في نحت المصطلح وتحرير المعنى

عادل سمارة

  • ·       مراكمة الثروة أم المعرفة للثورة
  • ·       تذويت وإعادة الهندسة
  • ·       موجة القومية الثالثة

 

تناقش هذه السلسلة مفاهيم ومصطلحات، وضعتُها واستخدمتُها على فترات متفاوتة، ولا ازعم أنها ثوابتاً لا لديَّ شخصياً ولا لدى الزمن. ولكنها محاولات لإعطاء معنى لأحداث وموضوعات وحتى لمفردات تتطلب ذلك. ليس هذا نحت لغة أخرى مثلاً كما زعمت النسويات الراديكاليات بخلق لغة ضد ذكورية فاصطدمن بحائط أدى إلى الصلع الفكري، ولا كما يزعم من يتهربون من الفكر الشيوعي بتهمة أنه –اوروبي- فيرفضون أدواته في التحليل ويحاولون خلق أدوات أو لغة أخرى، نحن بانتظار إنتاجهم!

اللغة نتاج البشرية، والعبرة في تحميل المعنى وتحرير الأدوات. هذه محاولة لتحرير المعنى من أجل تحرر الإنسان، هي إعلان انفلات اللغة وتحررها من قيود فُرضت عليها سواء من مفكرين/ات أو مؤسسات، اي خروجاً على التعليب. وعليه، فهذه المعاني مفتوحة سواء على تطورها/ تطويرها من الكاتب او اي قارىء.

 

“كنعان”

* * *

(8)

مراكمة الثروة أم المعرفة للثورة

 

التراكم هو الترجمة العملية والمآل النهائي لراس المال عبر عمليات السوق سواء بالمعنى الفيزيائي للسوق اي المكان والموقع ومواجهة العاملين والباعة والمُستهلكين لبعضهم بعضاً او السوق بمعناه الافتراضي على الشبكة العنكبوتية. وعمليات السوق الأساسية  هي العمل/الإنتاج والتوزيع والاستهلاك والادخار بهدف الاستثمار والتي مبتداها ومنتهاها الإنسان منقسم بوضوح وإن لم يكن دوماً بصراع واضح ومكشوف إلى عامل (منتج) ومالك يضع يده على الإنتاج.

يتضح التفارق بين العامل والمالك في الهدف من عملية العمل. كما يرى ماركسن فالعمل كان بهدف الاستعمال مما اعطى المنتجات معنى قيمتها الاستعمالية، ليأتي تورط الإنسان في الملكية الخاصة فيحرف إنتاج القيمة للاستعمال إلى التبادل، وتكون سلسلة صراع بشري هائل حتى اليوم بين المنتجين وواضعي يدهم على الإنتاج.

تتضح إشكالية الإنسانية في اقتصارها انحصارها زمنيا  النسبي على مراكمة الثروة، بغض النظر عن حصة كل طبقة او فرد اي حين يكون الشاغل الرئيسي للناس هو السباق على الثروة في وضع تنافسي اشبه بصراع وحشي. فالمنافسة ليست مباراة إنسانية حتى في مستواها الأولي، هي إخراج فرد لفرد مشروع لمشروع طبقة لطبقة من السوق اي من الوجود المؤثر اي من الحصول على حصة من الاقتصاد بل الإنتاج لاحتكار الثروة وصولا إلى احتكار التراكم. وحينما تقتصر العلاقات الاجتماعية على هذا المستوى يتم تاجيل التغيير التاريخي لزمن قادم ما. فالأصل في الإنسان العمل لإنتاج القيمة الاستعمالية وليس التبادلية التي تحمل في احشائها آليات الاستغلال بما هو اي الاستغلال استلاب العمل وتغريب العامل وتعظيم التراكم.

تكمن مسافة التخطي لما هو قائم في انتقال الإنسان من مراكمة الثروة إلى تراكم المعرفة بمعنى الوعي، اي تفعيل المعرفة اجتماعيا وبالتحديد طبقياً. إن وصول المعرفة وتحويلها إلى وعي وتفعيل الوعي هي الاستجابة الإنسانية لتحدي الواقع الاجتماعي مجسداً في حضور مادي دعنا نختزله في موقع العمل ، الإنتاج الاستغلال الاستلاب ومن ثم وصول التراكم الراسمالي وحصول العامل على اقل قدر ممكن مقابل بيع جهده. وعملية البدء والوصول المعقدة هذه لا تتسنى او تتم لكل إنسان فرد بنفس القَدر والفرصة مما يحولها إلى مسالة تكاد تنحصر في النخبة مما يحقق للنخبة فرصة مراكمة المعرفة او مراكمة الوعي او مشروع الوعي.

