في حضرة المثقف المشتبك وحرب غُوَار الثقافة
الثقافة والسلاح قيم استعمالية لا تنتهي
الجزء الثالث والأخير
عادل سمارة
أنظمة/طبقات الكمبرادور
أفادت فانون تجربته في إفريقيا ليرى البرجوازية التابعة على حقيقتها وليترسم مستقبلها وليطور بناء على ذلك أفضل ما أنتج بما هو رؤية لما هو مُقبل على إفريقيا وغيرها. لقد لاحظ مسألتين مركزيتين هما العجز البنيوي ثقافيا وإمكاناتياً إلى جانب ما يحول دون التخلص من هذا العجز وهو تشبهها بالبرجوازية الغربية. هنا تبخرت الثقافة الوطنية التي تحدث عنها خلال حرب التحرير لأنها كانت ثقافة المقاتلين، ثقافة الطبقات الشعبية او القومية الكامنة لتحل محلها ثقافة البرجوازية غير المنتجة. فلو كانت ثقافة هذه البرجوازيات غير شكلانية وغير استهلاكية وذات توجه للاعتماد على النفس ومعتقدة بالقومية الكامنة لكان بوسعها البدء بمشروع تنموي قومي وإقليمي. لقد انتقلت من ثقافة وتقشف حركات التحرر الوطني إلى ثقافة ونفقات وترف دولانية، ولذا كان الويل للبلدان فقيرة الثروات (معظم البلدان الإفريقية) والويل أعمق للبلدان ذات الثروة الريعية (الخليج العربي) التي لا شهدت حركات تحرر وطني ولا برجوازية تفهم البعد القومي ولا حتى معنى الدولة فظلت مرتعاً للشركات ومقرات لجيوش الاحتلال الغربي الراسمالي[1].
لذا يقول:: ” إن البرجوازية الوطنية تكتشف لنفسها هذه المهمة التاريخية وهي أن تكون وسيطاً، وهكذا لا تكون رسالتها تغيير أحوال الأمة، بل جعل نفسها وسيطاً بين البلاد وبين رأسمالية مضطرة للتخفي، رأسمالية تضع على وجهها اليوم قناع الاستعمار الجديد… إن البرجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة ليست متجهة نحو الإنتاج، والابتكار والبناء، والعمل، وإنما هي تنفق نشاطها كله في أعمال من نوع الوساطة، إن نفسية البرجوازية الوطنية هي نفسية رجال أعمال، لا رواد صناعة، ويجب أن نعترف أن جشع المستوطنين، ونظام الحجر الذي أوجده الاستعمار لم يدعا للبرجوازية حرية الاختيار كثيراً…البرجوازية الإفريقية تقيم الكازينوهات وأماكن السياحة وتتشبه بالأوروبية وتسمي ذلك صناعة وطنية”
تلهث الحالة الفلسطينية بعيداً حتى وراء دول الكمبرور من حيث ما تسمى “السيادة” حيث قبلت بسلطة إدارية مالية في الضفة والقطاع دون سيادة على الأرض. فالعجز عن تحقيق المشروع الوطني في التحرير والعودة اقنع البرجوازية الفلسطينية بشرائحها الثلاثة: البرجوازية البيروقراطية في قيادة م.ت.ف والبرجوازية المحلية المنخرط معظمها في شركات التعاقد من الباطن مع راس المال الصهيوني[2] وراس المال المالي الفلسطيني في الشتات اقنعها باللجوء إلى الحكم الذاتي حيث تحقق عبر ذلك مصالحها على اساس اقتصاد التساقط لأن البديل لذلك هو استمرار المقاومة والانتفاضة مما يخلق قيادات وقوى قاعدية جذرية تتعداها سائرة إلى الأمام، وهكذا أكدت هذه البرجوازية أن الوطن مجرد سلعة، قيمة تبادلية. وقد وجدت هذه البرجوازية تحت إبطها فرقا من المثقفين العضويين لها ممثلين في المثقفين اللبراليين المتخارجين باكراً ومثقفي م.ت.