التنمية في فلسطين بين صعوبات الواقع وتحديات المستقبل:
قراءة في كتاب “وهم التنمية“
الباحث الإقتصادي: أحمد أبو بكر
صدر عن مركز بيسان للبحوث والإنماء كتاب “وهم التنمية: في نقد خطاب التنمية الفلسطيني“. يضم في طياته أربعة أوراق بحثية هي خلاصة الجهد لخمسة باحثين في مجال التنمية. لم تتناول هذه الأبحاث التنمية كموضوع بحث، وإنما قدمت بحثاً في السياسة وفي قضايا إجتماعية تحت تسمية إقتصاد وتنمية، النقد وجهتة سياسية وشبه إيدولوجية بالدرجة الأولى للأطراف الفاعلة في عملية التنمية بما فيه القطاع العام، والقطاع خاص، والمنظمات غير حكومية والمانحين. الهاجس المشترك لهذه الأوراق البحثية هو تقييم دور وصدق نوايا هذه الأطراف لتحقيق تنمية كمدخل لنقدهم بتقديم تشخيص موجز، أو مقدمة لوضعية إقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة كي يتمكن القاريء أو المحلل من تكوين معرفة ما بالموضوع المبحوث، و/أو الإنتهاء بموقف سياسي دون طرح بدائل لا سياسية ولا تنموية. فإتخذوا من تحليل خطاب الأطراف الفاعلة أساساً للحكم على مدى إلتزامها بتطوير رؤية إستراتيجية تنموية، وتأثيرها بصفة عامة.
يشمل الكتاب على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، والمنهجية الموظفة إرتكزت على مراجعة بعض الأدبيات والمصادر الأكاديمية والبحثية المنشوره محلياً واقليمياً ودولياً بما فيها خطط التنمية الفلسطينية ما بعد أوسلو. نرى أن المعالجات الواردة في الكتاب تعاني من إشكالية مزدوجة، فهي تحاول التحليل على أرضية تنموية ماركسية دون قدرة على حمل ضغط هذه النظرية/ات من جهة، وتنتقد الليبرالية دون أن تقدم أمثلة نقدية واضحة عن التنمية الليبرالية، فوقعت بين منهج غير مكتمل، ورفض آخر دون عرضه وتحليله. وربما كان أحد أسباب هذا، غياب النقد في هذا البلد مما يسمح بمقاربات تزعم أنها نظرية، لكنها عن ذلك بعيدة. وهو ما فتح باباً للفتاوى أكثر مما هو للإبداع النظري.
تناولت المقدمة الإطار النظري والمنهجي للكتاب، وبعض ملامح أزمة التنمية في فلسطين، تناول الفصل الأول المال والسياسة وتشكيل الخطاب مع التركيز على دور القطاع العام في عملية التنمية، وركز الفصل الثاني على دور القطاع الخاص في عملية التنمية، أما الفصل الثالث تناول المنظمات غير الحكومية والفصل الرابع تمحور حول دور المؤسسات الدولية ومجتمع المانحين.
هذه المقالة تمثل الحلقة الأولى من سلسلة مقالات سيتم نشرها تباعاً تخصص لمراجعة هذا الكتاب، حيث تركز على مناقشة الأفكار الواردة من خلال تقديم قراءة للكاتب في المقدمة والفصل الأول من الكتاب فقط.
مقدمة في نقد التنمية
إستعرضت الباحثة أيلين كتاب الإطار النظري والمنهجي للكتاب وبعض ملامح أزمة التنمية في فلسطين. إعتبرت أن الإطار النظري والمنهجي بمثابة فرصة حقيقية لتقديم مراجعة نقدية وموضوعية للتجربة التنموية في فلسطين ما بعد أوسلو، وترى أن ما يميز مشروع هذا الكتاب هو أولاً رؤيته النقدية في تحليل خطاب التنمية الليبرالي الذي تبناه الفاعلون وتعامله مع مفهوم التنمية الشامله ليس فقط في مضمونها الإقتصادي بل في إطارها الإنساني والإجتماعي والسياسي.
