الجزء الثاني والأخير
الطاهر المعز
دولة ازواد” وبذور الإنفجار
أعلن طوارق مالي يوم 6 نيسان 2012 استقلال دولة ازواد” في شمال البلاد، وتتخوف دول المنطقة (النيجر، الجزائر، موريتانيا، وكذلك المغرب ونيجيريا والتشاد.) من ظهور منطقة خارجة عن سيطرتها، وأرضًا خصبة لتدريب جماعات مُسلحة، قادرة على شن هجمات عبر الحدود، وتتكون “دولة أزواد” الجديدة، من ولايات تمبكتو وغاو وكيدال، حيث تتواجد حركات الطوارق والإسلاميين المُتشددين الذين عثروا على ضالتهم في منطقة صحراوية، أكبر من فرنسا، تصعب مراقبتها، وتسمح لهم بالانتقال إلى دول الجوار، موريتانيا والنيجر والجزائر، دون صعوبات تذكر. ولكن تعدد المجموعات واختلاف أهدافها، جعل بعض الخلافات تطفو إلى السطح، بين الطوارق، الذين يحلمون منذ عام 1960 بإعلان دولة خاصة بهم، والإسلاميين الذين أعلنوا أن هدفهم هو نشر الشريعة، ليس فقط في أزواد بل في كل مالي، ويرفض عرب مالي (منطقة تمبكتو) والأقليات الأخرى من “صنغاي” و”بول” حكم الطوارق، بالإضافة إلى مخاوف دول الجوار من الوضع الجديد. وكلها عوامل تحمل انفجار “دولة آزاواد”، ولا تستطيع حركة الطوارق السيطرة على الوضع المعقد، حيث ظهر قياديون من إسلاميي “أنصار الدين” التي يقودها “آياد آغ غالي”، (الشخصية السلفية البارزة في حركة تمرد الطوارق خلال التسعينيات) إلى جانب قادة “تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي”، في تمبكتو، ومنهـم مختار بلمختار (زعيم إرهابي جزائري) وتؤكد جماعة “أنصار الدين” التي سيطرت على مدينة تمبكتو في شمال مالي، أنها تخوض حربًا “من أجل الإسلام وفلرض الشريعة، وضد الاستقلال”، وستتصدى لحكومة مالي وللاستقلاليين الطوارق، وأكدت “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” التي أعلنت استقلال شمال مالي أنها مُستعدة لمُقاتلة “القاعدة” في إطار “شراكة دولية” (وهنا يكمن تداخل المصالح بين الحركات الإنفصالية والقوى الإمبريالية). ويبدو أن عناصر من حركة “بوكو حرام” النيجيرية قد ساعدت مقاتلي “القاعدة” للسيطرة على تمبكتو، وغاو، مما قد يوسع رقعة الإرهاب إلى كافة دول افريقيا الغربية الغنية بالنفط والغاز والمعادن. ولكن المصالح الإقتصادية الهامة في الصحراء،كتهريب السلاح والمخدرات والدخان والبشر، التي تشارك فيها كل المجموعات، قد تفرض وفاقات وحلولا وسطية تضمن تدفق المال والسلاح، خصوصا في هذه المنطقة الشاسعة التي يصعب على الدول بسط نفوذها الكامل عليها.
بقي أن نشير إلى أن بعض قادة الحركة الوطنية لتحرير آزواد ينحدر من عائلات تعاملت مع الإستعمار الفرنسي في مالي (مثل عائلة “الأنصاري”) ويتباهى بعضهم بعلاقاتهم الجيدة بالإمبريالية الأمريكية وبالصهيونية ويعلنون أن هدفهم “تأسيس الهلال السامي” (الموالي للإمبريالية والصهيونية)، من المحيط الأطلسي إلى فلسطين. وحال إعلان “استقلال دولة آزواد”، سارعت بعض القيادات البربرية المغربية والجزائرية إلى مباركة الإنفصال، وأصدر “المؤتمر الأمازيغي العالمي” (على وزن المؤتمر الصهيوني العالمي) بيانات عنصرية ضد العرب وموالية للإمبريالية والصهيونية، وقد سبق أن استدعى في مؤتمراته (المنعقدة في أمريكا وسويسرا) شخصيات صهيونية، تحملت مسؤوليات حكومية في دولة الإحتلال الصهيوني.