ف االذين تربوا في بلاط القيادة ومثقفي اليسار الذين ارتدوا بسُعار ضد الماركسية، وكانوا في سُعار مبكر ضد القومية العربية ورتع هؤلاء جميعاً في تمويل سلطة الحكم الذاتي أو المؤسات الثقافية الغربية وخاصة عبر منظمات النجزة فتحولوا من مثقفين إلى سلع وأشياء تبيع نفسها وتُباع بالعملات والمنح والشهادات والوظائف وحتى كتابة تقارير إخبارية للأعداء تحت مسميات ابحاث وجراسات وأطروحات جامعية. وهذا ما نتجت عنه بنية ريعية في الأرض المحتلة تعيش على التمويل السياسي من أعداء الأمة العربية والشعب الفلسطيني بالطبع. ومن هنا كان أول مشروع كبير لسلطة الحكم الذاتي هو الكازينو. فكيف لا نستنهض روح فانون؟ إن من يسير في مدينة رام الله لا يتخيل أن هناك احتلالاً سواء بغزارة السيارات الفارهة يقودها اساسًا غلمان ونسوة ما بعد حداثيات وتعج أسواقها بالمقاهي والمطاعم والمقاصف المكتوبة يافطاتها باللغات الأجنبية. وأما في الليل فتكون مدينة حانات واماكن تبعث إشارات ضوئية بنفسجية تنبىء عن فرص التفريغ الجنسي! والشكر لله أن ليس لهذه المدينة شاطئاً لتعرَّت تماماً.
في الطرف الأقصى تماماً ولكن ليس النقيض في الوضع العربي (الأشياء) الحاكمة في بلدان النفط العربية وعلاقتها بالتركيبة “الطبقية” المعولمة. ذلك الشريك النفطي الخليجي فيها والذي يجمع ما بين ثقافة وعقل بداوة ما قبل الدولة بما تعنيه من اللاوطن وبالتالي اللاوطنية اي بدو لا ينتمون سوى إلى القبيلة أو حتى الأسرة الحاكمة وانتقالها الحاد والمفاجىء إلى العيش على ريع النفط والغاز والتحول إلى جزء من رأس المال المالي المعولم الذي يدور على صعيد عالمي بدور مضارباتي عابر القارات أكثر مما هو إنتاجي، ولكنه جزء من هذا الراسمال الذي منتهى تراكمه وإدارته في المركز الإمبريالي سواء في نيويورك و/أو لندن هذا النموذج المشوه لا يؤمن ولا ينتمي إلى وطنية او قومية. وربما هذا ما يفسر لا قومية هذه الأسر الحاكمة من جهة وارتباطها بالمركز المعولم حفاظاً على وجودها من السكان المضطهدين إلى درجة غياب وجودهم اللهم سوى عن الاستهلاك والتناسل[3] من جهة ثانية، وهنا قطر الحالة المثالية.
يقول فانون: ” العلامة القومية التي تتبناها هذه الطبقات وحتى كذلك بروليتاريا المدن غير كافية لثورة شاملة او كلية لأن هذه الطبقات مستفيدة من البنية الاقتصادية للإمبريالية… ان الثورات غير الزراعية تنتهي حينما تقوي الطبقات المدينية سلطتها الخاصة، دون القيام بإعادة تشكيل النظام بأكمله” ربما هذا ما دفعه للتركيز على الفلاحين واللغة والثقافة والقومية الكامنة. ربما كان على فانون أن يلتقط مسألة اساس وهي وجود الحزب الثوري الذي يعيد صهر الطبقات المتخارجة وتوطينها.
ليس هذا مجال مناقشة دور الدولة في التنمية وهو دور اثبتت مختلف التجارب جوهره العُلوي والآمر أو البيروقراطي ناهيك عن ان أية دولة/سلطة هي ممثلة مباشرة أو أقل لطبقة. وهو ما يرشدنا إلى “التنمية بالحماية الشعبية[4]” النموذج الجماعي الشعبي الذي يبلور حزبه ويراقب حزبه وحين يمسك بالسلطة يكون الحزب تحت رقابة وإرشاد القاعدة الشعبية لا مقوداً من نخبة بيروقراطية وحتى تكنوقراطية وثقافوية.