فيما يخص التنمية الشاملة، وهي رؤية الباحثة والتي تعكس وجهة نظر الكتاب أيضاً، لم توضح للقاريء عن أي تنمية شاملة تتحدث؟ وما هو إطارها النظري والمفاهيمي، هل تستند على وجهة نظر رأسمالية، أم وجهة نظر إشتراكية أم خليط بينهما، وما هي ملامحها وأهدافها ومحدداتها ومميزاتها ومن سيقوم بإعدادها وتطبيقها، وما هي المبررات لإختيار هذه الرؤية الإستراتيجية، هل تناسب الحالة الفلسطينية بخصوصيتها ووضعها المعقد والمركب، هل التنمية في مرحلتها الراهنة تفتح مجالاً للتنمية على أساس شمولي، وهل ستكون قائمة على دينامية الإعتماد على الذات أم على التمويل الخارجي؟ حيث أن الباحثين المشاركين في هذا الكتاب إعتبروا التمويل الخارجي أداه للتأثير في الخطاب الفلسطيني الرسمي والهيمنة على المنظمات غير الحكومية لإستلاب دورها التنموي لتتحول إلى ناقل ومروج للأفكار الليبرالية من خلال برامج تمويل. قد يكون طرحها مقبولاً – أي التنمية الشاملة- لو قدم الكتاب مسحاً كافياً للأدبيات الفلسطينية حول الإقتصاد والتنمية ومن بينها من كان مع التوجه الليبرالي ومن له موقفاً أو رؤية مختلفة.
وهنا، المفارقة أن يصدر هذا الكتاب ضمن إتفاقية تعاون مع عدد من المانحين. فقد جاء في المقدمة ” أن مشروع هذا الكتاب يعتبر جزءاً من مشروع إنتاج متواصل لأربع سنوات يمثل هذا الجزء حلقته الأولى” أما الحلقات الأخرى سيتم فيها تقديم نموذج تنموي يصب لصالح التحرر الوطني والتنمية المستدامة”. لماذا إنتظر مركز بيسان كل هذه السنوات دون بلورة إستراتيجية تنموية تساهم في التحرر الوطني وتعتقنا من شر الإحتلال والتبعية، لماذا الإعتماد على مال المانحين والمؤسسات الدولية، وقد إنتقدوا دور الممولين والمؤسسات الدولية دون إستثناء وبغض النظر عن التمويل ومصدره وإعتبروه مال سياسي مدفوع الثمن! أم أن هذا الكتاب تم تمويله بمال غير مسيَّسٌ؟ وإذا كان هذا هو الحال، فليرشدنا مركز بيسان لهذه المصادر. على أية حال، نتمنى من مركز بيسان تطوير نموذج تنموي يعتمد على التمويل الذاتي وليس الخارجي.
تضيف الباحثة ” أما عن مؤشرات التنمية الصادره عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فهي تبين عمق أزمة التنمية وتراجعها، وإعتبرت أن المسؤول عن هذا التراجع هما: ممارسات الإحتلال وسياسة الحصار والإعتداءات العسكرية من جانب، وسياسات التنمية الوطنية والتي ركزت إقتصادياً على قطاعات غير إنتاجية وخدماتيه لم تستطع أن تغير في بنية سوق العمل وتوسيعه، أو من تغيير البنية القائمه على أساس النوع الأجتماعي من جانب آخر”.
تظهر بعض الملابسات والمغالطات لا بد من التوقف عندها، فبخصوص مؤشرات التنمية، نود الإشاره أن الباحثة وقعت في فخ الخلط بين مفهوم التنمية والنمو الإقتصادي، فجميع المؤشرات التي أوردتها هي مؤشرات إقتصادية إجتماعية ناقصة، فقد أوردت بعض الإحصاءات عن الأمن الغذائي، الأرتفاع في الاسعار، سوق العمل ونسبة القوى العاملة المشاركة، ومعدلات البطالة لسنوات مختلفة. حبذا لو تناولت الباحثة مؤشرات التنمية المعروفة مثل مستوى ومعدلات الفقر، مستوى الرعاية الصحية والتعليم، مستوى الرفاهية، حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، عدالة توزيع رأس المال، الإدخار والقدرة على الإستثمار في المشاريع الإنتاجية، الخ.