تحالفات باسم “محاربة الإرهاب”
استضافت الجزائر اجتماعا لقادة أركان الجيش في كل من مالي وليبيا وموريتانيا والنيجر (سنة 2009) من أجل تطوير استراتيجية إقليمية لمكافحة الإرهاب، وإنشاء مركز قيادة أمنية إقليمية في مدينة “تامنراست”، جنوب الجزائر.
وأصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريرا حول الإرهاب ( 5 آب 2010)، وجاء في أحد فصوله “أن البلدان المغاربية (أي المغرب العربي)، وخاصة الجزائر، أحرزت تقدما ملحوظا ضد الإرهاب”، وأن حكومات دول منطقة الصحراء “سعت إلى اتخاذ الخطوات الكفيلة بالتصدي للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، إلا أنه كانت هناك حاجة للحصول على الدعم الخارجي في شكل بناء القدرات العسكرية وقدرات فرض القانون”، وأشاد ممثلو الإدارة الأمريكية “بالنجاحات التي أحرزتها جهود قوات الأمن الجزائرية في مكافحة الإرهاب”. “وبما قامت به قوات الأمن الجزائرية من عمل إيجابي للدفاع عن الأراضي الجزائرية. وبأن شبكة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي قد اضطرت نتيجة لذلك لنقل عملياتها نحو الجنوب في منطقة الساحل، في موريتانيا والنيجر ومالي، وقامت بمضاعفة هجماتها في تلك المنطقة”. وتركز التقارير الأمريكية على “ضرورة التعاون” الدولي “لمكافحة الإرهاب”، لتبرير مشاريعها الهيمنية (مثل أفريكوم) ولتبديد أموال الدول الفقيرة وحلفائها المؤقتين في شراء الأسلحة (الأمريكية) والعتاد وأجهزة المراقبة والتخابر، وتدريب قوات الجيش والأمن على استخدامها (في ثكنات أمريكا أو على أيدي خبراء أمريكيين في افريقيا) عوض إنفاقها على مشاريع تنموية، لتحقيق الإكتفاء الذاتي الغذائي وخلق وظائف، لتشغيل العاطلين، وتطوير الصناعات الغذائية والتحويلية، وتطوير مؤسسات التعليم والصحة الخ. وتكررت هذه الإجتماعات ذات الصبغة الأمنية والمخابراتية، وتطور معها تغلغل الإمبريالية الأمريكية في المنطقة.
ووردت في إحدى فقرات التقرير، الإشادة التالية بنظام زين العابدين بن علي في تونس (سنة 2009): “أعطت الحكومة التونسية أولوية مطلقة لجهود مكافحة التطرف والإرهاب، ففضلا عن الإجراءات الأمنية وفرض القانون، استخدمت الحكومة برامج اجتماعية واقتصادية، كالرعاية الصحية والتعليم العمومي من أجل تحسين الظروف التي يستغلها الإرهابيون لأغراض التجنيد والدعاية.”، ونذكر أن المطالب الإجتماعية كانت منطلقا للمظاهرات، بداية من 17 كانون الأول 2010، وساندت القوى الإمبريالية (منها أمريكا وفرنسا) هذا النظام القائم على القمع والحيف الإجتماعي إلى آخر يوم من عمره. ووردت في نفس التقرير إشادة بنظام معمر القذافي في ليبيا، نظرا “للجهود المبذولة والنجاحات المحققة في مجال محاربة الإرهاب”، وبعد أقل من سنتين استعملت أمريكا نفس الإرهابيين (ممن ادعت محاربتهم في أفغانستان) للإطاحة بالنظام الليبي وتفكيك الدولة وإغراقها في الفوضى والدمار، و”إعادة الإعمار”.
