ثمنـــاً للشمس

عمل جميل وأصيل للمناضلة عائشة عودة

د. عادل سمارة

عمل أدبي سياسي يقع بين الرواية والمذكرات وربما الأفضل يوميات مناضلة فلسطينية.

كانت قد غضبت مني لأنني تأخرت في لقائها لأخذ نسخة أهدتني إياها لتقل لي: لولا انني كتبت الإهداء لألغيته. تهديد قوي بلا ذنب. لم أتأخر لأي سبب خاص بل لظروفي بما فيها من تعقيدات. لم أقرأ هذا العمل فوراً فكثيراً ما أهرب من الأدب وسيَر الحياة تحت ضغط قراءات من أجل الكتابة، فمن الفهلوة والخداع أن يكتب المرء كثيراً ويقرأ قليلاً.

لكنني وتلافياً لغضبة مُضرية أخرى من عايشة قررت قطع أولوياتي وقراءة هذا العمل.

اكتشفت بأن عايشة على حق حيث أنجزت عملاً يليق بمناضلة ويليق بالمعتقلين وتضحياتهم.

عمل إنساني بامتياز، شفاف لا خطابة ولا عنتريات، وواضح وضوح القتل في زمنٍ ملحه  بل لحمه وسُداه الكذب وخاصة في مجال الإعلام والثقافة.

يقوم العمل على لغة متماسكة تُنبىء عن تماسك ذاتي وتصالح إنساني داخلي بين الكاتبة ومواقفها وتقديم التجربة للقارىء.

قد يكون لي الزعم بالدرجة العالية جداً لمصداقية الكتاب/الرواية. ليس لأنني كنت معتقلاً كذلك، بل لأن الكثير من محطات الكتاب كنت شاهداً عليها، مباشرة أو لا مباشرة.

إذا افترضنا العمل رواية فالمستوى الإبداعي فيها أن الشخوص حقيقة والأماكن حقيقية. وإذا افترضناه سيرة حياة لمرحلة معينة فهي طبق الأصل للحياة نفسها. وإذا وضعناه في موضعه والهدف منه فهو عمل تأريخي لمرحلة من حياة شعب بل حياة شعب من المعاناة التامة المكتملة.

والعمل رصد لتطور وعي المعتقلات الفلسطينيات من دافع وطني طبيعي، وفي هذا المستوى أعتقد أن أية بداية سياسية  وفكرية إن لم تبدأ وطنية فهي ليست اساسية ويُخشى عليها من الانحراف أو التوقف. وتطور وعي المعتقلات كما يبدو جرى صقله في المعتقل نفسه سواء المطالعة والوقت الوفير للتفكير والتقييم وكذلك مواجهة العدو النسائي وجها لوجه وخبرة الاختلاط بالمعتقلات الأمميات.

ليست هذه قراءة عرض للكتاب. ولو حاولت ذلك لكتبت عن الكتاب كتاباً لأن مختلف المحطات حية وحقيقية، والمشترك فيها كبيراً من جانبي. ولكن يمكن المرور على بعض محطاته.

لا يمكن لأحد أن يزعم أنه خبير بمختلف جوانب حياة السجون. فلكل تجربته وظروف اعقاله وطبيعة نشاطه، ومآل حياته بعد الاعتقال. هذا من الدروس التي استنتجتها مع كتاب عايشة.

ذكرت الكاتبة عن “غرام المعتقلات من النساء اليهوديات بأم كلثوم”. هذا   مفتاح على الخلفية الثقافية والإثنية الشرقية لهاتيك النسوة وهو أمر يفتح على مسألة شديدة الأهمية وهي غياب ثقافة موحدة لسكان الكيان كمستوطنين من ربما مئة قومية، وهي دليل على أن الدين جزء من الثقافة وليس الثقافة كلها. وربما يسمح لنا هذا الحديث بتوسع ما، بمعنى أنه يفتح على سؤال عربي كبير:

كيف يتصور مثقفو الدين السياسي الإسلامي من الوهابيين أن تتم وحدة ما تسمى الأمة الإسلامية بناء على الدين وحده؟ وهل حصل أن كانت هناك وحدة إسلامية في الماضي أم إمبراطورية عربية إسلامية؟ هذا إن لم نقل كيف يتوحد المسلمون، وهم يتذابحون على المذاهب اليوم؟ فما نتمناه سلاماً داخلياً ليس أكثر.