من الغرابة أن تساوي الباحثة بين ممارسات الإحتلال وسياساته وفشل نتائج سياسات التنمية التي تبنتها السلطة الفلسطينية، مع التأكيد أن الأخيره ساهمت في تراجع مؤشرات التنمية، ونرى أن الإحتلال هو المسؤول الأول عن فشلها. ويوافقنا الرأي الباحث إياد الرياحي الذي كتب الفصل الأول من هذا الكتاب حيث إنتقد السلطة الوطنية الفلسطينية وبعض الجهات الدولية بأن الاحتلال هو أحد الاسباب لفشل التنمية ” إن تشخيص السلطة الفلسطينية وخططها التنموية، إضافة الى بعض الجهات الدوليه ذات التأثير الكبير في بناء المفاهيم التنموية محلياً، بأن الإحتلال هو واحد من أسباب عديدة تحول دون بناء تنمية فلسطينية، إن هذا إدعاء مضلل، لأن الإحتلال مجهض ومدمر لفكرة ومفهوم التنمية المستدامة ” ولكن في موطن آخر من هذا الفصل يناقض هذا الإقتباس ليعدد أسباب فشل التنمية في فلسطين: الفساد الممول الذي تعيشه السلطة الوطنية الفلسطينية، المستوى البنيوي للسلطة الوطنية الفلسطينية، والعجز المتراكم في ميزانيتها، وسياسة المانحين التي تعتمد على تقديم برامج تمويلية وليست برامج تنموية. من اللافت أنه لا يوجد منهجاً مشتركاً في تحليل المشكلة. طبعاً لا ننتقص من حرية الرأي، ولكن ربما من حقنا القول أن مشروعاً فكرياً مشتركاً يفترض منهجاً موحداً.
ربما كان على الباحثة التعمق في الأسباب التي أدت الى الوصول إلى أزمة التنمية – على الرغم من وجود نمو إقتصادي في السنوات الأخيرة – من وجهة نظر إقتصادية، فلم يقدم الكتاب تحليلاً شافياً للمشاكل الإقتصادية المزمنة الناتجة عن تراجع القطاعات الإنتاجية وعجز الميزان التجاري وعدم توزيع الثروة بشكل سليم. بل تم المرور على بعض المشاكل والمؤشرات الإقتصادية مرور الكرام، فكان من الأجدر الغوص في عمق البنية وخصوصية التركيبة الإقتصادية ومعالجة الإختلال الداخلي على مستوى القطاعات وعلى مستوى الشركات ايضاً وعجز الموازنة العامة والتباين بين الإدخار والإستثمار وكذلك الإختلال الخارجي المتمثل في عجز ميزان المدفوعات. حيث تتلقى السلطة الوطنية الفلسطينية من الدول المانحة مساعدات فعلية بحوالي 700 مليون دولار أمريكي سنوياً. ويشير التوزيع القطاعي لهذه المساعدات الى تضاؤل حصة القطاعات الإنتاجية وإرتفاع حصة الأمن فنصيب القطاع الزراعي لا يتعدى 1% من مجمل المساعدات، وتقريباً حصة التنمية بالمعنى الفعلي قريبة من الصفر.
تعتبر التجارة الخارجية من أهم ميادين السياسة الإقتصادية نظراً لتأثيرها الكبير على التطور الإقتصادي سلباً أو إيجاباً. وأهداف سياسة التجارة الخارجية ليست مستقلة بل هي أدوات لتحقيق إستراتيجية التنمية الإقتصادية والإجتماعية. ويعتبر الميزان التجاري لدولة ما المرآة التي تعكس مستوى وخصائص تطور إقتصاد هذا البلد وإتجاهات تخصص وتميز هذا الإقتصاد، معبراً عن ذلك بحجوم ونوعيات الصادرات والواردات من السلع ومن الخدمات، وبرصيد الميزان التجاري. ويعبر تطور العلاقة النسبية بين قيمة وحدة الصادرات وقيمة وحدة الواردات، وما يسمى بشروط التجارة عن تطور فعالية إقتصاد هذه الدولة مقارنة بتطور فعالية الإقتصادات الأخرى، أي هل يتقدم هذا الإقتصاد أو يتأخر.