انعقد في الجزائر، يومي 7 و 8 أيلول 2011، مؤتمر لوزراء خارجية الجزائر ومالي وموريتانيا والنيجر إلى جانب الدول الأعضاء في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي و”خبراء في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة” (أي مخابرات الدول الإمبريالية)، “لبحث سبل تكثيف التعاون في مجالات التدريب والأسلحة والاستخبارات والتنمية”، وفق ما ورد في البيان الختامي للمشاركين في هذا “المؤتمر الوزاري حول الأمن في الساحل”، واختيرت الجزائر “لما لها من خبرة ومهارات وشرعية لا غبار عليها، في مكافحة الإرهاب”، وأشاد قائد القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا “أفريكوم”، الجنرال كارتر إف هام بـ “الدور المحوري الذي تلعبه الجزائر في حربها المستمرة ضد آفة الإرهاب الشنيعة”، وتزامن انعقاد المؤتمر مع تخوف حكومات دول المنطقة (خصوصا مالي والنيجر) من تداعيات الإطاحة بالنظام الليبي، وانتشار الأسلحة، “وتأثيرها على استقرار المنطقة المحيطة بالصحراء”، وادعت الدول الإمبريالية، التي أججت الحرب في ليبيا، أن “تركيزها منصب على كيفية مساعدة بلدان المنطقة على القيام بحملاتها الخاصة لمكافحة الإرهاب ومحاربة التهريب عبر الحدود..” وأعلن وزير خارجية الجزائر، التي أصبحت تلعب دور القوة الإقليمية، والوسيط بين الإمبريالية ودول المنطقة: “إننا بحاجة إلى شركاء وإلى تمويل وإلى تأهيل ومعدات ومعلومات”، رغم التصريحات العديدة لقادة الجزائر بأن الحرب ضد الإرهاب هي أولا وقبل كل شيء مسؤولية بلدان المنطقة ولا يمكن لأحد التدخل واتخاذ قرارات نيابة عنهم. واجتمع وزراء خارجية الجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر في واشنطن، خلال شهر تشرين الثاني سنة 2011، مع مسؤولين أمريكيين سامين (منهم مستشار الرئيس المكلف بملفات الإرهاب والأمن القومي)، لبحث شؤون أمن الساحل، وحسب الوزير الجزائري المكلف بالشؤون الإفريقية، لقد مثل هذا الاجتماع “مرحلة نوعية”، ورسخ الشراكة الإقليمية لمكافحة الإرهاب، وجاء مكملا لعدة مؤتمرات سياسية وعسكرية واستخباراتية استضافتها مؤخرا الحكومات الإقليمية بما فيها قمة باماكو التي قادت إلى إجراءات جديدة لتبادل المعلومات، وقبل ذلك زار مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، المكلف بالمغرب العربي، الجزائر، ل”بيع عتاد عسكري، في إطار مكافحة الإرهاب”، وأقر بوجود شراكة “هامة” بين الجزائر وأمريكا تقوم على”الصداقة والمصالح المشتركة العديدة ” (والواقع أن لا دخل للصداقة في هذا المجال)، وأصبحت الحكومة الجزائرية ترى “أن التعاون مع أمريكا لمكافحة الإرهاب أساسي وضروري في مستوى تبادل المعلومات والتدريب والتكنولوجيات والتنمية الاقتصادية. لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة في إطار جماعي منظم ومتفق عليه.”، وتلح الجزائر، في نفس الوقت، على الربط بين الاستقرار الأمني والتنمية.
الطموحات الأمريكية في منطقة الصحراء
تعللت أمريكا بأحداث 11/09/2001 للتخطيط لإقامة قواعد عسكرية في افريقيا (كما في مناطق أخرى من العالم)، وكانت أمريكا (ولا زالت) تستغل قاعدة “طانطان” في المغرب، وأثنت الحكومة المغربية على “الأهداف الإنسانية” النبيلة للقوات الأمريكية في المغرب التي “قدمت كمية من اللوازم المدرسية لمصلحة تلاميذ إحدى المدارس الإبتدائية بالمدينة” (وكالة أنباء المغرب العربي، حكومية، 07/04/2005)، وكان قائد قوات الحلف الأطلسي في أوروبا، الجنرال الأمريكي “جونز” قد صرح، في آذار/مارس 2003، قائلا:”لم يعد بمقدور أمريكا أن تبقى بعيدة عما يحدث في افريقيا، وليس بوسع القوات الأمريكية أن تظل تراقب الوضع، انطلاقا من البحر. لقد آن لها أن تحط في اليابسة، في تلك المناطق الشاسعة من الصحراء، التي أصبحت مرتعا للجريمة والإتجار بالمخدرات والأسلحة، ولم يعد بمقدور دولها أن تفرض سيطرتها ومراقبتها.”