نصري الصايغ
في البحث عن امرأة قالت «لا»، نقع على اسم الست نظيرة زين الدين. فمن تكون؟
المناسبة: احتفاء بيوم المرأة العالمي، وتذكر للأم في عيدها السنوي. عادتان جديرتان بالاحترام.
لماذا البحث عن امرأة قالت «لا»؟
لعله الزمن العربي الجديد الذي يحتفل بـلا للاستبداد، لا للظلم، لا للإلغاء، لا للمهانة… وألف «لا»، تخترق الأمة، لتنصاع قيادتها المزمنة والعفنة، وتخلي القيادة لشعب بدا، بعد قرن من الزمن القمعي، يتذوق طعم الحرية.
الست نظيرة كانت قد سبقت الكثيرين والكثيرات، في تكريس مبدأ الحرية، كل الحرية، للمرأة. ولقد حدث ذلك في العشرينيات من القرن الماضي.
لقد ظُلمت المرأة إلى درجة لا تصدّق. لم يعترف بها إلا بالمعّية، ولم تفرد لها مكانة خاصة، إلا استثناء، كأنها من دون مبرر شرعي ذاتي لوجودها. كانت بحاجة دائمة إلى علّة وجود من خارجها، لإلغائها. الرجل هو التاريخ. كتبه الرجال، فاستثنوها واستبعدوها، وعندما اعترفوا بها، ألحقوها.
الظلم التاريخي ليس شرقيا، الغرب لم يوفر لها مكانة أفضل. انها من سكان الهامش فقط. لذا، كانت البشرية ناقصة منذ البدء، لأن المرأة حذفت من التاريخ ووضعت في مرتبة النقصان.
وعت ذلك الست نظيرة. هي فتاة شرقية، تفتحت على الرفض، رأت مجتمعها فرفضته، نظرت إلى الغرب الحديث، فاستقت منه، وقرأت في كتاب دينها، فاستعانت بتفسيرها له، لتكون لها الحجة على إنسانية المرأة وكعنصر للرجل. رفضها أعلنته بصرخة «لا». صرخة ضد البؤس الذي تعيشه المرأة، ضد الظلم الذي يمارس ضدها، ضد الوحشية التي يتحلى بها الرجل في معاملته معها، ضد الأب والأخ والزوج…
هي، في عز الجهل المطبق على الشرق العربي، رفعت المرأة إلى مقام العقلانية. فهي ليست ناقصة أبداً، وفي عز فتوتها، وقفت بصلابة المؤمن، لتقول لرجال الدين، ارفعوا أيديكم عن النصوص. فلتحرر الآيات من سوء التفسير والتأويل، ولتصبح المرأة قوامة على نفسها. فليس الرجال قوامين على النساء الا لزمن كانت فيه المرأة مستضعفة، مهانة، مذلة، مرذولة، لا يرى إليها إلا كمتعة ودنس معاً.
قبل نزار قباني قالت ما صاغه هو شعراً:
«سرير واحد ضمهما، تسقط البنت ويحمى الرجل».
مقامها في التاريخ العربي مجهول راهنا، علماً بأنها تنتسب إلى سلالة من المتمردين الذين صفوا تاريخ الرفض في العالم. انها من طينة عبد القادر الجزائري الذي قال: لا للاستعمار الفرنسي، فنفي. سلفادور الليندي: لا للدكتاتورية وبينوشيه. فقُتل. الكسندر دوتشيك: لا للجيش الأحمر، فسحق مع «ربيع براغ». مارتن لوثر: لا للبابا، فحرم. مارتن لوثر كينغ: لا للعنصرية، فاغتيل. نلسون مانديلا: لا للتمييز. فسُجن. الست نظيرة إلى هؤلاء تنتسب. لكن تجهيلها ليس ناتجاً عن عدم صلابة موقفها وطرائق مواجهتها، بل لأن من جاء بعدها جبن على تبنيها، وأسلس قيادته لرجال، لا يرون إلى المرأة، إلا ما وصلت إليه اليوم… وضع المرأة المتخلف جداً، في أكثر البيئات العربية، هو من صنع الرجل المتحالف مع نص يفسره على هوى ذكوريته، ومع سلطة تبايعه سيداً (ولو كان عبداً ذليلاً لما يرفضه).
الست نظيرة، من قافلة نسائية بدأت مع هدى شعراوي، رائدة تحرير المرأة، إلى نازك الملائكة، رائدة تحرير القصيدة من أعمدتها الخليلية، إلى ليلى بعلبكي، رائدة «أنا أحيا»، ضد الزيف والوأد العاطفي، إلى مي زيادة رائدة المساواة التامة، سلوكاً وقولاً، بين الرجل والمرأة، إلى جمانة حداد، رائدة تحرير الجسد من كل الموروثات، والعودة به إلى «ليليت»، لا إلى حواء.