وعليه، لو نظرنا إلى الإقتصاد الفلسطيني لوجدنا أنه يعاني من توسع الواردات الرأسمالية (إستيراد آلات والسلع الإنشائية) وبدون أن تستغل في مشاريع منتجة إستغلالاً جيداً، حيث أن معدل الطاقة الإنتاجية المستغلة في المشروعات الإقتصادية في فلسطين لا تتعدى 40 %، ويعاني الإقتصاد أيضاً من إستيراد مكثف لسلع إستهلاكية نتيجة لإختلال وضعف القاعدة الإنتاجية وقصورها عن إنتاج سلع منافسة أو بديلة، فالدراسات تقدر أن حصة المنتج المحلي في السوق المحلي لا تتعدى 20 %، بمعنى أن حوالي 80% من المنتجات في السوق المحلي يتم إستيرادها من الخارج وبشكل خاص من إسرائيل، وتبلغ نسبة الواردات من إسرائيل حوالي 80% من إجمالي الواردات الفلسطينية، لذا يجب العمل وتكاتف الجهود للعمل على زيادة الحصة السوقية للمنتجات المحلية في السوق المحلي، فزيادة الحصة السوقية بنسبة مئوية واحدة يعني خلق عشرات آلاف فرص العمل. كذلك يجب ألا ننسى أن عدم الإستقرار السياسي والأمني والإقتصادي أدى الى هروب رؤوس الأموال الفلسطينية للخارج أو الإستثمار بقطاعات الإستهلاك الترفي وشبه الترفي.
وبرأينا أن هروب رأس المال إن كان مبرراً، فليس مبرراً الهروب للإستثمار في إسرائيل تحت أي ظرف. ونشر الباحث الإقتصادي عيسى سميرات في رسالة الماجستير المقدمة لجامعة القدس عن الوضع الإقتصادي تبين أن حجم الإستثمار الفلسطيني الخاص في إسرائيل والمستوطنات يفوق أضعاف حجم الإستثمار في الضفة الغربية، فقد بلغ حتى العام 2010 حوالي 2.5 مليار دولار أمريكي، وهناك إحصاءات تقول أن قيمة الإستشمار هي ضعف المبلغ المذكور وقد تصل إلى 5.8 مليار دولار. ولغرض المقارنة، فإن حجم الإستثمار الفلسطيني الخاص داخل الضفة الغربية، للعام 2011 كان 1.58 مليار دولار فقط. ويعتقد الباحث في جامعة القدس أنه لو إستثمر 2.5 مليار دولار في أراضي السلطة الفلسطينية لكان بوسعها بتقديره أن تخلق 213 آلاف فرصة عمل للفلسطينيين.
من المفيد هنا أن نشير إلى أن الإقتصاد الفلسطيني يعاني من هيمنة الطابع الإستهلاكي، حيث يفوق الإستهلاك النهائي الناتج المحلي الاجمالي، ويجب الإشارة هنا أن القدرة الإستهلاكية الفلسطينية لم تنتج عن فائض العملية الإنتاجية المحلية، بل هي ناتجة عن التمويل الأجنبي. للأسف هذا هو واقعنا، وأعتقد أن الكتاب لم يقصد أن التنمية من حيث المبدأ هي وهم، بل إنهم يعتبرون مزاعم التنمية من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية هي وهماً، وهذا دافع إضافي من أجل العمل بإخلاص مهما بلغت درجة التعقيد والصعوبة، وكما يقال “قد تكون أفضل الطرق أصعبها، لكن يجب الإستمرار بها”.
الفصل الأول: المال والسياسة وتشكيل الخطاب
إستعرض الباحث إياد الرياحي في هذا الفصل إحدى الجدليات الأساسية المتصلة بإشكالية التنمية، وهي المال والسياسة وتشكيل الخطاب، وتناول عدة مواضيع منها: المفهوم وأزمة التطبيق، ودور السلطة الوطنية الفلسطينية بالعملية التنموية والإتفاقيات التي تم توقيعها بعد أوسلو، وتبني الحكومة الفلسطينية مجموعة من الأدبيات الليبرالية والتي ظهرت جلية في خطة التنمية الأخيرة مثل مفهوم الحكم الرشيد وخطاب الإصلاح، وهذه المفاهيم التي إختلفت الآراء حول تحديد مضمونها وجعلت الدول المانحة من غيابها سببا أساسياً للأزمة التنموية في فلسطين. ويندرج هذا الفصل ضمن المناقشات لتشخيص مشكلة التنمية ودور االفاعلين، ويتمحور بالذات حول دور القطاع العام في العملية التنموية ؟