، ولعبت القاعدة العسكرية الأمريكية في “طانطان” المغربية دورا هاما في إدارة عمليات التجسس بمنطقة “الساحل” والصحراء، وفي تقريب النزاعات المسلحة من دول المغرب العربي (إضافة إلى الحرب الأهلية الدامية والمدمرة التي دامت 10 سنوات في الجزائر)، وتزامن تصريح الجنرال الأمريكي “جونز” مع تدخل قوات الكومندوس المغربية لإفشال محاولة انقلابية في موريتانيا، قادها الضابط “ولد حنانا”، سنة 2003. ومنذ سنة 2005 بدأ الحديث (والتسريبات المقصودة) عن مشروع إنشاء القيادة العسكرية الأمريكية الموحدة في افريقيا المعروف باسم “أفريكوم”، وتركيز قواعد عسكرية أمريكية حول منطقة الصحراء. وتزامن ذلك مع احتداد التوتر في المنطقة والعمليات المسلحة واختطاف الرهائن، وهذا من شأنه أن يكثف التواجد العسكري الخارجي، ويفتح باب التدخل العلني “المشروع” للإمبريالية، باسم “مكافحة الإرهاب”، ويؤخر عمليات التنمية الإقتصادية وبرامج الصحة والتعليم، لفائدة السكان (هذا إذا كانت للحكومات برامج اجتماعية أصلا). وفي مرحلة لاحقة، اعتبرت أمريكا (قبل عدة سنوات) أن “انتشار الإرهاب وتجارة الأسلحة والمخدرات والرقيق، والهجرة غير النظامية، والأنشطة غير الشرعية في الصحراء، مصدر للمخاطر الأمنية والإرهابية، وخطورتها في منزلة خطورة الوضع في العراق وأفغانستان واليمن ودارفور.” (ويكمن الخطر في وضع الإرهاب وتجارة الأسلحة والمخدرات، في نفس منزلة الهجرة غير النظامية) لذا تستنتج أمريكا أن من واجبها (الأخلاقي؟) التدخل العسكري المباشر أو بواسطة الحكومات المحلية، “من أجل إعادة الهدوء إلى هذه المنطقة” (الإستراتيجية والغنية بالمعادن والثروات الأخرى)، و”تقترح” أمريكا تمويل التدخل العسكري في منطقة الصحراء بواسطة “أصدقائها” السعوديين، والخليجيين عموما. وبعد سقوط رأسي النظامين التونسي والمصري وسقوط نظام القذافي في ليبيا، كثفت أمريكا من “مشاوراتها” مع حكومات الدول المحيطة بالصحراء، ودعت وزراء خارجية الجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر إلى الإجتماع في واشنطن يوم 11/11/2011، “لدعم الشراكة الإقليمية لمكافحة الإرهاب”. واعتبر هذا الإجتماع مكملا لعدة مؤتمرات سياسية وعسكرية واستخباراتية، وللنشاط الدبلوماسي المكثف حول “خطر الإرهاب وتداعيات الثورة الليبية”، وتبادل الخبرات والمعلومات في مستوى التدريب العسكري والتكنولوجيات والتنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى زيارات عديدة لمسؤولين أمريكيين لمنطقة المغرب العربي والساحل الصحراوي. وحاولت الجزائر ربط مكافحة الإرهاب بموضوع التنمية (وهو ما لا تقوم به داخل الجزائر) لأن منطقة الصحراء “تعتبر من بين الأفقر في العالم وتواجه نموا كبيرا لشريحة الشباب التي تحتاج إلى موارد لتفادي الانضمام إلى العصابات الإجرامية أو الجماعات الإرهابية”
مقدمات أفريكوم
بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وحل حلف وارسو وتفكك الكتلة الشرقية، لم يعد وجود الحلف الأطلسي مبررا، إذ كانت ذريعة تأسيسه “مقاومة الشيوعية والدفاع عن العالم الحر” (أي الإقتصاد اللبرالي)، لكن حلف شمال الاطلسي شرع في تطبيق استراتيجية عسكرية جديدة تمثلت في اعادة تحديد وظائف ومهام الحلف وتوسيع عضويته ومناطق نفوذه. ومن جملة المناطق التي استهدفتها أمريكا، ومن ورائها الحلف الأطلسي، منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط (بعد السيطرة على شرق ووسط أوروبا وآسيا الوسطى)، فدخل الحلف في مفاوضات مع بعض دول جنوب حوض المتوسط من اجل اعادة انتشار قواته في المغرب العربي وافريقيا، وأفضت هذه المفاوضات الى ابرام اتفاقية شراكة بين حلف شمال الاطلسي ودول جنوب المتوسط تحمل اسم ” الحوار المتوسطي”.