إلى هؤلاء تنتسب، عندما قالت: «لا للحجاب»، في مجتمع تسيطر فيه الحاكمية المطلقة على المرأة، بنصوص أسيء تفسيرها، بهدف استمرار سلطة الرجل على المرأة، المتهمة بأنها أم المعصية، وانها عورة، وانها رذيلة وأنها… ولو كانت أما أو أختاً، فعليها ان تحتجب خلف برقع يلغيها ويحط من إنسانيتها ويجردها من حوائيتها (عكس آدميتها، لان الآدمية ذكورية فظة).
من تكون السيدة نظيرة زين الدين؟
قلنا سيدة، لكنها، عندما اندلعت بتمردها، كانت لا تزال فتاة صبية دون العشرين.
ولدت في قرية عين قني الشوفية في جبل لبنان، والدها القاضي سعيد زين الدين، مرجع في إصدار الأحكام، وفي الثقافة والانفتاح، درست في مدارس بيروت عند راهبات مار يوسف وراهبات الناصرة وتخرجت تلميذة بكالوريا علمية، في العام 1926، ولما تبلغ العشرين بعد (مواليد 1907).
لمع اسمها باكراً، فدعاها تقي الدين الصلح لإلقاء محاضرة في الجمعية الأدبية العربية التي كان يرأسها، فكان من شروطها ان تكون المحاضرة بعنوان «لماذا فضلت السفور على الحجاب؟» وان تدخل النساء القاعة وهن سافرات. وكان لها ما أرادت. ابنة العشرين تقول لا. فيسمعها جيل جديد وينفذ ما تريده. لقد نجحت في أول تظاهرة سفورية، وكان من بين الحضور المرأة اللامعة عنبرة سلام.
وأردفت المحاضرة بثانية وثالثة ورابعة، ثم ألقتها في قاعات المدارس والجامعات وفي المسارح الكبرى، كمسرح سينما أمبير و«الغران تياتر».
مفيد في هذه العجالة، استعراض مواقفها التي جاءت نتيجة اعتمادها الأدلة العقلية والأدلة الدينية، والأدلة القيمية.. والأخيرة تستند فيها الى فهم متقدم لمقولات الحرية والحق والشرع والدين والعقل.
بدءاً من التعميم، قبل التخصيص، تصف ما ابتلي به الشرقيون: «ظلمات أربع: «ظلمة نقاب من نسيج، وظلمة نقاب من جهل، وظلمة نقاب من رياء، وظلمة نقاب من جحود». وتحدد موقفها كامرأة، بضرورة نزع هذه الحجب، رافضة ان تطلب من السلطة ان تحررها، لأنها حرة في كتاب الله وأوامر رسوله. تطلب قانونا، يحمي السافرات، وتنكر على المرائين طلبهم من السلطات تدخلاً لإكراه المسلمات على ستر وجوههن، لأنهم يفقدون بذلك شرطاً من شروط الإسلام الأربعة: «العقل والبلوغ وعدم الإكراه والنطق بالشهادتين».
قرأت النصوص الدينية بطريقة مختلفة عن مناهج الأقدمين. لم تر إلى الله انه يميز بين البشر وبين الرجل والمرأة، إلا لأسباب عابرة، تزول مع زوالها. وقد تكون الأسباب بيئية أو ظرفية أو على علاقة بجماعات لا تقبل الحقائق الكاملة دفعة واحدة، ومنها وضعية المرأة، أو وضعية غير المسلم. تستشهد على ذلك بما يقال عن نقص في عقل المرأة، لكون شهادتها نصف شهادة الرجل. تقول: «ان ذلك ليس دليلا على نقص عقلها، لأن غير المسلم لا تقبل شهادته، وهو ليس ناقص العقل»، فالمرأة صنو الرجل في كتاب الله وسنّة رسوله، وتؤيد ما ذهبت إليه، بحديث نبوي: «ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً لفضلت النساء». (السفور والحجاب، ص 98).
لقد أخذت المسيحية المرأة إلى موقع التابع للرأس، «الرجل رأس المرأة» فمنعتها من ممارسة أي سلطة في النظام الكنسي، وحرمت من الخدمة الدينية. الرجل وحده سيد النص وسيد الفهم وسيد الاجتهاد، والمؤتمن على الأسرار الالهية. ولم يكن الإسلام بعيداً عن ذلك في ممارسة معظم علمائه وفقهائه. أما الست نظيرة، فقد أصرّت على مبدأ القوامة للمرأة على نفسها. تستشهد بالآية: «كتاب أنزلناه إليك ليدبروا آياته ويتذكر أولو الألباب». وتتساءل في ما إذا كان الله قد حرّم على المرأة ان تتدبر آياته. تنعى نظيرة على الرجل انه حرّم على المرأة التعقل والتفكر، وترى ان دورها قد جاء اليوم بعد ان تعلّمت وتحررت (السفور والحجاب، ص 107).
أما مناقشة مسألة الحجاب بالأدلة العقلية، فقد اتخذت طابع المنطق والمقايسة والنظر في النتائج التي تترتب على ذلك، إنسانيا ودينيا وحضارياً.
