الأمين لبيب ناصيف – بيروت
موضوع الاسكندرون والحدود الشمالية من سورية، يستحق دراسات خاصة به، تروى فيها، الى اوضاع تركيا بعد معاهدتي “سيفر” و”لوزان” اللتين اعقبتا انتهاء الحرب الكونية الاولى، وصعود نجم مصطفى كمال اتاتورك، اوضاع سورية المفككة بعامل الفتوحات الخارجية الكبرى واخضاع البلاد السورية لسيادات خارجية جعلت ابناءها يفتقدون هويتهم القومية لحساب عصبيات جزئية تتنافى مع العصبية القومية الواحدة، ثم جاءت اتفاقية سايكس – بيكو لتفسح اكثر للمؤامرة بأن توجد موطئ قدم لها في فلسطين مستهدفة تاريخناوحاضرنا ومستقبلنا. فهذه مرحلة هامة جدا من مراحل تاريخ امتنا الحديث يتوجب درسها بكثير من الدقة والعناية.
سنعرض في هذه الاضاءة التعريفية الموجزة شريط المؤامرة التي حيكت لسلخ لوء الاسكندرون وقد استندنا الى كتاب “قضايا خاسرة” للصحافي والكاتب رياض نجيب الريس وسنتحدث عن كيف تعاطى سعادة والحزب السوري القومي الاجتماعي ازء هذه المسألة، فهذا امر غير معروف كثيرا لمتتبعي الحزب السوري القومي الاجتماعي كما للعديدين من اعضائه الذين أولوا اهتمامهم اكثر للمسألة الفلسطينية، وهذا شأن طبيعي لانها بقيت حيّة ومشعّة في وجدانهم، وستستمر الى ان يؤتى لأمتنا ان تنتصر على الغزوة الاستيطانية.
في كتابه ” قضايا خاسرة” يعترف المؤلف الاستاذ رياض نجيب الريس بالقول “كان موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه أبرز المواقف وأكثرها وطنية بالنسبة إلى الاسكندرونة وقضيتها” ذلك أن سعادة لم يكتف بأن أعلن يوم 14 كانون اول يوم الحدود الشمالية، بل هو بادر منذ اليوم الاول لبدء التنفيذ العملي لسلخ لواء الاسكندرون عن جسم سورية، الى وضع المذكرات وتسطير المقالات والتحرك في اكثر من اتجاه بالرغم من ان سعاده كان، في عامي 1936 – 1937 اي في الفترة التي تم فيها سلخ اللواء، في حرب مع الدولة الفرنسية المنتدبة وادواتها المحليين، فما ان يخرج من السجن حتى يعود اليه، وفي الوقت أيضا كان عليه ان يولي الخطر الصهيوني في الجنوب السوري الكثير من اهتمامه، ويوجه القوميين الاجتماعيين الى التصدي بكل قواهم لهذه الغزوة الاستيطانية الشرسة.
شريط المؤامرة لسلخ لواء الاسكندرون:
– كانت تركيا، الدولة التي تأسست بعد معاهدة الصلح عام 1920 بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الاولى والدولة العثمانية المنهزمة فيها مع الدول الاخرى التي عرفت بدول المحور، قد تنازلت عن الاسكندرون وانطاكية. لكن مصطفى كمال اتاتورك رفض في العام 1921 ما سمي بمعاهدة “سيفر”، وأعلن ميثاق المجلس الوطني الكبير الذي طلببموجبه إعادة تكوين تركيا من جميع أجزاء الامبراطورية العثمانية التي تقطن فيها غالبية تركية.
– قبل ذلك كانت الشام قد وضعت )كما لبنان) تحت الانتداب الفرنسي، بموجب قرار مجلس الحلفاء الاعلى الصادر في “سان ريمو” في 21 نيسان 1921 . وقد أقرّ مجلس عصبة الأمم عند اجتماعه في لندن في 24 تموز 1924 ، هذا الانتداب.