الحوار المتوسطي
وقعت خمس دول متوسطية هي موريتانيا والمغرب وتونس ومصر والكيان الصهيوني، اتفاقية الحوار المتوسطي مع الحلف الاطلسي، سنة 1994، والتحقت بها الأردن سنة 1995، وانضمت لها الجزائر سنة 2000. وبعد انفجارات 11 أيلول 2001، شرع حلف شمال الاطلسي عمليا في تنفيذ خطة تموقعه في حوض البحر الأبيض المتوسط، وخلال سنة 2003، تبنى اعضاء الحلف خطة عمل في البحر المتوسط تحت عنوان “المبادرة الامنية لمكافحة انتشار اسلحة الدمار الشامل”، حددت لها ثمانية اهداف من بينها: مراقبة الملاحة الجوية والبحرية في حوض المتوسط (65 بالمائة من حاجيات اوروبا من الغاز تمر عبرالمتوسط)، وأجرت قوات الحلف مناورات بحرية، بمشاركة دول حوض المتوسط، بعنوان “مراقبة الملاحة في المتوسط ضد خطر الارهاب”. وخلال سنة 2004، شمل نفوذ الحلف الأطلسي كافة دول المنطقة، ودخلت قيادته في محادثات مع انظمة دول المغرب العربي لإقامة قاعدة عسكرية، ونقل القيادة الجنوبية للحلف من اوروبا الى افريقيا، وكان الحلف يفضل المغرب أو الجزائر لاستضافة القاعدة العسكرية، بحكم موقعهما الإستراتيجي. ونظم اليسار الماركسي في المغرب يوم 04/04/2004 وقفة احتجاجية ضد حلف شمال الاطلسي، وبعد سنة، وزع تحالف اليسار بيانا مناهضا للوجود العسكري الامبرايالي في المغرب (04/04/2005). وبدأت أمريكا منذ سنة 2006، تجاهر بمخططاتها العسكرية، وتهيئ لتركيز “أفريكوم”، وتجس النبض لاختيار الزمان والمكان المناسبين لإنجازها، على أرض الواقع. وكانت الجزائر وليبيا وجنوب افريقيا ونيجيريا من الدول المعارضة للمشروع، ولتواجد القواعد العسكرية. أما الجيش المغربي فقد شارك في عدة مناورات برية وبحرية، مع الجيش الأمريكي ومع قوات حلف الأطلسي، في مناطق مختلفة من المغرب (طانطان، ورأس درعة، وتارودانت في الجنوب المغربي، ثم القنيطرة سنة 2010) وقد جاء في بيان للسفارة الأميركية أن هذه المناورات تجري تحت إشراف القيادة الأفريقية «أفريكوم»، وتكثفت هذه المناورات منذ سنة 2008، وراجت أخبار عن إقامة قاعدة عسكرية بالجنوب المغربي بين كلميم وطاطا، إضافة إلى قاعدة “طانطان”.
الإستراتيجيا الأمريكية وفزاعة الإرهاب
كانت الجزائر وجنوب افريقيا ونيجيريا وليبيا من المعارضين لتواجد قواعد عسكرية أمريكية في افريقيا، في إطار “أفريكوم”، فغيرت أمريكا تكتيكاتها وأصبحت تعتمد على المحادثات والتدريبات العسكرية الثنائية، وركزت على الجزائر (باعتبار رغبة أمريكا في التموقع في المنطقة العربية، قريبا من منابع الطاقة والمعادن وغير بعيد من طريق مرورها)، وتكثفت زيارات الضباط من القيادة الإفريقية الأمريكية (أفريكوم) ومسؤولين أمريكيين آخرين إلى الجزائر في بداية سنة 2010، “لتظهر أن هذا التعاون في محاربة الجماعات الإسلامية الإرهابية في الساحل الإفريقي هو هدف مشترك، تأمل أمريكا والجزائر تحقيقه” وزارت “سوزان إف بورك”، المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي لمنع انتشار الأسلحة النووية، الجزائر لمدة 3 أيام، (من 20 إلى 22/02/2010) وقالت “تلعب الجزائر دورا هاما في مجال الدبلوماسية متعددة الأطراف وتعتبر شريكا هاما”، وفي تشرين الثاني 2009، التقى قائد “أفريكوم”، الجنرال ويليام وورد (تغير منذ ذلك الحين وعوضه الجنرال كارتر هام)، الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة ومسؤولين عسكريين رفيعي المستوى، لمناقشة “الجهود الأمريكية الجزائرية المشتركة ضد الإرهاب، وخاصة تبادل المعلومات من خلال التدريب.” وشدد الجنرال “ويليام وورد” على أنه لم يأت للجزائر ليطلب منها استضافة مقر “أفريكوم” (وقد كانت هذه المسألة مطروحة في وسائل الإعلام)، وبعد أقل من شهرين من زيارة قائد “أفريكوم”، التقى مسئولون من القوات الجوية الجزائرية، في عاصمة الجزائر، قائد القوات الجوية الأمريكيةفي افريقيا، لمواصلة النقاش حول التعاون في الحرب ضد الإرهاب في المنطقة المغاربية والساحل الصحراوي، وقال اللواء “رونالد لادنيي” أن أمريكا “مستعدة للعمل جنبا إلى جنب مع الجزائر، من أجل ضمان الإستقرار ومواجهة هذه التهديدات” (عن صحيفة “الوطن” 26/01/2010. وحسب موقع “مغاربية” ( موقع أسسته وتديره وزارة الحرب الأمريكية)، بتاريخ 26/02/2010، فإن “تأسيس أفريكوم يشكل تحولا في الحضور الأمريكي في القارة، من السياسي والإقتصادي إلى العسكري، ولو بشكل غير مباشر، وإن زيارات مسؤولي أفريكوم إلى الجزائر استهدفت أساسا معالجة الوضع الأمني في الساحل الافريقي، وتهدف الشراكة العسكرية بين أمريكا والجزائر إلى تحديث القوات العسكرية في المنطقة وتبادل المعلومات الأمنية والإستخباراتية، قبل تزويدها بتجهيزات متطورة، على غرار أجهزة الرصد، والطائرات الإستطلاعية من دون طيار”، أي ربط جيوش المنطقة بالجيش الأمريكي، تجهيزا وتدريبا وإيديولوجيا أيضا لمدة طويلة. وأعلن الجنرال ويليام وورد عن “تطابق الأهداف بين الجزائر وأمريكا، ورغبتهما في الإستقرار وحماية المواطنين الأبرياء من الضرر، والعمل معا على للوقاية من أعمال التطرف العنيف”. ولا يستحي الجنرال وورد من الحديث عن حماية المواطنين الأبرياء، وزهو الذي ساهم في الإعتداء على العراق واحتلاله وتدميره واستعمال الأسلحة السامة والفتاكة، كما ساهم في عديد المهمات القذرة في فلسطين والوطن العربي وغيرها. لكن يبدو أن أمريكا استفادت من تجربتها في العراق وفي أفغانستان، وأصبحت لا تكتفي بالمراقبة من السماء بواسطة الأقمار الصناعية أو بواسطة التكنولوجيا، وعادت إلى التركيز على جمع المعلومات بواسطة المخبرين والجواسيس، وهو ما بدا جليا في البيانات والتصريحات الرسمية الأمريكية أو من جدول أعمال الإجتماعات المشتركة، وتحاول أمريكا الإستفادة القصوى من جيوش ومخابرات “الأصدقاء”، والتخفيف من خسائرها البشرية، فتعهد بالمهمات القذرة إلى الجيوش والمخابرات المحلية، وتستأثر أمريكا بمداخيل بيع الأسلحة والتكنولوجيا، ومراقبة مصادر الطاقة وطرق تسويقها.
خاتمة
يثير انقلاب جمهورية مالي والأحداث اللاحقة له، وإعلان تأسيس الطوارق ل”دولة آزواد” في الصحراء الكبرى عدة تساؤلات عن المستفيد من الإنقلاب ومن إعلان هذه الدولة الجديدة. تعمل أوروبا منذ نصف قرن على إزالة الحدود وفتح الأسواق داخلها، ولا زالت تتوسع لضم أكثر ما يمكن من الدول إلى الإتحاد الأوروبي، وخلق مؤسسات موحدة وعملة موحدة واقتصاد مرتبط، وتحاول توحيد سياستها الخارجية وسياستها المالية، رغم الحروب الطاحنة التي جرت بين هذه الدول، قبل 65 سنة. لكن أوروبا وأمريكا (وتوابعها من كندا وأستراليا إلى دول أوروبا الشمالية) تشجع وتعمل على تقسيم الدول العربية والافريقية (العراق، السودان، ليبيا، مالي.) وخلق كيانات هزيلة فوق أراضي شاسعة، تصعب مراقبتها والسيطرة عليها، وتفتقر للبنية التحتية ولمقومات الدولة الحديثة. وبذلك تسهل مراقبة هذه الكيانات والسيطرة عليها لتصبح حليفا أو تابعا، وقاعدة أو نقطة انطلاق، أو محطة للتوسع الإمبريالي، وللسيطرة على الثروات الهائلة في افريقيا مثلا (المياه والمعادن والطاقة والموقع الإستراتيجي.)
