. فهي تسترد هذه القروض مرتين الأولى من خلال إلزام الدول المقترضة لشراء مستلزماتها من شركات محددة تملكها جزئياً أو كلياً تلك المؤسسات المالية. أو من خلال فرض سياسات مالية واقتصادية محددة أو لتطوير قوانين اقتصادية ومالية كقوانين الاستثمار أو الانفتاح على اقتصاد ما. والمرة الثانية تسترد هذه البنوك أموالها من خلال إلزام الدول لدفع قيمة القروض والفوائد الكبيرة المتراكمة والمترتبة على تلك الدول، مما يجعل هذه الدول تسدد الفوائد دون التمكن من خفض سقف المديونية، ويوصلها بالتالي إلى حالة من البؤس الشديد. أما على صعيد الدول الرأسمالية نفسها فإن رأس المال المالي يعتمد على تبادل سريع لا يأخذ بعين الاعتبار العامل الإنساني في العملية التبادلية إذ أن معظم عمليات التبادل هذه تتم بدون الضرورة للاحتكاك المباشر بين المتبادلين. هذا بالإضافة إلى ما يسمى المنتجات المالية من أوراق مالية ومستندات ومشتقات مالية وتأمين وإعادة تأمين، وغيرها من الحزم المالية التي تفرض على المستهلك من خلال مجموعة من القوانين والتشريعات التي تلزم التعامل مع مثل هذه المنتجات المالية والتأمينية على الدول والأفراد.
وبالعودة إلى البعد السياسي لهذه الشريحة الطبقية نرى أنها لا تحكم بنفسها بل من خلال دعمها لأشكال متنوعة من التشكيلات الطبقية، أو من خلال البرجوازيات المحلية في داخل الدول بينما ترتقي هي في ترابطاتها لأطر تتعدى الأطر القومية. فهي لذلك لا تهتم بالانتماء الطبقي للحزب الذي تدعمه فمن الممكن لها أن تدعم أي من الأحزاب “يمين” أو “يسار” أو “وسط” ما دامت هذه الأحزاب تلتزم بتنفيذ المخططات المرسومة من قبلها. تماماً كما حدث في بريطانيا بدعمهم لحزب العمال بقيادة توني بلير والذي خدم سياسات رأس المال المالي أكثر مما خدمته حتى مارغريت تاتشر. إن هذا التحول في نوع الدعم السياسي أدى إلى إعطاء البرجوازية المالية رافعة سياسية أقوى في السيطرة والتحكم على المجريات السياسية في العالم.
وبالعودة للإجابة على التساؤل الأساسي لهذا المقال نقول أن البناء المفهومي لهذه الطبقة ولفكرها المتمثل بفكر ما بعد الحداثة يمتاز بالتالي:
–أنه يعطي تعريفاً هلامياً للأخلاق يجعل من المحددات الأخلاقية حتى الإنسانية منها كما لو أنها محددات أصولية لا ترتبط بالاحتياجات الطبيعية للإنسان.
–لا يهتم فكر هذه البرجوازية بالمفاهيم الإنسانية على الإطلاق. كما أنها لا تهتم لما يحدث في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية من تشوهات طالما أنها تحقق مصالحها وتتمكن من الاستمرار في تجديد رأس المال.
–لا يهتم هذا الفكر بالعلم ويعتبر العلم كلية مشابهة للكليات الأخرى التي لا بد من تحطيم سيطرته لأنه كالكليات غير قادر على تبرير نفسه. وقد انعكس هذا التعريف للعلم على الدعم المقدم للأبحاث العلمية. فقد توقف الدعم المالي للكثير من الأبحاث التي كانت تعالج مفاهيم علمية مهمة ولكنها لا تنعكس بشكل مباشر على الربحية. أي أنها لا يمكن تحويلها إلى سلعة قابلة للتداول.
–لا يعتمد على توضيح المفاهيم والتعريف بها إذ إن المعنى لا أهمية له فكل شيء يمكن تفسيره بحسب التفسير المرغوب به من قبل المستقبل لا باتفاق معنوي عام.
أما عن البعد السياسي لهذه الطبقة وطبيعتها فيمكن تلخيصه بالنقاط التالية:
–الربحية هي المقياس الأول والوحيد للتعاملات التبادلية.
–يهمل العامل البشري لكونه عاملا لا يؤثر بشكل مباشر على معدلات الربحية.