ما بعد الاستعمار وسلسلة المابعديات
ليس صحيحاً إدراج فانون ضمن منظِّري ما بعد الاستعمار، وإن كان رائد معالجة هذه المسألة عبر تحذيره من دور طبقة الكمبرادور التي أمسكت بالسلطة في بلدان المحيط. وربما بقدر ما كان مشروع سارتر إدخال الحرية في الستالينية (وليس في الماركسية كما زعم هو وآخرون) فإن فانون قد أدخل موضوعة “ما بعد استعمارٍ ما، هو الاستعمار العسكري” إلى اهتمام الأدبيات الماركسية فجاء ذلك مساهمة هامة وطبيعية وضرورية.
وقد يكون اهتدى إلى هذه المساهمة بناء على خلفيته ودوره في الكفاح المسلَّح وكأنه يقول إن انتصار القوة الثورية للكفاح المسلح على جيوش الاستعمار هو أمر حاسم وضروري ومؤكد، ولكن بعد ذلك لا ينتهي الاستعمار من جهة، وسنواجه تمفصلاته المحلية من جهة ثانية. وإذا كان فانون قد اعتمد على ذخيرتين أو سلاحين للوصول إلى الانتصار ودحر عسكر الاستعمار وهما الكفاح المسلح والثقافة القومية فإن هذين السلاحين قد ثُلما بعد الاستقلالات الشكلية سواء بتحويل المقاتلين إلى جيوش نظامية مدجنة لخدمة الحاكم، وطمر الثقافة القومية الثورية بثقافة قُطرية خلقت لها اصنامها بالعَلَم والمراسيم وأمن الأنظمة وزعم ثقافة وطنية…الخ ثقافة القومية الحاكمة.
ولا يقلل من تحليلنا هذا زعم كثيرون بأن فانون هو ضمن هذه المدرسة وليس ضمن المدرسة الماركسية ذات الأفق القومي المنفتح. لعل أهم ما يختلف به فانون عن معظم منظري ما بعد الاستعمار كامن في خروجه على بل وعدم اكتراثه بقلقهم وحرصهم على الاعتراف والتطابق مع ثقافة وحتى سياسة الاستعمار والإمبريالية. إن فكر فانون هو مواصلة النضال ضد الراسمالية المحلية والعالمية وصولا إلى الأممية الاشتراكية. ولا يرضى بالطبع بعض الماركسيين عنه كذلك طالما لم ينسب نفسه لفصيل محدد فيسمونه تفضُّلاً “مناضل نشط” كما كتب ألان والد المروِّج الماهر للتروتسكية. هذا إضافة إلى البدء من الثقافة التي ركز عليها فانون ولكن ليأخذوها إلى لغة من الطلاسم السحرية التي تراوح بين التهويمات والتعقيد اللغوي الذي لا تقوى على قرائته سوى قلة نادرة من البيض وأنصاف البيض والسود بقناع ابيض. فرغم إبداع إدوارد سعيد في الاستشراق، إلا أن تورطه في ما بعد الاستعمار قد حوله إلى وسيط ثقافي بين أهداف الإمبريالية والأكاديمية الغربية، لنتذكر مثلاً، أنه: ” لا ينتحب على تبعية العرب لأميركا وإنما على طريقة معاملتها للعرب”. هذه الوساطة هي التي دفعته للتوسط المراسلاتي بين الإدارة الأميركية وياسر عرفات، بين الإمبريالية الأكثر توحشاً وبين منظمة كفاح مسلح ضد الكيان الصهيوني الإشكنازي الذي يجمعه بالإمبريالية كل جامع!