بلخص الباحث الجزائري محمد برقوق (مركز الشعب للدراسات الإستراتيجية)، في حزيران 2011، الأطماع الإمبريالية في المنطقة، كما يلي: “بدأ اهتمام أمريكا بالمنطقة سنة 1961 وأبرمت أول اتفاق عسكري مع مالي، بعد سنة واحدة من استقلالها، وأبرمت فرنسا اتفاقا مع البلدان التي تستعمرها سنة 1961، وعدلته سنة 1974، وتحافظ فرنسا على قواعد عسكرية في التشاد وجمهورية افريقيا الوسطى والغابون وساحل العاج والسنغال وجيبوتي.” ولأمريكا قاعدة في جيبوتي وشبكة كثيفة من العلاقات الأمنية والعسكرية في البلدان الافريقية، واعتمدت أمريكا مقاربة مختلفة عن فرنسا، وتتمثل في الإختراق الإستراتيجي، باعتماد مجموعة من الأدوات من قبيل التكوين والمساعدات العسكرية والمالية، في شكل هدايا وتجهيزات وبرامج مثل عملية “فلينتوك” السنوية، وهي مناورة عسكرية “تهدف لتطوير القدرات العسكرية الافريقية”، وأهم هذه الأدوات، الحوار بين قادة أفريكوم وقادة الدول الافريقية، وللمرة الأولى تنخرط قيادة عسكرية إقليمية أجنبية في الحوار مع البلدان الافريقية، وكأنها طرف فيه، وهو نوع من “العلاقات العامة”، لإظهار أن افريكوم ليست أداة للهيمنة. وجرت عدة اجتماعات بين قادة أفريكوم وقادة أركان جيوش منطقة الساحل والصحراء (بإدماج المغرب)، وأطلق الأمريكيون مشروعا جديدا لسنة 2011، يستهدف النخب المدنية والعسكرية في المغرب وتونس، إضافة إلى برنامج “ميبي” (مشروع الشراكة للشرق الأوسط) ودوره الإيديولوجي لتخريب المجتمعات العربية، وغرس الأفكار “النيوليبرالية”، وتمرير مشاريع “الشرق الأوسط الجديد” وقبول الهيمنة بدعوى “الإنفتاح”، وأحيانا الإستنجاد بالإمبريالية “لنشر الديمقراطية” وإزاحة الأنظمة الدكتاتورية (التي تساندها الإمبريالية)، وتستهدف أمريكا وأوروبا لنشر سمومها الشباب المتعلم والنساء والصحافيين ورجال الأعمال، ومن تسميهم “ناشطي المجتمع المدني” (مفردة ناشط، تعوض كلمة مناضل، حتى لدى الفلسطينيين المحتلة أرضهم)، وتخصص لهم ندوات ومحاضرات ودورات تأهيل الخ. أما أمريكا واوروبا فإنها تغلق حدودها أمام البشر والمنتوجات (الفلاحة والصناعات التقليدية.) والأفكار الداعية للتحرر من الهيمنة، القادمة من الدول الفقيرة، وأفريقيا والوطن العربي على وجه الخصوص.
المراجع:
الإستشهادات الواردة لرسميين أمريكيين مقتطفة من موقع “مغاربية” الذي تموله وزارة الحرب الأمريكية، متابعة الموقع بين 2006 و 2012 – magharebia.com
“أفريكوم”، مخطط امبريالي أمريكي في افريقيا – الطاهر المعز – آذار/مارس 2009
“ميبي”، مشروع هيمني أمريكي في الوطن العربي- الطاهر المعز – نيسان 2009 – MEPI
ملحق
خارطة منطقة الصحراء الكبرى و”الساحل” الافريقي
Rural Visit as shown in NASA Earth Observatory
Map of the sahel in north Africa. Some scientists include Eritrea in the sahel. |
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.