– في أواخر العام 1922 عقد مؤتمر دولي في “لوزان” ضم الدول الغربية الحليفة، بالاضافة الى اليونان وتركيا، وقد انتهى بتوقيع معاهدة لوزان في تموز 1922 التي كرست انتصار تركيا في حربها مع اليونان، والغاء معاهدة “سيفر” التي اعتبرتها تركيا مجحفة بحقها.
– عام 1921 وقعت فرنسا وتركيا معاهدة أنقرة وهي اتفاقية تفاهم بين فرنسا وتركيا تضمنت اعتراف كل من الحكومتين الفرنسية والتركية بحق أهالي لواء الاسكندرون في اختيار الحكومة التي تقوم بإدارة شؤون اللواء.
لم يرد في هذه المعاهدة أي اعتراض على هوية اللواء السورية، أو أي إشارة الى ضمه مستقبلا الى تركيا. من هنا كانت بداية الخديعة الفرنسية – التركية بفصل الاسكندرون عن الوطن السوري الأم.
– التنازلات الفرنسية سبقت تسليم اللواء بحوالى السنتين، وسبقت وقوع الحرب العالمية الثانية. لقد سعت فرنسا إلى كسب صداقة تركيا وتوفير موقع متقدّم لها في جمهورية اتاتورك الفتية العلمانية الحديثة، الممتدة بين قارتي اسيا واوروبا، والمشرفة على البحار الثلاث : الابيض المتوسط، الاسود وايجه.
– عام 1938 ، بعد موت اتاتورك وتولي رفيقه عصمت اينونو الحكم، احتلت تركيا اللواء، ثم أجريت انتخابات في اللواء تحت رعاية دولية قامت فرنسا وتركيا بتزويرها، بحيث نجح الاتراك فيها بغالبية في المجلس التشريعي للواء. وتبع ذلك توقيع فرنسا وتركيا لاتفاق في 23 حزيران 1939 ادخل بموجبه لواء الاسكندرون في الاراضي التركية، واستبدلت تركيا اسم لواء الاسكندورن باسم “هاتاي” وأصبح اللواء منذ ذلك الحين يعرف رسميا في تركيا باسم “هاتاي”.
من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، نقرأ المحطات التالية:
في 14 كانون الاول 1936 وجه سعاده إلى “عصبة الأمم” والى دول صديقة المذكرة التالية:
إن الحزب السوري القومي الاجتماعي يعد كل عمل يقصد منه بتر لواء الاسكندرون عن جسم سورية، او وضع حدود لسيادة الامة السورية على هذا اللواء خرقا لحرمة سيادة الأمة السورية وللمادة الثانية والعشرين من عهد الجمعية الأممية ولكمال الارض السورية. ان الحزب السوري القومي الاجتماعي يحتج بشدة على المناورة التركية الرامية الى فصل قسم من الأرض السورية عن الوطن السوري بحجة أن في جزء من الأرض السورية عددا قليلا من الاتراك.
“إن الحزب السوري القومي الاجتماعي يطلب من الجمعية الأممية وخصوصا الأمم المتمدنة والصديقة أن تؤيد الاثباتات السورية، وان لا تعطي حلا شاذا لمسألة لواء الاسكندرون يشجّع على إيجاد حال محرجة في الشرق الادنى تتحول عاجلا أو آجلا إلى مصدر نزاع.
ثم كلف سعاده رئيس المكتب السياسي في الحزب الاتصال بالغرفة السياسية في المفوضية الفرنسية وابلاغها وجهة نظر الحزب.
==========
في 8 كانون الثاني 1937 وجّه زعيم الحزب مذكرة إلى المفوض السامي الفرنسي في لبنان والشام جاء فيها: ” لنا الشرف ان نضع تحت تصرف جيش الدفاع العدد اللازم من المتطوعين من أعضاء حزبنا للمساعدة على الاحتفاظ بالسنجق السوري”.