في المحاججة تقول: «إذا كان الحجاب دليلا على عجز المرأة عن صون نفسها، فهذا اشارة إلى خيانة الرجل وسرقته الاعراض». فالرجل جريمته أكبر. لأنه قناص نساء. ثم كيف للرجل، وهو القوام على المرأة، ان يراقبها وهي محجبة. فالقناع، لم يمنع ان يكون في الرجال وحوش ضوار. ان النقاب هو الذئب الذي يجعل المرأة تحسب نفسها كالنعجة. رهينة له حيث تلتقيه».
لقد آن ان يرحل زمن الاستبداد. فالحرية أيقظت ضمير المرأة الذي خدره وأنامه ذل النقاب والحجاب… ان عفة الضمير اشرف من عفة الحجاب والخباء».
هذا كلام لا لبس فيه. هذه المتمردة ذهبت إلى الحدود القصوى: «كل الحرية للمرأة، ولا بد من تقييد الرجل، لأنه أعطى لنفسه حق الاعتداء على المرأة».
لا تكتفي الست نظيرة بهذا التطرف بالأدلة العقلية. لقد نصحت من قبل والدها وأصدقاء علماء له، بأن تطعّم رأيها بالأدلة الدينية، فأقبلت على كتب التفسير، واختارت أربعة منها، للقاضي البيضاوي، وعلاء الدين الصوفي، والإمام الطبرسي، وعبد الله النسفي.
وتدلف المتمردة إلى الاساس، إلى الآيات القرآنية، لتثبت بالنص، ان الحجاب خاص بنساء النبي من دون غيرهن من المسلمات، ثم تنبري بعد ذلك إلى الآيتين اللتين القت بعض تفاسيرهما الحجاب على وجه المرأة وهما: «قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم… وقل للمؤمنات يغضضن أبصارهن… ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمارهن على جيوبهن… ولا يضربن بارجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن»… و«يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى ان يعرفن فلا يؤذين».
تعرض الست نظيرة آراء المفسرين وتجد انها متنوعة ومختلفة إلى حد التناقض والتعارض، وتناقش كل تفسير لتخلص إلى النتيجة التالية: «لو أراد الله ستر الوجه لصرح بوجوب الستر ولكان استغنى عن آيات الغض من الأبصار». وتعتبر ان ما نص عليه في الآيتين، ليس ملزماً.
في مناسبة عيد الأم، ويوم المرأة العالمي، جدير بنا استعادة هذه السيدة التي هزمها مجتمعها، عندما خضع زوجها لشروط البيئة، ففرض على الست نظيرة، ان تصبح ربة بيت تعتني بتربية أولادها الذين تعلموا عليها الحرية والمساواة والعلمانية الصافية.
الغد العربي، لا ينبئ بربيع للمرأة. السلفية قادمة بكل حمولتها الشرعية، تفرض باسم الدين، ما لا يطاق، دينيا وإنسانيا. المرأة العربية، كانت تتطلع إلى ما رمت إليه الست نظيرة. وتحاول قوى الردة الذكورية، ان تعيد المرأة إلى الكهف، وتفرض عليها أحكاماً تتعامل معها كأنها عورة…
الغد العربي، في مخاض عسير، فهو إما يلد امرأة ناصعة الإنسانية، بكر الحرية، وفاضلة العطاء، وهذا ما تنزع اليه النساء، حتى في السعودية، وإما يلد عصراً من الظلمات.
لقد أسفرت المعركة عن فوز إسلاميين حتى الآن. فهل يلغون السفور ويفرضون الحجاب؟
انه زمن صعب… المرأة في خطر، لكن إلى حين.
أقوال في كتاب «السفور والحجاب»
الشيخ علي عبد الرازق
«نغتبط بكتاب الآنسة نظيرة زين الدين ونعتقد ان هذا الاسم قد استحق ان نفسح له موضعاً بين الاسماء البارزة في عالم النهضة النسوية في الشرق… ونرجو له النجاح».
الشيخ طاهر النعساني
«اني على استعداد لترويج كتابك في حاضرتنا حماه. فإن فيها من يقدر المرأة قدرها، ويعمل على اعطائها حقها، وإنالتها حقها من العلم والاخلاق».
هدى شعراوي
«اشكر لك ذلك النداء الحار إلى تحرير المرأة وهذا الصوت العالي في المطالبة، بحقها غير منقوص. كنت في كتابك الممتع مخلصة، وكنت شجاعة، وبمثلك يعتز جنسنا ويفاخر».
أمين الريحاني
«اننا سائرون إلى الأمام، وكتابك النفيس، أيتها المفكّرة الحرة الفاضلة، هو البرهان الأكبر على ما أقول. فأهنئك وأهنئ هذا العصر بك وبأمثالك».
خليل مطران
«اني لمعجب اعظم الأعجاب بأدبك الجم وذكائك المتوقد وبرهانك القاطع… فهل لمفكر يقارن بين مركز المرأة في الأمم التي تسود العالم اليوم وبين مركزها في الشرق، ان يرى غير رأيك».