لقد رأى فانون وكتب أن الاستعمار حين يخرج بمستوىً ما يبقى بمستويات، وهذا يكفي لإخراجه من دائرة المثاقفة اللغوية هذه التي كان أفضل نتاجها في الأدب، بينما أفضل نتاجه كان في الثقافة والميدان والاستشراف السياسي الطبقي وهو أهم تأثيرات الفكر الماركسي، لا سيما على صعيد تأثر الوعي بالظرف التاريخي. وقد يكون جوهر الاختلاف بين ما بعد الاستعمار والماركسية في أن الماركسية تؤكد على الصراع الطبقي، فيما تقوم قراءة ما بعد الاستعمار على الصراع بين مستعمر ومستعمَر.
وبابتعاد فانون عن ما بعد الاستعمار يبتعد بالطبع عن مختلف المابديات الأخرى التي سحبت فشل الحداثة في مشروعها الأوروبي في الحيلولة دون الحروب وغيرها على العالم باسره، اي تماماً كما يفعل الغرب الأبيض الراسمالي في كل الأمور، دون أن تأخذ بالاعتبار ضحايا الحداثة في المحيط. أنجزت ما بعد الحداثة عبر جهد معرفي الكشف عن التناقضات الحادة التي قام عليها مفهوم السرديات الكبرى في الغرب الرأسمالي خاصة مما يؤكد مركزانيات هذه المابعديات. ومن هذه المساهمات تمكُّن ليوتار وفوكو وجوليا كريستيفا وجاك لاكان وتودوروف وآخرون، من كشف ضعف أداء كثير من السرديات الكبرى رؤية السرديات على العالم في حل مشاكل العالم وتقديم مفاتيح للمغاليق التي واجهت البشرية وزعمها خطاب الإنسانية والعدالة والمساواة في ظل النظام الرأسمالي العالمي بما ارتكبه من مذابح ونهب. ولكن هذه الهجمة بالمطلق على السرديات الكبرى دفعت باتجاه تغاضي هذه المابعديات عن السردية الأخطر ألسوق. والسوق هنا بمفهوم النظام الرأسمالي العالمي وجوهره السياسي الذي انتهى احد روادها ميشيل فوكو إلى الاستسلام أمامه بإعلان موت السياسة؟ اي موت المقاومة. وإذا كانت مغادرة السرديات الكبرى في المركز والذهاب إلى الفردية المطلقة أمر قاد إلى المابعديات الغيبية فإن هذه البدان قد قطعت شوطاً في التقدم ما زال يسمح لها، رغم فلتان الفرديات بالاحتفاظ بهيمنتها على العالم، في حين أن الفلتان الفردي في المحيط يحول وسوف يحول دون التمسك بالسرديات الكبرى التي هي ضرورية للنضال من أجل الوصول إلى الحداثة على الأقل ومغادرة سردية السوق بشكل خاص.
إن احتفاء كثير من المثقفين العرب بالتكفير بالسرديات الكبرى ينمُّ عن تخارج مجتمعي وليس طبقي فقط مما يساهم في توازن الأنظمة القُطرية التي تحكم الوطن العربي بما قبل الحداثة الغربية الحالية. كيف لا نستحضر روح فانون اليوم، كثير من المثقفين العرب قد نجحوا في استيراد المابعديات الغربية، الكفر والتكفير بالسرديات الكبرى يهتفون لاحتلال ليبيا والتمهيد لاحتلال سوريا في كفر حاقد على القومية العربية والاشتراكية؟
مركز محيط ومدرسة النظام العالمي
لم تكن نظرية التبعية وانقسام العالم إلى مركز ومحيط قد خُطت بداياتها في عمر فانون بعد. لكنه لامس كثيرا من مكوناتها: فقد انشغل فكريا وعمليا في المحيط (المستعمَر) وضد المركز (المستعمِر) وكان موقفه في هذا المستوى حاسما وحدِّياً. قد يدين الثقافويون هذا بأنه ثنائية لكنها قائمة. وفانون لم يقرأ مركز محيط من منظور مدرسة التبعية التي بدأت مع بريبتش في أربعينات القرن العشرين وتفتحت جيداً قبيل رحيله. فمنظورها كان دولانياً قوميا لا طبقياً بينما ركز فانون وارتكز على الثقافة القومية والقومية وانتهى في حالة الكفاح في جانب طبقة الفلاحين، في خروج عملي على التنظير الكلاسيكي لماركس نفسه وفي اقتراب غير مكتوب من الماوية والجيفارية، لينتهي ضد طبقة الكمبرادور في الحكم والتي هي طبقة الحكم في الدولة التي كانت تناقشها مدرسة التبعية. لم ينحَز فانون إذن مع المحيط لأنه المحيط، بل كان مع الطبقات الشعبية في المحيط. وبهذا فهو قد اقترب من مدرسة النظام العالمي التي اسسها لاحقاً سمير امين وجوندرفرانك وولرشتين واريغي.