كلما ازداد التعليم والقراءة والمعلومة وتوفرت للناس اكثر كلما تزايدت المعرفة التي تظل كتيمة وكامنة ما لم يتم تفعيلها وهنا ياتي دور النخبة على شكل إما الفرد او الحزب أو الطبقة في تحديد من اجل ماذا يحمل المعرفة وهل يوصلها إلى التفعيل ومن أجل من؟ وفي، أو لكل من هذه جهد وثمن.

لعل احتكار النخبة للمعرفة هو بمستوى خطورة احتكار الطبقة للثروة. وتصبح المسالة ورطة حقيقية حين يتواطىء اهل المعرفة مع اهل المال مما يقود إلى انسداد اجتماعي سياسي حرياتي وتحرري.

من يقرأ الوضع العربي وإلى حد كبير العالمي يلاحظ تحالف الاحتكار مجسدا في الطبقة/ات الراسمالية مع النخب الثقافية التي قد لا تتحكم ولا تحتكر كل المعرفة ولكنها توظف معرفتها في تحريف وتشويه الوعي في خدمة للثورة المضادة. إنها حالة تحويل المعرفة والوعي إلى سلعة من الاستعمال إلى التبادل.

وإلا ماذا نسمي ثرثرة مثقفين عرب عن الدمقرطة محصورة في النزول إلى الميادين، اي حق الصراخ من خواء الأمعاء دون تحريرها من مسببات الخواء! وماذا نسمي التسليم بثروات الخليج لأسر بطرت من البطر بينما تنام عشرات الملايين على الطِوى وتعتقد ان هذا المال لتلك الأسر وتتجند للقتال والاقتتال كما توجهها   فتاوى رجال الدين السياسي  سواء ضد العلمانية وتحرر المراة او لتبرير التطبيع مع الكيان الصهيوني او البحث في التاريخ عن مبررات للمصالحة معه او عقد هدنة لعشرات السنين وماذا نسمي دور مثقفي الاستدعاء العرب للناتو لغزو هذا القطر العربي او ذاك؟

قد تكون مقاربة فك هذا التحالف بين اهل المال واهل المعرفة في رفع الوعي إلى قوة مقاومة واشتباك، وهنا يكون دور المثقف المشتبك.

* * *

(9)

تذويت وإعادة الهندسة

 

ليس المقصود هنا شرح النظريات الرجعية واللاإنسانية في هندسة المجتمعات وإعادة هندستها كما لو كانت بضاعة يتم تكييفها حسب الطلب اي السوق. فالهندسة وإعادة الهندسة مشروع راسمالي عدواني ضد الإنسانية جمعاء وليست موجهة ضد شعوب وامم بلدان المحيط وحدهاـ بل يجري اختبار نجاحها في بلدان المركز اساسا.

الحديث هنا عن إشكالية متعلقة وهي اختراق المثقف من قبل الثقافة اللبرالية الراسمالية من جهة ونظريات ما بعد الحداثة من جهة ثالثة وتقاطع هاتين بشكل عجيب مع ثقافة الدين السياسي وقيام هذا المثقف بدور الوسيط عبر تذويت إعادة الهندسة في المجتمع بمعنى إيصال المجتمع إلى قبول ومن ثم ممارسة إعادة الهندسة ذاتيا، مما يوصل مهمة إعادة الهندسة إلى نجاح كبير.

وليس من يقوم بهذا هو المثقف المخترَق وحده بل فئات وقوى سياسية حزبية وحتى طبقات وبالطبع انظمة حكم.

يدل على هذا انتقال معظم الحركة الوطنية والإسلامية في الأرض المحتلة من النضال ضد الاحتلال إلى التنافس الانتخابي في مشروع ديمقراطية تحت الاحتلال. اليست هذه إعادة هندسة ذاتية كما خططت لها القوى التي صاغت اتفاق اوسلو؟ وهي الممارسة التي قادت إلى تاجيج الصراع المرير بين حركتي فتح وحماس على الإمساك بسلطة الحكم الذاتي بدل النضال للتحرير.

وماذا نسمي حالة الحكم الذاتي المعتمد على ريع مالي مقابل تمرير والتمسك بالاعتراف بالكيان؟

ولعل مثال الأنجزة صارخ في هذا المستوى حيث يقوم مثقفوا اليسار بإعادة هندسة ثقافتهم ووعيهم طبقاً لمتطلبات المال السياسي المسموم مال المانحين فيزعموا ان التحديث تنمية، وان بوسع المستجدي مخادعة السيد المانح بل وينقدوا المانح علانية ولكنهم يواصلون التموُّل منه والطريف انه يواصل الدفع!

