حين لا يعود الفلسطيني مرئياً

محمد الأسعد

بالتوازي مع خطاب “أوسلو” الفلسطيني وتمثلاته، ولدت خطابات شعرية وروائية فلسطينية في السنوات الأخيرة، تروي تمثيلات فنية تختلق قصة يغيب فيها الفلسطيني عن الأبصار، قصة تعيد تشكيل مشهد شبيه بمشهد طرقات ما تسمى الضفة الغربية، حيث يتنقل المستعمر الصهيوني ويقطع مسافة طويلة من دون أن يقع نظره على فلسطيني واحد، قصة لا تظهر فيها الشوارع الخالية من الناس والمآذن البعيدة إلا كزينة معمارية على حد تعبير الصهيونية أميرة هاس، هذه التمثيلات “الفلسطينية” الجديدة ليست موجهة إلى المستعمر الصهيوني كورقة اعتماد فحسب، بل هي موجهة بالدرجة الأولى أيضاً إلى الفلسطيني والعربي لمحو ذاكرته، وإحلال ذاكرة زائفة محلها.

ويتهم أصحاب القصة الجديدة التي تقمع وتمنع ظهور الفلسطيني بصرياً في الخطاب السياسي والشعري والروائي، رواية الفلسطيني المقاوم لأشكال الطمس والمحو، والمصر على أن يكون مرئياً، بالتقليدية، أو أنها من زمن استهلكت رموزه، بل ويزعم كاتب مثل ربعي المدهون، صاحب رواية “السيدة من تل أبيب”، “إنه لم يعد ممكناً الاستمرار في ما عرف بأدب المقاومة والشتات، فتلك مراحل استهلكت فيها رموز وحكايات لم يعد لها أساس في الواقع الراهن”. (صحيفة الدستور الأردنية، 8 نوفمبر 2009). مروجاً لروايته التي يختفي فيها الفلسطيني، ولا يظهر إلا بصورته النمطية التي تروجها وسائط الإعلام الغربية، بما فيها وسائل الإعلام الصهيونية، فهو بلا ملامح إنسانية، ومجرد حشد بشري تتخلله “سيارات مليشيات مسلحة، تقل أناساً مقنعين يراقبون المارة من ثقوب صغيرة في أقنعة رؤوسهم السود”. وهم مجرد”انتحاريين” أو قادة يدعون الآخرين إلى “الانتحار”، أو هم مجرد حشد من الناس “يموتون برصاص طائش”.

هذه تمثلات في سياق التمثلات الأخرى التي رافقت مسيرة المقاومة الفلسطينية، وكانت تحسب دائماً على أنها مرآة تعكس وقائع موضوعية، من دون أن ينتبه النقد القصير النظر إلى أنها، حتى في صورها التي قدمها شعراء وروائيون ينسبون إلى المقاومة أو تنسب إليهم، لم تكن سوى “تمثيلات” تصدر عن مستويات فكرية وسياسية محددة بحدود أصحابها، قابلة للنقد والتحليل بعيداً عن تهاويل وتعاويذ الكهنة والمريدين.

قبل ذلك بسنوات طويلة اخترعت الصهيونية مقولة “شعب بلا أرض ذاهب إلى أرض بلا شعب”، ويبدو أن تمثلات خطاب عصبة سماسرة أوسلو بكل تفرعاته السياسية والأدبية والاجتماعية والفنية تتملكه الرغبة العارمة بتطبيق هذه المقولة السخيفة حرفياً، وشق طرقات سردية يختفي من تضاريسها الفلسطيني، وتختفي أرضه معه، ويتحول إلى وجود غير مرئي، أو إلى وجود شائه استعارته هذه العصبة جاهزاً من المطبوعات الصهيونية. وفي المقابل، يمنح هذا الخطاب بكل تفرعاته، وتحت حجة “أنسنة الآخر”، المستعمر الصهيوني، سمات الوجود الإنساني المرئي العادي الذي يتناول الطعام ويرتشف القهوة ويمرح ويضحك، ويعشق ويتزوج ويقاتل ويعيش في “بلده”.

في هذا الخطاب يختفي المكان الفلسطيني، وتتحول فلسطين إلى “إسرائيل”، ومطار اللد إلى “مطار بن غوريون”، والمستعمرات إلى “مستوطنات”، وقتل المقاومين ومطاردتهم والتجسس عليهم إلى “حفاظ على الأمن”، بل ويصل الأمر ببعضهم إلى الزعم “إن أمن إسرائيل من أمننا”، ويتحول اللاجئ المقتلع الذي سرق الصهاينة أرضه إلى “مهاجر” بسبب الحرب، أو إلى “مسافر” و”مغترب”، وتتحول عودته إلى وطنه إلى “خرافة”، كما يدعي المدهون في أول سطر من سطور روايته المشار إليها، راكضاً ومكرراً تمثلات الذين انتقلوا إلى خندق العدو المحتل.