إن تحريضه ضد الكمبردور ولا سيما في تشبهه بالبرجوازية في المركز إنما هو إدراك لدور المركز وسياسته في احتجاز تطور المحيط بادوات محيطية من جهة وذلك خدمة لسياسته الاستراتيجية في الاستقطاب من جهة ثانية والتي فصلها جيدا سمير امين.
لقد توصل الكثيرون من منظري التنمية إلى الإجماع بأن الاستقطاب الذي كرسه المركز الراسمالي المعولم قد أدى إلى واقعة أن : “لا يابان بعد اليابان”. وهي السياسة التي مركزها أن : لا اوروبا بعد أوروبا لا غرب بعد الغرب” ولا سيما أوروبا الغربية وشمال أميركا. فمن اللافت أن اوروبا الغربية التي خاضت حروبا بينية طاحنة ومديدة حتى قبل الحربين العالميتين كانت تتطور بالتوازي ولم تحل الحروب دون تنقل راس المال وتبادل التكنولوجيا، وهذه مسألة بحاجة لقراءة مستفيضة. وهي السياسة التي شملت المستوطنات البيضاء كذلك.
هل كان العنف هوية فانون
ولد فانون أممياً بالفطرة كأي إنسان ووجه بلونه في الغرب فيمم وجهه نحو الشرق حيث الأمم القديمة ومعذبو الأرض وظل اممياً. لم يكن بحاجة لكبير عناء كي يكتشف ضرورة الصراع مع هذا الغرب العنصري وضرورة الصراع بالسلاح مع عالم يعيش على حد السيف. وعليه، لم يكن العنف اختياراً بل تقاطع مع ضرورة تتعلق بالوجود والكرامة الإنسانسية. اكتشف فانون بالوعي الثاقب أن الثائر في عالم متوحش يتمترس خلف سلاحه وخلف وعيه. وهذا يكشف أن نقد كتاب غربيين له في موقفه من العنف هو في حقيقة الأمر استكثار على الأسود أن يثور وأن يكتب.
لم يخف ديفيد ماسي بغضه ل فانون حيث كتب:: “إن فانون قد استخدم بشكل سيء تغيرات ولدت في ظروف استثنائية من اجل ثورة دائمة”. هل ثلاثة قرون وأكثر من الاستعمار هي مجرد ظروف استشنائية؟ بل هل المرحلة الرأسمالية بامتدادها واشتدادها منذ خمسة قرون هي فترة استشنائية بكل ما حملت من إبادة ومذابح وإفقار ونهب واستقطاب واحتجاز تطور؟ وهل هذا العبء الثقيل على التاريخ زائل بطبيعته أو قابل للزوال بتوجعات الفقراء وتفجعات الأرامل؟ ألا يصح هنا قول ماركس بأن الرأسمالية قد أوصلت البشرية إلى الخيار بين البربرية والاشتراكية؟ وإذا كان التناقض هكذا وإلى هذا الحد فكيف يمكن الخروج من طغيان راس المال هذا بغير العنف؟ وهل يخلو من حقد قول اللبرالي ماسي بأن فانون: “بعد إبعاده من الجزائر 1956… ملحدا من ويست إنديز في حركة قومية إسلامية قد رأى ما كان يريد أن يرى”؟. وكأن الرجل مجرد حاقد متخلف يكره الغرب “الحضاري”؟ والمعروف أن فانون هو الذي استقال من عمله . ماذا يختلف هذا القول عن قول جورج دبليو بوش وثوماس فريدمان : ” إن العرب والمسلمين يكرهون ويحسدون الحياة الأميركية التي لا يمكنهم الوصول إليها”.
