عادل سمارة
عزيزي احمد حسين، او كالمتنبي احمد بن الحسين، استكمالاً للحديث إليك، ولأن من يهاجمني يقصدك ايضاً، ارسل لك ما يلي:
يضطر المرء احياناً لتكرار قضايا قد لا يحب تكرارها، لكنها الضرورة من ناحية، وبؤس أُناسٍ يُصرُّون على البقاء في القطيع مكابرة أو رغبة او رهبة او منفعة او جهلاً والله اعلم من ناحية ثانية.
لكن سوريا تستحق اكثر من هذا بكثير. فمنذ أن بدأت الأحداث هناك وقفت كمواطن مع سوريا، وبكل تواضع وبشعور الجندي للوطن، لا ازعم ولم ارغب أن اكون غير هذا. منذ لحظتها وحتى الآن تعرضت لعتاب وهجوم وشتائم وتهم…الخ. ومن بينها كيف وأنت الذي كنت تهاجم القيادة السورية منذ اربعة عقود!
وهذا صحيح. ولكن ذلك النقد الذي يراه البعض هجوماً مطلقاً، كان على أرضية أنني سوري واريد سوريا افضل واريد البعث افضل. تماماً كما كنت ولا زلت ويبدو انني سابقى ناقداً لمنظمة التحرير الفلسطينية لأنني فلسطيني ومن قدامى من قاموا بواجبهم قدر الإمكان عبر تنظيمات هذه المنظمة. كان نقدي لأنني أريد هذه المنظمة افضل، ولكنها لم تُرد! من لا يفهم هذا النقد، فهو بسيط، واما من يرفض فهم هذا النقد فهو لا يفهم الانتماء والحرص من جهة، ولا يفهم وجوب الاستمرار في النضال من جهة ثانية. هؤلاء طارئون ومن هنا خطرون وبهم قابلية لبيع الذات حين التوصل إلى سعرٍ أفضل.
ينظر هؤلاء إلى الموقف من سوريا على انه موقف لصالح القيادة السورية وليس لصالح البلد. وهؤلاء بين الخبث وبين الجهل وبين شروط تلقي الأجرة والجُعالات لم يفهموا ولن يفهموا ان هذه الثرثرة اصبحت ورائنا تماماً، تجاوزتها الأحداث. وان القيادة السورية تناضل من اجل سوريا والآن انا مع سوريا ولا يعيبني قط أن هذا يتقاطع مع نضال القيادة من اجل سوريا بل اراه لوحة جميلة مثل ياسمين الشام، لأن اعداء سوريا أعداء هذه القيادة هم قطعان ضباع حتى لو لبسوا العمائم واطلقوا اللحى وعلقوا على صدورهم صورة جيفارا وحنظلة ووضعن حنظلة اقراطاً في اعناقهن! ويح امك يا حنظلة!. فالمسالة الآن هي بين حماية سوريا وبين ذبح سوريا، واغتصاب نسائها وإبادة نصارى سوريا وإشعال مذابح طائفية ضد السوريين جميعاً.
والغريب ان من ينقدوننا يعرفون هذا ولا يخجلون بهذه الفتنة السوداء بل يحاولون إضائتها فتحترق، فكل المعادن الخسيسة لا تستطيع التعامل مع الضوء والنور. من لم يحسم موقفه بعد لصالح سوريا هو وليد سفاح الفوضى الخلاقة للفتنة.