هذه الخطابات التي يردد بعضها صدى بعضها الآخر، وتجد ممجدين لها في وسائط إعلام ناطقة باللغة العربية، مهمتها الوحيدة هي تحويل الفلسطيني إلى إنسان لا وجود له، إنسان يُنفى من المجال البصري والوجداني، تماماً كما فعل من خطط لبناء المستعمرات الصهيونية والطرق، وأقام الجدران الأسمنتية، وعزل القرى والمدن الفلسطينية عن بعضها بعضاً، وطوقها من كل الجهات وسرق أراضيها، أي أعاد تمثيلها بما ينسجم مع مخطط محو الوجود الفلسطيني في الماضي والحاضر على حد سواء.

وقد صادفت حادثة ذات دلالة ذكرها د. إدوارد سعيد في خطابه أمام مهرجان للفيلم الفلسطيني في جامعة كولومبيا (24 يناير 2003). يروي سعيد في هذه الحادثة كيف واجه في معرض صور فوتوغرافية للسويسري”جان مور”، التقطها في فلسطين في أواخر أربعينات القرن العشرين، شيئاً غير متوقع؛ عدم السماح بوضع شروح لمكان التقاط الصور وتاريخ التقاطها وماذا تصور، رغم أن مكان المعرض كان قاعة في “قصر الأمم” التابع للأمم المتحدة في جنيف، وليس قاعة في مستعمرة صهيونية. ويضرب مثلاً صورة عائلة فلسطينية لاجئة في غزة، لم يسمح للمصور بوضع ملصق يصفها ويذكر في أي سنة التقطت الصورة وماذا تفعل هذه العائلة هناك، بل سمح له بوضع كلمة واحدة هي “غزة”.

حدث هذا في أوائل ثمانينات القرن العشرين، أي في الوقت الذي كان فيه تمثيل “الفلسطيني” “الجديد” الذي سنراه بعد ذلك وقد فقد ظله وذاكرته، بدأ يرتسم في الخطاب الأدبي والفني والسياسي، ذلك الفلسطيني الذي لم يعد يستطيع الإجابة عن سؤال بسيط من نوع “من أي بلد أنت ؟”، من دون أن يصاب بالحيرة والقلق، الفلسطيني الذي يعجز عن قول إنه من فلسطين المحتلة التي ألصقوا بها الاسم الزائف “إسرائيل”، الفلسطيني الذي يختفي من المشهد، مشهد أرضه، ولا نرى “قادته” على الشاشات إلا سعاة لاهثين وراء جنرال صهيوني من بولندا أو مدير نادي قمار صهيوني من بولتافا.

هذه هي الصورة التمثيلية التي يراد للفلسطيني أن يرى نفسه فيها، ويراد لكل إنسان أن يرى الفلسطيني فيها، الصورة التي تنتشر الآن في الشعر “الفلسطيني” التعس الذي يكتبه المتجمعون حول فتات يتساقط عليهم من موائد سماسرة رام الله، والروائيون الذين يستعيرون مصطلحات الأدب الاستعماري الصهيوني ويزعمون أنهم يكتبون “الحكاية الفلسطينية” الجديدة، وكتبة التحليل “السياسي” الهزيل الخائف حتى من ذكر كلمة فلسطين.

وليس توزيع خريطة “تمثل” فيها فلسطين على هيئة بضع غيتوات في الضفة الغربية، وشريط ساحلي ضيق يطلق عليه اسم قطاع غزة، إلا نوعاً من تمثيل لا يستثني حتى الجغرافية الطبيعية، بعد أن أعاد تمثيل الجغرافية الإنسانية والثقافية على هيئة كتب تعد الآن لتعليم الفلسطيني أن هناك قصة أخرى يمثلها على الأرض “شعب” آخر، ليس غازياً محتلاً، بل شريك في الأرض. إن البيت الفلسطيني، كما تقول آخر ابتكارات التمثلات الأوسلوية، يلقي ظلين! بل ويمكن أن يلقي في الحقيقة أكثر من ذلك، ظل الأوكراني والبولتافي والروسي والإثيوبي.. وكل ما يمكن أن يجيء به المستعمرون من ظلال.

هذه هي التمثلات التي لم تعد سياسية فقط، أي من صنع جماعة متعاونة مع محتل، بل يجري استدخالها في الأدب الفلسطيني والفن والبحث الاجتماعي والاقتصادي، وترويجها في الإعلام والمطبوعات، وصولاً إلى البلدان الغربية في المعرض التشكيلي والمهرجان والأمسية الشعرية والرواية، ناهيك عن الخطاب السياسي الذي أصاب بالإحباط أوساطاً غربية وقفت لسنوات طويلة مع الفلسطيني المقاوم، ولم تحلم أن ترى صورة تمثيلية للفلسطيني يعانق من احتل وطنه وشرده، ومحا فلسطين عن الخريطة، بل وتجده يدافع عن جرائمه ويحاول إخفاءها ما وسعه الجهد ووصلته اليد في كل محفل ومنتدى.

إن أقل وصف يمكن أن توصف به هذه التمثلات للفلسطيني، هو أنها جريمة أخلاقية ووطنية وإنسانية يرتكبها أناسٌ فقدوا ضمائرهم بعد أن فقدوا ظلالهم وأسماءهم، أناسٌ تحولوا إلى آلات هضم قوامها معدة وأمعاء بلا رؤوس بشرية، تقضي أيامها في ابتلاع ما يرمى إليها والتبرز ومراقبة أرصدتها في المصارف.