كما كتب ماسي: “… كان فانون شجاعاً ولكن متهورا، نبوئياً ولكن عنيداً لدرجة خطرة. وحينما بدأ يكتب، كانت الحقيقة سلاحه، وحينما اعتنق العنف الثوري، غدت الحقيقة قتيلة قراره…ينتاب المرء شعورا ماساويا وهو يقرأ فانون، كمثقف صمم على أن يثبت نفسه بين حَمَلة البنادق. وكمعظم المثقفين المدافعين عن العنف، فضَّل فانون ان يتأمل عن بعد. فحينما كان في مدرسة الطب، كان حتى التشريح الأولي يقوده للشعور بالغثيان”. وكثوري وكاتب فقد بذل قصارى جهده لتجاوز “ضعفه” وليبدو صلباً”.
وبعيداً عن الرد على كل هذا، فالكاتب هو الذي كتب قصة حياة المفكر الكبير ميشيل فوكو. ولا بد أنه أُخذ بما انتهى إليه فوكو وقارنه بما انتهى إليه فانون. انتهى فوكو كافراً بالسياسة اي بالمقاومة والنضال بينما انتهى فانون نبي حرب غوار الثقافة و الكفاح المسلح.
طبعة مبكرة وأولية للاستشراق
بعيداً عن الجدل بشأن دوافع الاستشراق، فإن ما كثَّفه إدوارد سعيد دقيقاً بأن الغرب قد خلق أو صنع صورة للشرق من عندياته، وحاول الغرب أن يجعل من هذه الثنائية حالة ثابتة من جهة لتبرر الاستعمار من جهة ثانية وهو ما تولد عنه لاحقاً الاستعمار الإيجابي الذي لا مندوحة عنه كي “يتطور” الشرق. وهو الأمر الذي تمكن فيه إدوارد سعيد وغيره من اللبراليين من اصطياد ماركس الذي وصل بالاستنتاج أن الدول المتقدمة سوف تعيد خلق الشعوب المتخلفة على شاكلتها، الأمر الذي لم يحصل لأنه متناقض مع استراتيجية الاستقطاب.
وهذا ينسجم مع الثقافة الدارجة في الغرب عن تقسيم العالم إلى ثنائية (الغرب والبقية The West and the Rest . كمبرر للتفوق والسيطرة والاستعمار.
لقد وضع سيزار بذرو إدراك صناعة الزنوجة لدى فانون والذي بدوره دفع بها إلى وجوب التخلص منها ورفض تحولها إلى مكون بنيوي للسود بما هي شبيهة بالاستشراق اي خلق مقصود للأسود على شاكلة ما مبتداها اللون. يسرد فرانز فانون تجربة إدراك معنى الاختلاف عند مشاهدة فتاة بيضاء له، ورِدَّة فعلها على لون بشرته قائلة: «انظر … إنه زنجي Look, a Negro![v] ». وهذه ليست محض تصور من فانون بل هي إحدى مكونات الثقافة الراسمالية العنصرية البيضاء. قبل خمسين سنة ولم نكن نعرف فانون ولا الاستشراق جلست بجانبي فتاة فلسطينية مولودة في الولايات المتحدة وعلى الطريق صعد رجل اسود يلبس كوفية وعقالاً وجاء جلوسه إلى جانبها، ولم تلبث ان تفوهت تلقائيا بالقول It is bad! فهي الثقافة العنصرية يحملها الموبوء بها اين حل. ما زلت أذكر بالضبط المتر من الشارع الذي نطقت فيه بهذه الكلمات.