لا غرابة أن تتذكر عايشة أخيها المغترب كامل (ابوعودة) وهي مهددة بالتوقف عن الذهاب إلى المدرسة من القرية لأن أخاها كان تقدمياً بالفطرة، ولا غرابة أنه حينما حصل الاحتلال، كان من اوائل المناضلين معنا في صفوف الجبهة الشعبية. كان الوحيد الذي لديه سيارة فلوكس فاجن، نستخدمها للعمل دون أن ندفع ، ولم يكن لدينا ما ندفع.

لست أدري هل تعرف عايشة عودة لماذا أحالت المحامية فيليتسيا لانغر ملفها إلى المحامي علي رافع. تقول عايشة ان قول لانغر بأن لديها اشغالا كثيرة ليس السبب الحقيقي. نعم ليس السبب الحقيقي. فالسبب الحقيقي ان لانغر لم تستلم قضية اي فلسطينية/فلسطيني قام بعملية أدت إلى قتل يهود سواء مباشرة أو غير مباشرة. وهي بهذا تنسجم مع موقف الدولة الصهيونية ممن تسميهم اصحاب الأيدي الملطخة بدم اليهود. وموقف لانغر هذا هو موقف من يرفض الكفاح المسلح والذي تبناه الكثير من الشيوعيين عربا وغير عرب.

من أكثر ما لفتني ذلك التصوير الدقيق للصراع الداخلي للإنسان خلال الإضراب عن الطعام. تصوير لا يقوم على المبالغات البطولية، بل هو تصوير مبسط، عادي كلوحة للحياة اليومية حيث يعلو منسوب التمسك الكفاحي وينخفض أحياناً بمشاعر إنسانية، هو صراع العقل والغريزة، الإرادة والجوع. وهي حالة مر بها مئات آلاف الفلسطينيين. ولا شك أن صمود الأسرى هذه الأيام في الإضراب عن الطعام هو تطوير أعلى للتجارب الأولية في سنوات الاعتقال الأولى.

لا توافق الكاتبة على خطف الطائرات. وقد يكون هناك معنى لهذا لو كانت لا توافق على قتل المخطوفين. ولكن ما خطورة خطف الطائرات مقابل خطف الأوطان، ليس فلسطين فقط بل العراق وليبيا والصومال وصربيا؟؟؟

يحضر الحب في المعتقلات ربما أكثر من اية قضية أخرى. فالحب الحر وليس حرية الحب فقط، الحب الحر هو النقيض المطلق للسجن. في السجن أنت أمام عدو علني ومكشوف ومطلق، فلست بأحوج لأمر أكثر من الحب حيث نقيض هذا العدو في كل شيء. بل هو الخروج الروحي من بين القضبان.

يذكرني هذا البوح الصريح من الكاتبة بأحد المعتقلين في معتقل بيت ليد 1971، حيث أراني ذات مرة صورة لأولاده وزوجته وكان قد قطع راس صورتها؟ وفي حالة أخرى، اشتكى جندي عربي يعمل مع شرطة الكيان إلى شاويش غرفتنا في بئر السبع قائلاً: عيب أن يكتب المعتقلون لزوجاتهم في رسائلهم لزوجاتهم: حبيبتي لأن الشرطة اليهود يقرؤون الرسائل! فالشرطي رغم انه يخدم في شرطة العدو إلا أنه لم يفقد (حسب ثقافته) الغيرة على نساء العرب! علق أحد المعتقلين بالقول: يا شاويش الغرفة ابو… هل اكتب لها بغلتي؟

شكراً لعايشة عودة على إهدائي الكتاب، وهي التي طالما قالت لي: أختلف معك في أمور كثيرة، ولكنني اقرئك. وأنا اقول لها، لا أختلف معك بقدر ما تختلفين معي، وسأقرئك بعد هذا أكثر.