–الارتباط مع البناء الاجتماعي ليس ناتجا عن علاقات الإنتاج في التركيبة الطبقية الاجتماعية، بل ناتج عن القرار السياسي الذي تتخذه هذه الطبقة نتيجة لحاجتها لكي تربط نفسها بالبناء ولكي تضمن نوعاً من الاستقرار الشكلي لهذا البناء. ولذلك فهي ترحب باستقلالية البنوك المركزية وثبات الأسعار النسبي عندما يتعلق الموضوع بالسلع الاستهلاكية ولكنها هي التي تحدد من منظور العرض والطلب والتداول النقدي أسعار التبادلات الخدمية والمالية.
ظهور الاغتراب الجديد
الواقع الاجتماعي في ظل سيطرة رأس المال المالي يؤدي إلى نوع جديد من الاغتراب يتجاوز الحدود السابقة لمفهوم الاغتراب في ظل الرأسمالية غير المتوحشة. ذلك أن الموظف يتحول بشكل كامل ليكون جزءا من الآلة الاقتصادية الرأسمالية كما العامل في البناء الصناعي ولكن يضاف إلى ذلك أنه سيكون مستلباً على صعد أخرى من خلال التأثير المباشر عليه من الإعلام الموجه ومن خلال التفكك الاجتماعي للعلاقات. فالعامل في هذا البناء تتحول علاقته مع المجتمع لتكون علاقة غير تبادلية فهو عنصر متلق سلبي لما يحدث في مناطق أخرى من العالم وهو يتعرف عليها من خلال شاشة التلفاز. ولأن المؤثرات الحسية في وسائل التسلية المعروفة حالياً بدأت تأخذ بعداً واقعياً نوعاً ما فإن الخلط على الإنسان العادي غير المطلع سيكون كبيرا بين الواقع المعاش والواقع المفروض عن طريق المؤثرات المدمجة.
أما على الصعيد العالمي فقد نشأ تحول أساسي في تقسيم العمل، فتبرز المؤشرات الاقتصادية الجديدة نزوعا نحو تقسيم العمل على الصعيد العالمي بحيث يتم استغناء دول المراكز عن العديد من الصناعات الخفيفة والمتوسطة لصالح الاقتصاديات الناشئة أو اقتصاديات الأطراف. وبالتالي فإن ما نراه حالياً من تقسيم طبقي عالمي هو نتاج لتقسيم العمل هذا. فالسوبر – إمبريالية التي تحدث عنها كارل كاوتسكي في بداية القرن الماضي بدأت بالتبلور الفعلي. ولكنها أبعد ما تكون عن وصفه لها بالمسالمة أو ما أمل به من تصالح بينها وبين الطبقة العاملة انطلاقاً من مسلمات أيديولوجية. فكما هو واضح اليوم فهذه البرجوازية المالية خرجت عن أطر المفاهيم السائدة للبرجوازية الكلاسيكية بانفصالها عن الإطار القومي وتعديه إلى أطر عالمية.
فالمؤشرات تفيد أن الشركات المالية متعدية الجنسيات تختلف عن الشركات متعددة الجنسيات في كونها لا تعتبر مركز تسجيلها كمركز قومي لها بل هو مجرد مركز للتعاملات القانونية ليس أكثر وأينما كان القانون المطبق أكثر مرونة وانسجاماً مع أغراض الشركة ومصالحها المالية كان الموقع المناسب لتسجيل الشركة. والآن ومع التعاملات التجارية على الشبكة العنكبوتية أصبح من غير الضروري للموقع الرسمي للشركة أن يكون في أحد المراكز الرأسمالية الكلاسيكية طالما كانت إمكانية التحرك والتبادل الحر للتعاملات المالية والتجارية قائمة ولا تفرض عليها القيود أو ليست معرضة لأخطار سياسية.
في النهاية نقول إن ما تدعيه هذه القوة المسيطرة عالمياً من تحول العالم إلى قرية صغيرة لهو أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالعالم يقترب طالما كان التقارب لرأس المال وللربحية، بينما يبتعد ويركز على الاختلافات إذا تعلق الموضوع بالثقافة والحقوق والحريات.
:::::
* رئيس قسم العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة فيلادلفيا
المصدر: “الغد”
http://www.alghad.com/index.php/article/388154.html