(الجزء الثاني)
عادل سمارة[1]
الوحدة العربية:
قال الحكيم:
“إنَّ الوحدة العربية ضرورة وحاجة موضوعية لأن الشعوب العربية ستدرك عاجلا أم آجلا أنَّ انعتاقها وتحررها وتقدمها لا يمكن أنْ يكون إلا من خلال وحدتها واستقلالها وتحررها الاقتصادي والسياسي وتصفية تبعيتها للإمبريالية من خلال مواجهة أنظمة الحكم التابعة والذيلية”.
إذا افترضنا هذه قاعدة عامة في تاريخ الرجل، وهي كذلك كما أعتقد، ولأنها لدى الكثيرين/ات اليوم مسألة مرفوضة حتى دون وعين يترتب عليها أكثر من سؤال. في حقبة العولمة، وهي حقبة التحالف “الشديد والدموي” بين رأسمالية المركز وكمبرادور المحيط في الوطن العربي، لم يعد سهلاً الحديث عن شعب أو أمة ككتلة واحدة. فالوحدة والتجزئة هي معركة طبقية في الوطن العربي. فالعروبة والقومية ومن ثم المشروع النهضوي بمكوناته الوحدة والتحرر والاشتراكية هي مشروع الطبقات الشعبية وهي مستهدفة بالتدمير من الطبقات المتخارجة الكمبرادور الرأسمالي والثقافي وكمبرادور المخابرات والقمع العسكري. لذا، في هذه الحقبة تحديداً، يصبح الحديث عن الشعب أو الأمة ككتلة واحدة متماسكة مثابة نقل الوعي والنضال إلى منطقة رمادية.
أصبح لازماً التحليل المادي المعمق والنقد الجريء الحارق بحامض الكبريتيك وحتى بالكلمات النابية ليشكل هذان معاً مهمازاً لتحريش وتحريك عنف الطبقات الشعبية التي خينت على يد الكمبرادور ولا تزال. أعرف تماماً أن هذا سيلقى تبرماً وهجوماً متنوعين ممن رنخوا في القُطرية: هذا ليس أوانه، هذه ليست فترته، من يقول بهذا…؟ لا بأس، ولكن حينما يتخلى الوعي والفكر عن قناعاتهما العلمية، إنما يخون البؤساء الذين قضت الهيمنة واستدخال الهزيمة على وعيهم الطبقي والقومي. وما مجاراة من لفَّتهم إيديولوجيا الطبقات القطرية الحاكمة سوى مشاركة في جنازة النهضة. ولا يمكن التأسيس للحظة التجاوز إلا بالتمسك بلحظة النقد والتحليل والموقف.
إذا كانت البرجوازية العربية، أو بعضها، قد حملت حقاً مشروع الرسملة، فالحقيقة أنها فشلت وانتهت إلى كمبرادور ولم تبق على الولاء الوطني سوى شريحة من أصحاب الصناعات المحلية التي بقي سوقها محلياً وتجاهد كي تحافظ عليه. هي مرحلة انتقالية لقرن كامل لم تنته لا اشتراكية ولا رأسمالية. عجباً كم هي مديدة هذه المرحلة! وعليه، فهي لم تتخلَّ عن دورها المفترض حسب التجربة المركزانية الخاصة الأوروبية، بل في الغالب الأعم لم تؤمن بالمشروع ولم تحاوله. وتتجسد صورتها اليوم في حرق تريليونات دولارات النفط التي تتحول إلى رأسمال كسول يُهدى ثانية إلى المركز الرأسمالي المعولم لينفقه على ذبح العراق وجنوب لبنان وغزة ونابلس ولرشوة الدالاي لاما وربما عقد قران ساركوزي على صديقته.
لعل ما يجعل من ظاهرة الكمبرادور حالة مرض مستحكمة هو الطفرات النفطية المتكررة، تسونامي السيولة الدولارية التي تجعل من دور الكمبرادور غاية في السهولة. كما يجعل الإنترنيت وعالمية الاتصال من الثقافة والتحليلات من الغرب الرأسمالي تسونامي ثقافي ومعلوماتي يُحوِّل مثقفينا إلى كمبرادور عاجز عن المقاومة ومحترف ازدراد ما لا يهضمه وتكرار حالة اللاهضم هذه، وهكذا، كما تمكنت منتجات الغرب الرأسمالي من سحق الصناعات الجنينية في بلادنا، تتمكن تحليلات مثقفي النيولبرالية من تجهيل أمتنا بأفضل نتاج المفكرين منها. تسونامي المال والثقافة هذا يقوي من قبضة الكمبرادور على الطبقات الشعبية ويوحي بأن لا مخرج من هذا “النمط الآسيوي للكمبرادور” إلا بحركة داخلية للطبقات الشعبية، حزبها. إذن تستدعي هذه الحالة حركة مقاومة على صعيد قومي. وبما هي على صعيد قومي، فهي ليست مجرد حركة قومية كلاسيكية كالتي عليها اعتدنا وتربينا.