وماذا نسمي قيام مثقفين عرب بالدفاع المستميت عن استدعاء الناتو ليحرر الوطن من الأنظمة المستبدة والمفارقة ان هؤلاء ملتقين بل وممولين من انظمة الريع النفطي والراسماليات الغربية. هؤلاء يجعلون من الثورة المضادة “اداة التغيير” إلى الأسوأ  بإحلالها محل الثورة.

* * *

 

(10)

موجة القومية الثالثة

مقصود بهذا المصطلح اكثر من مسالة أو معنى.  إنه رفض لهيمنة الخطاب الغربي الراسمالي وبداية الأوروبي الذي يزعم بعنصرية بان ما يحصل في اوروبا، تاريخ اوروبا الحديث هو تاريخ كل العالم.  وتتكثَّف خطورة هذا الزعم عبر حقنه لمثقفي الصدى في الميحط وخاصة جزئه العربي. أولئك المثقفون الذين يرددون هذه المزاعم كحقائق لا جدال فيها. كل مثقف من فريق الصدى يروج لما جرى التهامه لهن:  مثقف ما بعد الحداثة يروج لنظرياتها ويعيد هندسة المجتمع لقبولها، ومثقف الدين السياسي يروج لمعنى المحافظية الجديدة، والمثقف اللبرالي يروج لثقافة الراسمالية الغربية، ومثقف البورونجرافي واللزبيان والمثلية يروج لهذه الثقافة…الخ بمعزل عن وع هذه كلها ومعناها هناك وهنا.

دأب الخطاب الغربي على الزعم بان موجة القوميات في اوروبا الغربية في منتصف القرن التاسع عشر او ما اسماه عصر القوميات بأن هذا عصر لكل العالم في حين كان هذا الأوروبي الغربي يتذابح على توسيع مستعمراته وواصل ذلك.

كانت هذه الموجة الأوروبية هي الأولى، بينما موجة القومية الثانية هي في منتصف القرن العشرين مجسدة في حركات التحرر الوطني في المستعمرات للتخلص من الاستعمار او من عسف موجة القومية الأولى. كانت موجة القومية الأولى تعبير عن نضج البرجوازية في البلدان الأوروبية لتوحيد السوق القومي من اجل مصالحها، وهو الأمر الذي خلال وبعد إنجازه تحولت للاستعمار من اجل السواق والمواد الخام.

اما موجة القومية الثانية فهي تحررية منذ البداية وهي نعم وعي الأمة لوجودها ومصلحتها في التحرر والوحدة. وعليه، فهي قومية مقاومة ودفاعية . والسؤال: هل تحمل في احشائها بذور الشوفينية كالحالة الأوروبية؟ نعم. لكن ليس شرطاً ان تمارس ذلك بغض النظر عن الأسباب والمناخ الدولي. وهل يمكن ان تنحرف الطبقة الحاكمة الجديدة حتى عن مصالح الأمة وتتحول إلى وكيل للاستعمار،  والإجابة نعم. ومع ذلك يبقى السؤال : هل هذه الاحتمالات السلبية كافية لكي لا تحاول الأمم تحرير نفسها؟ يجادل البعض بان الفضل هو القفز على المرحلة القومية إلى الاشتراكية.  وافجابة حبذا، شريطة ان لا يكون قفز مثقفين في هواء الكتب.

موجة القومية الثالثة هي الأكثر خطورة. هي هجمة الموجة الأولى ضد الثانية لتجزئة بلدان المحيط من داخلها على اسس إثنية مذهبية طائفية وحتى جهوية جغرافيا. إنها موجة تحالف بين برجوازيات هذه الإثنيات كبرجوازيات كمبرادورية وطفيلية مع راسمالية المركز من اجل الانفصال وتشكيل دويلات تابعة من الباب إلى المحراب ولأنها هكذا، فهي ستكون راس حربة ضد الدولة الأم والمنطقة. هذا شان جنوب السودان وكردستان العراق، وكوسوفو والبوسنة…الخ. ليس دور المركز الراسمالي هو دعم هذه الدويلات بل التخطيط لتحرك برجوازياتها واحتضانها والضرب والعدوان لصالحها تحت غطاء حق الأمم في تقرير المصير او تطبيق البند السابع لمجلس الأمن.