يقول فانون بهذا الصدد: “عندما أتحدث إلى من يحبونني، يقولون أنهم يحبونني على الرغم من لوني، وحينما أتحدث إلى من يكرهونني، يعتذرون بأنهم لا يكرهونني بسبب لوني، وفي كلتا الحالتين أجدني حبيس الحلقة نفسها”[vi]، ولهذا فهو يرى أن مشكلة الإنسان الأسود هي علاقته مع الرجل الأبيض، أو حتى مع المحيط، وبالتالي على الإنسان الأسود أن يطابق الصورة الموضوعة له، أي التمثيل representation المسبق له، وأن يتصرف بناء على تشكله في عقل الرجل الأبيض، فالدونية والانحطاط والتخلف والبذاءة، وكل هذه المكونات التي اختلقها الأبيض للأسود، هي صورة تعمل على تنميط شخصية ووجود الإنسان الأسود، ولهذا فإن فانون يرى أن عملية المقاومة تكمن في نقض وجوده الفيزيائي أولا، وقبل ذلك نقض كونه فكرة في عيون وعقل الرجل الأبيض، وطبعا كل ذلك مصاحب بتنظير فكري وفلسفي ونفسي عميق.
لقد عالج فانون هذه الظاهرة برفضها بنقض وجوده الفيزيائي وهو المدخل الثوري الضروري. ولكن الراسمالية التي كثيراً ما ساعدتها لدائنيتها على التغلب على إشكالاتها، تخلق حلولا لنخب السود حيث تدمجهم بها وهي حلول لامتصاص هذه النخب واستخدامها ضد طبقتها وأهل لونها ويكون هؤلاء بالطبع اكثر شراسة ضد بني جلدتهم من البيض. قد تكون كونداليزا رايس نموذجا. بل إن إدار بوش قد تكون، ويا للطرافة مكونة من رئيس أبيض ووزيرة خارجية سوداء، بينما بدلت إدارة أوباما المواقع والألوان.
الاقتصاد السياسي: التبعية وجوهر أميركا
كتب فانون:”…إن العالم الثالث يقف الآن أمام أوربا كتلة عظيمة تريد أن تحاول حل المشكلات التي لم تستطع أوربا أن تأتي لها بحلول، ولكن يجب علينا أن لا نتحدث عن وفرة الإنتاج، وأن لا نتحدث عن الجهد العنيف، أن لا نتحدث عن السرعة الكبيرة. ليس معنى هذا أن نعود على الطبيعة وإنما معناه أن لا نشد البشر إلى اتجاهات تشوههم، أن لا نفرض على الدماغ إيقاعا سرعان ما يفسده ويفقده سلامته، يجب علينا أن لا نتذرع بحجة اللحاق فنزعزع الإنسان وننتزعه من ذاته، من صميمه، ونحطمه، ونقتله. ..لا نحن لا نريد اللحاق بأحد….. إذا أردنا أن نحول أفريقيا إلى أوربا جديدة، وأن نحول أمريكا إلى أوربا جديدة كان علينا أن نعهد بمصائر بلادنا إلى أوربيين، لأنهم سيحسنون التصرف أكثر من أعظمنا موهبة….”
الرجل غني عن أن نؤكد أنه لم يكن مبهوراً بالغرب الراسمالي الأبيض ولا حتى بالتشبه بنظامه ةقيمه. بل كان واضحاً في رفضه للنموذج اللبرالي الراسمالي سواء في رفضه وتحذيره من الكمبرادور، أو في إعلانه بوضوح رفض نظرية اللحاق التي حاول التأسيس لها والت روستو في خمسينات القرن العشرين والتي اتبعتها دول عديدة في المحيط وكانت سلسلة ضحايا وصلت المئة بوصفات صندوق النقد الدولي.