في هذا المستوى، لم يتخلف الحكيم عن المهمة بقوله:
“أنا ماركسي. يساري الثقافة، التراث الإسلامي جزء أصيل من بنيتي الفكرية والنفسية. معني بالإسلام بقدر أية حركة إسلامية. كما أن القومية العربية مكون أصيل من مكوناتي… إنني في حال انسجام مع قوميتي العربية، ومسيحيتي وثقافتي الإسلامية، وماركسيتي التقدمية”… “إنني لا أجد تناقضا بين كوني عربيا يؤمن بالأمة العربية وبين أن أكون اشتراكيا حقيقيا”.
هنا سوف يصفِّق من يتهمون الحكيم بأنه مجرد قومي كلاسيكي وأنه ليس علمانياً. فهم لا يفرقون بين حق الناس في الإيمان الطبيعي وبين كون الإسلام مكوناً من مكوناتنا الثقافية وبين أنْ يكون الشخص إسلاميا بمعنى الدين السياسي ولكنهم هم أنفسهم يصرون على تسمية فترتي الأمويين والعباسيين بالإمبراطورية العربية الإسلامية أي يصرون على ربطها بل حصرها بالإسلام، بمعنى أنهم يؤسلومننا حين يشاؤون ويعلمنوننا حين يشاؤون. وقد يكون المعيار الأفضل أن يسأل كل امرئ نفسه: هل أسقط الماركسية من حسابه بعد تفكك الكتلة الاشتراكية المحققة؟ وهل كان من النفاق بمكان أن عاد لاستخدام هذه الدمغة بعد حصول الأزمة المالية الاقتصادية الأخيرة في العالم؟ ليست الشيوعية قطاراً تركبه في محطة وتتركه في أخرى!
تتطلب ذكرى الوحدة حركة واحدة، وبغير هذا يبقى الأمر مجرد عواطف وذكريات وشعارات. صحيح أن هناك آليات جديدة يفرضها واقع لا يقصد نتائجه بالضرورة، صمود الفصحى، الفن ببعده القومي عبر اللغة من جهة وعبر ضرورة السوق وعبر وحدة التذوق، وحتى الأغنية الساقطة تُشعر العربي أينما كان بأنه عربي، والفنون بمعظمها. وفوق كل هذا يفرض الإنترنيت تواصلاً عربياً. بكلمة أخرى، فدور الحركة الواحدة هو أساساً تربية المواطن على ضرورة الوحدة بما هي آلية للتنمية والكرامة والديمقراطية وصولا إلى الاشتراكية. ليس المقصود حزباً حديديا كما لا يزال البعض يردد، بل المقصود عملية حوارية تربوية، إعادة تثقيف، مشاركة الطبقات الشعبية في قراءة وتحليل المشترك القومي وتطويره. يجب تناول الوحدة العربية بعيداً عن لحظات الأزمات الحارقة. فحينما يرتفع سعر النفط يبدأ الحديث عن وجوب تبرع دول الفائض لدول العجز. المطلوب تربية المواطن على التشارك في إنتاج الثروة بعيداً عن الدول القطرية، عن الطبقات الكمبرادورية الحاكمة، ذات الريع، وذات الفقر.
ولكن يبقى حجر الأساس أمران:
·المصلحة المادية للأغلبية الساحقة في الوحدة وهذا أمر أرضيته عروبية اشتراكية وليست عروبية رومانسية وحسب. هذا دفع الرومانسية إلى وجوب التجسيد المادي.
·ووجوب الحركة السياسية الحامل لهذا وتحويله إلى مشروع، ولكن بحزبية جديدة.