على اثر الاتفاق الذي تمّ بين فرنسا وتركيا على منح الاسكندرون وانطاكية استقلالا اداريا في ظل حماية فرنسية – تركية مشتركة، نشر سعاده في جريدة “الشرق” بتاريخ 29 كانون الثاني 1937 مقالا جاء فيه:
“إن الاحتفاظ بحق الدفاع عن لواء الاسكندرون للقوات التركية والفرنسية يعتبر تمهيدا عمليا لتهديد استقلال سورية وخسارة كبيرة لمصالح الأمة السورية. إن فقد السيطرة السورية على لواء الاسكندرون، خسارة لا تنحصر في دولة الشام، بل تشمل لبنان وفلسطين وشرق الاردن والعراق، لأنها فقد بقعة خصبة وموقع هام للتجارة والأعمال الحربية، وتهديدا لايقتصر على كيان دولة الشام بل يتناول سورية الجغرافية كلّها. ثم يضيف في مكان آخر: “إن الأمة السورية لا تريد أن تختنق بين الضغط التركي والضغط الصهيوني”.
وفي شهر كانون الثاني أيضا وجه سعاده مذكرة إلى الحكومة الشامية لفت فيها إلى “أن إزالة السيادة السورية عن لواء الاسكندرون ووضعه تحت تقلبات السياسة والحزبية الاجنبية يكون خسارة كبيرة للامة السورية واجحافا بحقوقها وخطرا على كيانها وحياتها”.
ويعلن سعاده أسف الحزب ” للموقف الذي وقفته الحكومة السورية من المناورة التركية التي انتهت بتكليل جهودها
بالاتفاق الفرنسي – التركي على نزع السيادة السورية بالفعل والاحتفاظ بستار اسمي يبقي لواء الاسكندرون ضمن
الحدود السورية” معلنا استعداد الحزب السوري القومي الاجتماعي ” لتأييد الحكومة السورية في أي موقف جريء
لحفظ حقوق الأمة وسلامة الوطن ويطلب منها ان تقف في جانب قضية الأمة ويحملها مسؤولية خسارة قوية تقع
بالوطن وسلامة حدوده”.
أعقبت المذكرة التي قدمها الحزب إلى الحكومة الشامية دعوة القوميين الاجتماعيين في دمشق الى تنظيم مظاهرة انطلقت من منطقة المهاجرين وانتهت في شارع بغداد “وكما ظهرت فجأة تفرقت فجأة” كما يوضح الرفيق حسن جمال (من رفقائنا الأ وائل في دمشق، منح رتبة الأمانة وانتخب لعضوية المجلس الاعلى) ويفيد ان المظاهرة كانت “برئاسة المسؤول المركزي مأمون اياس يعاونه المدرب عارف الرشاش” وكان بعض الرفقاء معيّنين للمراقبة، أمثال حسن جمال، رفعت شوقي وشقيقه مظهر وفي قيادة المظاهرة الرفيق المحامي عبد الحكيم مارد.
وعنها يشير سعاده في رسالته من الارجنتين في اول تموز 1939 إذ يقول: أذكركم بيوم دمشق حين وقفت صفوفكم أمام الجامع الاموي وحاولت بعض العناصر الاعتداء على بعض الرفقاء الذي كانوا في الداخل، فكفت جريدتان او ثلاث جرائد منكم للسيطرة على الموقف والاقتصاص من المعتدين.
وفي رسالته تلك يشير سعاده ايضا الى انه اجتمع بنفسه برئيس الوازرة الشامية جميل مردم (تمّ ذلك صيف العام 1937 في بلدة صوفر – لبنان) ويعد أن يعرض لسياسة رجال الكتلة الوطنية وحكومتها في الشام، ولموقف فرنسا” التي نفضت يديها من كل معاهدة مع سورية وساومت تركيا مساهمة نهائية على لواء الاسكندرون وغيره من الاراضي السورية وقدمت ذلك اللواء الغالي ثمن محالفتها تركيا، يعلن سعاده “إن الاتفاقية التي سلمت بموجبها لواء الاسكندرون الى تركيا هي اتفاقية باطلة، وتكون خيانة لعهدة الجمعية الأممية وتعديا على ارض الوطن وعلى حقوق الأمة السورية الصريحة”.
ومن جملة اهتمامات سعاده انه انتدب وفدا حزبيا لزيارة لواء الاسكندرون للاطلاع ميدانيا على الوضع هناك، وتألف من الرفقاء جورج عبد المسيح، صلاح شيشكلي، خالد أديب، جورج حداد واميل دباس.