عرج الباحث على الخطاب الليبرالي الجديد الذي تبنته السلطة الوطنية الفلسطينية الذي إنعكس جلياً في خطط التنمية الفلسطينية. ويرى الباحث أن موضوع خطاب الإصلاح والحكم الرشيد تم فرضه بمعزل عن أي سياق تنموي حقيقي للفلسطينيين بل تم فرضه من الممولين ليتماشى مع الضغوط الإسرائيلية حيث تركز على موضوعي المال والأمن. قد يكون ذلك صحيحا فالدول المانحة لها أجنداتها الخاصة وهذا مفهوم ولكن السؤال أين الأجندة الفلسطينية التي تلبي المصالح والطموحات الفلسطينية. وهنا نتساءل إلى أي مدى يمكن تطبيق مباديء ومعايير الحكم الرشيد على فلسطين كواقع يعيش تحت إحتلال؟ إلى أي مدى التزمت السلطة الفلسطينية بمبادىء الحكم الرشيد ؟ هل كانت النتائج بمستوى التوقعات؟
حبذا لو قدم الباحث تفسيراً واضحاً لرفضه أو إنتقاده للأفكار والمفاهيم الليبرالية الجديدة مثل حكم القانون والشفافية وتقليص تدخلات الدولة التي تبناها الخطب الرسمي الفلسطيني باستثناء أنها فرضت بمعزل عن أي سياق تنموي حقيقي للفلسطينيين. لكن لم يحدد الباحث موقفه من الأطر المفاهيمية والإتجاهات النظرية لهذه المفاهيم، وإنتقاده للسلطة الوطنية الفلسطينية جاء بسبب إذعانها وقبولها بذلك الواقع أم بسبب النتائج المترتبة عليها وما يعنيه من التبعية الإقتصادية المولدة للتبعية السياسية، والذي ينتهي بفكرة التبعية الفكرية التي تخدم المصالح الإقتصادية للرأسمالية العالمية من خلال تقديم خطاب أيدولوجي يتلاءم مع تلك المصالح، أم أن لها مصلحة بإستخدام هذه المفاهيم كأداة تضليل للمواطن الفلسطيني؟
يشكك الباحث بدور القطاع العام، بل يقول “أنه تسبب في إعاقة التنمية وأن هناك شكوك حول إمكانية لعب أي دور لإقرار خطط تنموية وتطبيقها في المستقبل، وذلك بسبب المستوى البنيوي للسلطة الوطنية الفلسطينية المحدد الصلاحيات التي منحها إتفاق أوسلو، فليس ضعف قدراتها المهنية والتقنية على المستوى الإداري والمهني بل بسبب شح الموارد المالية وإعتمادها على التمويل الأجبني والذي يخضع للعرض وليس للطلب، فهي تتحرك لتنفيذ أجندة تركز على الإستثمار في الجانب السياسي وليس التنموي، وبكلا الإتجاهين لم يكن هذا الإستثمار ليلبي أولويات وطموحات الفلسطينيين. بل المشكلة أن بقاء تعامل السلطة مع التنمية كعنوان لإستجلاب التمويل الخارجي فقط وتعامل المانحين مع التنمية كمدخل لتحقيق السلام وليس تحقيق الإستقلال والحرية للفلسطينيين كل هذا عمق من أزمة التنمية . بالإضافة إلى دور الإحتلال المعيق لأي عملية تنموية”.
نعتقد أن القطاع العام تحول إلى نزيف كبير لخزينة السلطة الوطنية الفلسطينية والمال الوطني من خلال التضخم الوظيفي وتزايد حجم النفقات الأمنية وتداخل الصلاحيات بين المؤسسات المختلفة وغياب آلية المراقبة والمحاسبة في بنيتها، كل ذلك ساهم في هدر المال العام وساهم أيضاً في تعميق الإعتمادية على المساعدات الخارجية أو الاقتراض.