يفتقر خبثاء الناقدين لقدرة الإبصار، ويصرون على أنهم اصحاب رؤية، فيخلطون دوماً بين القيادة والبلد لأنهم تربوا هكذا. وهذا تراث في الاجتماع العربي، لا اسميه علم الاجتماع العربي لأنني لست متأكدا ان هناك اي علم حقيقي في هذه البلدان التي يتحول المرء فيها من قومي إلى ناطق باسم حاكم قطر، ويقيم مركز ابحاث ، ويهاجم القيادة السورية بانها ديكتاتورية وقمعية فانظروا من اين! ومع ذلك يجد هذا مثقفين صغاراً يهتفون له كحاملات الطيب لأن لديه كيساً من المال يرش عليهم. هذا طريق حجيج جديد موازٍ لطريق الحجيج إلى مكة…الحجيج إلى عزمي بشارة كراحلة يمتطيها حمد وحمد كل واحد منهما في طرف الخُرج متوازنين. أما ضيوف الشرف من غير المثقفين، فيدلفون إلى قاعة في قاعدة السيلية أو العيديد بعد ان يخلعوا تاريخ الكفاح المسلح، ويستبدلون السين بالشين. فسلام عليك ايها السيد المسيح حين قلت: “لا تعبدوا إلهين…الله والمال”. كانت هذه أول جملة في كلية الاقتصاد في السنة الأولى قالها لنا د. قبلان سليم كيروز في الجامعة اللبنانية 1963. وعبدت هذه الجملة من حينها.
وأطرف ما يخص مثقفي نهش سوريا أنهم مع بداية “ذلك الربيع” قفزوا عالياً في هواء منبعث من دِمَن المابعديات، فغرَّدوا بضرورة وجود لغة جديدة وادوات جديدة غير ادوات التحليل الفلسفي الماركسي…الخ … وما زلنا ننتظر إبداعاتهم هذه! وإذا بهم ينتهون في قطر. هل تتقاطع ما بعديات المرحلة مع ما قبليات تحول القرد إلى إنسان، هل تتقاطع في اي مكان من العالم سوى في وطن النفط! هنا فقط يُصبح ماركس جاهلاً، وحمد وسعود الفيصل فلاسفة الديالكتيك. من لديه اي شك، فليذهب إلى جامعة بير زيت التي خرَّجت فراخ المابعديات واللاقومية والنيولربالية والفرانكفونية ومخبري الأكاديميا وإلى منظمات الأنجزة والأكاديمية في حيفا، ومقرئي التوراة في الناصرة. من غير عزمي بشارة استطاع تحويل حمد إلى جورج ولهلم فريدريك هيجل وتحويل حمد الآخر إلى كارل هنريخ ماركس، وموزة بنت مسند إلى روزا لكسمبورغ، وبندر بن سلطان إلى جول جمال! لا يتمتع بهذه القدرة على اللعب بالمنديل والأرنب (وصف أطلقه احمد حسين على محمود درويش) سوى عزمي بشارة بعزيمة الكنيست. هكذا أعلى الناس امرىءٍ تضائل لتحرقه ذرة ثلج، فهناك معادن خسيسة تحرقها درجات البرودة العالية!
لا يرى أتباع قطر واللاهثون إلى قطر، ومريدوهم ومحبيهم بالعمى لا يرى هؤلاء اي فارق بين القيادة والوطن، فهم في ارقى احوالهم، واشك انهم يفهون هذا، منطلقون من فرضية فلسفة نمط الإنتاج الآسيوي، الذي لا يفهمونه على اية حال، والتي تدمج الوطن بالحاكم، المكان بالحاكم، بمعنى ان البلد ملك للحاكم، وهذا بالطبع لم يكن حقا في ما كتبه ماركس بل هو نظرية افتراضية تقارب الواقع وتتباعد عنه بمقادير. لكن هؤلاء رانخين في ثقافة خليج النفط الريعي التي تزعم ان الوطن هو للحاكم، بل إن الحاكم خلق الوطن وليس الله تعالى. هذه العقل العبيدي، عقل السوقة والعوام والعامة والقطيع وفي افضل الحالات الجُموع والمخاليط لا يمكن ان يرى الأمر على نحو آخر وفي مكان آخر. يعجز حتى عن التفكير بان لدى غيره تفسير آخر للوطن والحاكم، على الأقل بمعنى ان الحاكم إنسان زائل والوطن باقٍ.