في مجلده “من الجعبة” يقول مؤلفه الامين جبران جريج انه كان للحزب مفوضيتان ناشئتان في الاسكندرون وانطاكية، ويوضح:
” اقتصر النشاط الحزبي مع قلة الامكانيات والطاقات البشرية على رفد مركز الحزب بالمعلومات الصحيحة عن النشاط التركي الذي ما كان ليهدأ أو يكل حتى الوصول على الحشود العسكرية على الحد ود استعدادا للاستيلاء على اللواء اذا باءت المفاوضات بالفشل. على كل حال كان صوت النهضة السورية القومية الاجتماعية مسموعا عاليا في الاسكندرون وانطاكية بواسطة جريدة “النهضة” التي كان متعهدها الرفيق بطرس المدني ويضاف إليها صوت القوميين الاجتماعيين الذي كان يرتفع عاليا في جميع انحاء الوطن السوري والذي كانت تصل اصداؤه الى اهالي اللواء فيزدادون قوة وصمودا بالرغم من الاستسلام المخزي من قبل حكومة دمشق الكتلوية”.
حفلت جريدتا الحزب ” النهضة” أولا التي صدرت عام 1937 في الوطن، ثم “سورية الجديدة” التي صدرت لاحقا في سان بولو – البرازيل، بالعديد من المقالات لسعاده حول موضوع لواء الاسكندرون، منها مقاله في “سورية الجديدة” بتاريخ 15 تموز 1939 – بعد أن كانت عقدت فرنسا وتركيا في 23 حزيران اتفاقا أخيرا تقرر فيه نقل السيادة على الاسكندرون الى تركيا – وفيه يقول سعاده: “اننا لا نريد ان نبكي الآن كثيرا على الماضي مع انه يستحق البكاء عليه بدل الدموع دما !
ولكننا لكي نستفيد من عظاته وعبره نريد أن نقول ان النهضة السورية القومية يجب ان تفهم جيدا . وان الشعب السوري يجب ان يزيح الغشاوات التي وضعها النفعيون والمنافقون في الوطنية والمؤسسات العتيقة المتحجرة على عينيه ويبصر خلاصه في انتصار الحركة السورية القومية الاجتماعية التي تقيم الوحدة القومية على اساس متين من العدل الاجماعي-الاقتصادي وتزيل بعقيدتها القومية الواضحة، كل خطر على روحية الامة من الميعان والانحلال”.
هوامش
1أ- من رفقاء مدينة انطاكية الذين عرفتهم:
1ب- الرفيق عزيز ابراهيم، وهو تولى في البرازيل مسؤوليات حزبية عديدة، ونائبا لرئيس نادي انطاكية.
1ت- الرفيق الأب ميشال خوري، الذي كان انتقل إلى حلب، تولى فيها مسؤولية ناموس منفذيتها ثم غادرها إلى البرازيل حيث استقرّ في مدينة غويانيا. كان، إلى ممارسته لواجباته الكهنوتية كراعي للابرشية الارثوذكسية فيها، مرجعا لأبناء الجالية في المدينة، إلى أي طائفة أو مذهب انتسبوا، كما انه استمرّ على إيمانه القومي الاجتماعي واهتمامه بكل ما يخدم قضية الحزب حتى اخر لحظة من حياته.
1ث- الأمين أنيس مديواية وهو أحد مناضلي الحزب ومسؤوليه في مدينة القامشلي في الجزيرة.
2أ- يقع نادي انطاكية في منطقة “فيلا ماريانا” في سان باولو، وقد أقامت فيه منفذية العديد من احتفالاتها.
2ب- معظم أبناء مدينة انطاكية الذين غادروا الى البرازيل استقرّوا في كل من سان باولو، ومدينة السانطوس (مرفأ عند ساحل سان باولو)، التي كان للحزب فيها مديرية كبيرة معظم أعضائها من حماه وأنطاكية. ومن ابرز ابناء الجالية حاليا ، ابن انطاكية الشاعر الصديق انطوان لاذقاني.
::::