أما بخصوص تمويل التنمية والذي يعتبره الباحث أحد الأسباب الرئيسية لفشل التجربة التنموية في فلسطين، نود توضيح الآتي: أولاً: التمويل بشكل عام سواء كان تمويل خاجي أم تمويل ذاتي على أهميته، لكنه ليس الأساس أو هو ليس سبب شرطي لإحداث تنمية حقيقية، إذ أن هناك دول غنية الموارد لكنها فقيرة وتعاني من أزمة التنمية، أنظر إلى دول الخليج مثلا. ثانياً: المشكلة ليست بالتمويل بحد ذاته بل تكمن بإدارته وكيفية إستثماره، حيث يتوقف نجاح المنح في إحداث تنمية على شروط المنح وكيفية إستخدامها ووجهتها ومدى الإستفادة منها وعما إذا كانت توجه لإستثمارات حقيقية من عدمه. إنظر إسرائيل مثلاً فهي من أكثر الدول في الشرق الاوسط التي تعتمد بشكل كبير على المساعدات، لكنها تستغلها بطريقة فعالة في الصناعات التكنولوجية المتطورة. طبعاً لا نستثني مسألة مشروطية المنح، وهذا أمر ربما تعرفه مؤسسة بيسان كغيرها من المؤسسات المحلية الممولة من الخارج ثالثاً: إن الأهم من التمويل هو ضرورة خلق بيئة ثقافية على المستوى الوطني تراعي الآتي: بلورة سياسات وإجراءات يتعين على القطاع العام إنتهاجها كأساس لتحقيق أهداف التنمية، خلق مناخ وبيئة مواتية لتعزيز ثقافة الإنتاج الحقيقي، ترشيد السياسات المالية التي تقود الى زيادة المدخرات وتوجيهها للإستثمار في مشروعات إنتاجية بشكل عادل، صياغة وتطبيق التشريعات اللازمة للحد من الإحتكارات، تعزيز ثقافة المشاركة في العملية التنموية على كافة المستويات، وتعزيز الثقة بالنفس. إن العمل بهذا الإطار يساهم في تحقيق موارد مادية للدولة للإعتماد على التمويل الذاتي في التنمية.
قدم الباحث تحليلاً باهتاً في بحث أزمة التنمية ودور القطاع العام والعلاقة بينهما، فبدلاً من الحفر على جذور المشاكل والمسببات التي منعت وما زالت إحداث تغيير جذري في القاعدة الإنتاجية المادية بحيث تصل إلى مرحلة النمو الذاتي المتجدد، وتقضي على مسببات الفقر والتخلف وتتضمن تغييراً في البنى التقليدية في المجالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية مع ما يضمنه من تحديد للهوية الوطنية، إنشغل الباحث بتحليل وتفنيد قدرة مشاريع إقتصادية ( الكازينو والمناطق الصناعية بإعتبارها توطيد للتبعية الإقتصادية وإنحراف عن جوهر الصراع) على المساهمة في إحداث تنمية، فكان لهذا التحليل أثر على النتيجة التي خلص إليها حيث يقول ” … وكان للإتفاقيات الموقعة والخطاب التنموي الجديد والإصلاح، وما تضمنه من تقليص دور الحكومة وإطلاق العنان للقطاع الخاص ليأخذ دور القيادة لقاطرة التنمية كان لها تداعيات ساهمت بخلق تحالفات بين الشركات الإسرائيلية ونخبة من الرأسمال الفلسطيني المتحالف مع نخبة سياسية معولمة، تسبب في عدم تطور بنية إنتاجية فلسطينية منافسة”. قد تكون هذه النتيجة منطقية لو كانت البنية الإنتاجية الفلسطينية حقاً متطورة ولو لم يكن تبعية وهيمنة بين الشركات الفلسطينية والإسرائيلية قبل توقيع الإتفاقيات وتبني الخطاب الليبرالي الجديد، ولكن الحقيقة لم يكن هذا ولا ذاك.
في النهاية يبقى السؤال: هل هناك إمكانية لدى السلطة الفلسطينية من إضفاء خصوصيتها على هذه المفاهيم في الفكر والممارسة بطريقة تنسجم مع الطموحات الفلسطينية لتحقيق تنمية حقيقية أم هل تستخدمها بديلاً للشعارات الوطنية مع بقاء ذات الممارسات السلبية التي تعرقل وتشوه مسيرة التنمية؟ من الضروري التنبه هنا أن الليبرالية هذه وجدت طريقها في الغرب في حقبة من الزمن لم يكن هناك من يحتجز تطورها. أما في جوهر تطور هذه البلدان الغربية إقتصادياً، فمن المفيد الإشارة إلى مسألة أساسية فإلى جانب غياب العوائق، فقد وظف أصحاب رؤوس الأموال في هذه البلدان الفائض من الإنتاج الوطني وتم إستثماره في البلد وهو ما يسمى بنظرية التمحور على الذات وهي الأساس للإعتماد على الذات. وهذا ما يميز رأس المال القومي ذات التوجه الإنتاجي عن رأس المال الذي يعتمد على الريع الجشع. فالتنمية الشمولية مبتغاها ووجهتها الوصول إلى إقتصاد قوي وليس أغنياء أقوياء.