ولعمري أن اكثر من تورطوا في عجز العقل هذا هم الفلسطينيون لأنهم بلا وطن ويتفاخرون ويهوهوون ضد سوريا، ولأنهم رأوا ان القيادة القت بالوطن إلى العدو هدية، مما اكد لهم ان الوطن هو من صنع الحاكم، بغض النظر من اي جزء من جسده انتجه!
التقيت عام 1985 في لندن بصحفي من الأهواز اسمه ناصر المطرقي، قدمني إلى عمِّه الذي كان هناك زائراً: هذا فلان من فلسطين المغتصبة. فأجاب الرجل لا يا إبني، إنها مُهداةْ. هل ينكر هذا الذين يطالبون بدمار سوريا؟ الذين يقتتلون على السلطة في باكستان الشرقية (رام الله) وباكستان الغربية (غزة) ثم يزعمون التحرير من قطر والسعودية، تحرير بالتموُّل. إن شاء الله. أما اليسار فيتباكى على رتق حفرة الانهدام، أي الانقسام! بل الاقتسام. لو كانوا سيتصالحوا لما اقتتلوا.
حين يُختزل الوطن في الحاكم، حتى لو كان وزن امير قطر بوزن قطر، نكون أمام جدل الإقطاعة والقطيع.
لكن هؤلاء جميعاً بمن فيهم الحاكم، وهو غالباً في الخليج لا يقرأ ولا يكتب وهذا شرط الزعامة، ولأنهم يتبعون الحاكم بدءاً من المفكر القومي في الكنيست عزمي بشارة، وتمفصلاته من علماء السوسيولوجيا ومقرئي التوراة في الكيبوتسات في المحتل 1948 وصولاً إلى دائرة الاداب في جامعة بير زيت، هؤلاء يضعون ما تعلموه في جحر ما من اجسامهم ويتناسون الحقيقة التي يعرفها كل العالم اليوم بان ذلك الوطن النفطي وما يبزله من ريع، هو للغرب الراسمالي السيد، بمعنى: حينما يندغم المكان بالقائد، فهذا المكان مندغم في القائد الحقيقي اي الغرب. والمقولة هي:
How did our oil get under their soil?
أي : كيف تسرَّب نفطنا إلى باطن أرضهم!
أسوق هذا القول لكل من يقف ضد سوريا، اي لفريق (صالِحْ، وليس لا تصالح)، واقول لهم إن معنى هذا القول عند قائليه وتابعيهم من حكام الخليج بان الأرض ايضاً لهذا الغرب، فبوجود حكام كهؤلاء وقطعان كمن يؤيدونهم ويعيشون على فضلاتهم، يُقنع الغرب ان التراب له. فالأمر كان قبل النفط اي منذ غزوات إقطاع الفرنجة واليوم غزوات فرنجة راس المال حينها كان صلاح الدين واليوم خراب الدين السياسي وخرائب عقول من يرون الوطن إقطاعية ويُصرون على البقاء قطيعاً.
بل إن الأمر اكثر، فحكام الخليج يقولون للناس هناك بان النفط لمن اكتشفه! هل هذا بحاجة لتوضيح؟ وعليه، فمن يتمول من النفط يتمول إذن ممن اكتشف االنفط وسينتهي، بل انتهى، في احضانهم. وموعدنا للنقاش في المحطة القادمة. لا داع للمكابرة، رُفعت الأقلام وجفت الصحف.
أختم بما اراه هنا في الأرض المحتلة 1967، وفي هذا اصر على قناعتي، فإنه بمقدار ما بانت عورة المثقفين/ات والمتثاقفين، واللواتي والذين اشتغلوا مخبرين ضد سوريا منذ سنين، والذين كتبوا منذ أحداث سوريا ما يزيد عن كنوز اسطبلات اوجياس، مقابل هذا فإن المواطنين في الأرض المحتلة هذه أدركوا ذلك الإرهاب الأسود ونفضوا الكثير من رماد التحريض ضد سوريا. إنني التقيهم في الشارع وليس في القصور وألمس ذلك عياناً. نعم يمكن تضليل الناس، ولكن إلى حين.