هل نتهمه بالنبوءة في رفض اللحاق؟ أم نتهمه بالنبوءة في رؤيته الثاقبة المبكرة لتوحش الولايات المتحدة. فقد كتب: «… منذ قرنين، قررت مستعمرة أوروبية قديمة ان تلحق بأوروبا، وقد بلغت من النجاح من ذلك، ان الولايات المتحدة الأميركية أصبحت كائنا عجيبا مشوها تضخمت فيه تضخما رهيبا عيوب أوروبا وأمراضها ولاإنسانيتها».
الولايات المتحدة هي نسل أوروبا من حيث العرق، والعدوانية وخاصة راس المال. هذا البلد الذي كان موئل الصادرات البشرية العنيفة والمتوحشة من جهة ومحط استثمار الاستعمار البريطاني، استثمار ما كان ينهبه من المستعمرات السمراء والصفراء ليستثمره هناك في ما اصبح يدعى الولايات المتحدة. هذا البلد الذي حينما وصل سن البلوغ سحق أمه بريطانيا وطردها. هذا البلد الذي تشدق بالديمقراطية والحريات حينما كان يحل محل ابويه (الاستعمارين البريطاني والفرنسي- كانقلاب أمير قطر على أبيه وسلطان عمان على أبيه- لاحظوا الفارق الذي يعبر عن حقيقة الواقع وحجوم الأشياء، هناك انشقاق دول وهنا غدرٌ داخل الأسرة). لم تنطلي خدعه وأكاذيبه على فانون وهي منطلية حتى اليوم على قطعان مثقفين عربا (المثقف السلعة/الشيىء). هل كان خطئاً ومبالغة أن وضعنا الرجل وهو في ضريحه إلى جانب جلجامش الذي رأى كل شيء؟
[1] لا غرابة إذن أن دخول الغرب الراسمالي في أزمته المالية الاقتصادية لم يُثر في الأنظمة العربية اهتبال فرصة تراخي قبضة هذا المركز ومن ثم بناء تماسك بينها والذهاب لمشروع تعاون تنموي، بل تبرعت دول الخليج بثلاثة تريليونات من الدولارات هي صناديقها السيادية لإنقاذ الشركات والمصارف في الولايات المتحدة في حين أن الصين لجمت الولايات المتحدة بإقراضها 2 تريليون دولار مقابل سندات خزينة وفتح موسع لأسواقها للمنتجات الصينية حتى رغم ان كثيرا منها لشركات أميركية رحلت إلى الصين لتصفية دماء الطبقة العاملة هناك عبر راسمالية الأجور المتدنية والحقوق شبه المعدومة.
[2] كشفت رسالة ماجستير للباحث عيسى سميرات من جامعة القدس أن استثمارات 16,000 رأسمالي فلسطيني في الكيان الصهيوني الإشكنازي وحتى في المستوطنات تتراوح بين 2.5-5.8 بليون دولار! بينما لا تستثمر المقدار نفسه في الأرض المحتلة نفسها. وتقوم الرأسمالية الفلسطينية بهذا في حقبة حتى وجود الاستعمار الاستيطاني. يكشف هذا عن خطورة اتفاق أوسلو ليس على الاقتصاد والنمو ومرحلة بناء دولة، نقصد دولة اسولو-ستان، بل كذلك عن انهيار القيم التي تتمثل في وجود مجلس أعمال اسرائيلي-فلسطيني في المستوى الاقتصادين ووجود أعضاء كنيست فلسطينيين في الكنيست في المستوى القومي وسكنى فلسطينيين في الكيبوتسات في تآلف دافىء مع عُتاة الاستيطان في المستوى أل –”إنساني”! ماذا كان سيكتب فراتز فانون لو سمع بهذا؟
[3] من يستمع إلى ويشاهد الملك السعودي والأمير القطري فهما عاجزين عن قراءة العربية عن الورق، يلاحظ المستوى الثقافي الذي لا شك مرتبط بدرجة الوعي!
[4] التنمية بالحماية الشعبية هو نموذج تنموي اشتققناه من تجربة الانتفاضة الفلسطينية الأولى أنظر عادل سمار.
Beyond Delinking: Development by Popular Protection vs Development by State
منشورات مركز المشرق العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله 2005