ولكن مقابل هذه العوامل التي تحاصر القطريين والانفصاليين والتجزيئيين، هناك آليات قوية بأيدي هؤلاء. من نافل القول ذكر الكيان الصهيوني الإشكنازي، ودور الرأسمالية المعولمة اليوم، ومشروعها للشرق الأوسط بما فيه التسوية هنا. هناك آليات داخلية مثل تفاوت الثراء جغرافياً، بل التخمة مقابل الجوع، وهيمنة أنظمة الريع على ذهنية المواطن الخليجي حتى الفقير بأن بقية العرب يريدون مقاسمتهم وجرهم إلى الفقر. يتحول المواطن هناك إلى شعور صاحب الامتياز الذي يحرص على امتيازه كملكية خاصة. هذه الهيمنة المتخلفة تشكل عائقاً شديد التعقيد خالقة أو فاتحة الأبواب لحالات من الاستهلاكية المريضة بالسمنة وعدم العمل واستئجار عمالة وخدم للقيام بأبسط الأعمال وأكثرها التصاقا حتى بجسد الفرد! أما ما لم تمتصه طفيلية الاستهلاك فيركد كأموال كسولة تجد طريقها في النهاية إلى البنوك الرأسمالية الغربية، إلى رأس المال المعادي. هذا دون إغفال انتشار الاستهلاكية على الصعيد العربي بأكمله وسلوك الطبقات الكمبرادورية الاستهلاكي الذي يفوق ذلك الخليجي، حيث كثيرا من هذه الطبقات وأبنائها وبناتها يرون في أنفسهم حالات استهلاك عصرية (ألا – فرانك) وهذا نجده حتى في الأراضي المحتلة. أما مؤخراً فقد تزايدت أمراض المذهبية والطائفية والجهوية.
حركة واحدة:
هو السحر بعينه! كيف تمكن هؤلاء الرواد من إقامة حركات على الصعيد القومي في مناخ قطريات سايكس-بيكو وتخلف كافة أدوات الاتصال سواء من حيث التحادث أو المكاتبة أو التنقل…الخ. ولماذا نتحلَّق نحن اليوم في حالات قطرية وكيانية وجهوية تعجز عن مجرد التحاور رغم شبكات الإنترنيت التي تخاطب حتى موتى الإنسان الأول؟ هل يمكن استخدام وسائل الاتصال الجيدة في تجسيدات تنظيمية وليس مجرد افتراضية أو تحريك الشارع لحدث معين ولاحقاً يعود كشخص ليعيش ويفكر كفرد يشغله قلقه الحياتي اليومي أمام غول السوق؟
حركة القوميين العرب:
في سؤال من محمود سويد:
“(ص 26) لو فكرت الآن في إعادة تأسيس حركة قوميين عرب جديدة، ماذا يبقى وماذا يضاف؟ الجواب لم يناقش السؤال مباشرة وإنما تركز حول الوحدة العربية والأشكال التي من المحتمل أن تتخذها.
لست واثقاً من أن القول التالي المنسوب للحكيم هو من قوله:
“لقد سقط الدور القيادي للبرجوازية القومية دون أن يسقط دورها التاريخي.. والذي يحكم علاقتنا معها هو التحالف والصراع… وليس لدينا هانوي العرب لكي نأتمنها على مسيرتنا”.
لو كان لي أن أناقش الرجل في هذا الأمر الهام، لقلت: بما أنّ الدور القيادي للبرجوازية العربية قد سقط، أو قد أسقطته هي بيدها ومصالحها، فإن علينا أخذ دورها التاريخي كطبقات شعبية، وهذا ما يميز الطبقات الشعبية من حيث دورها وطموحاتها وحقها مقابل البرجوازية حتى لو كانت إنتاجية. فالدور التاريخي ضرورة، والضرورة هي لمن يبادر فيلتقطها وينطلق بها. هي راية كما حصل في معركة مؤتة.
صحيح أن العلاقة مع البرجوازية “قومية” التوجه هو تحالف صراع. ولكن مع البرجوازية الكمبرادورية يختلف الأمر. فهي تصفي وطناً بأسره. هي تحول أمة بأسرها إلى أفواه آكلة لا أيدي منتجة ولا أدمغة فاعلة هادفة التراكم من وراء هذا في التحليل الأخير؟ لو حاول الحكيم تفصيل “فصائل” البرجوازية لَوَصَل استنتاجي وأبعد.
هذا لا يفسر حل حركة القوميين العرب إلا لمقدار تثبيت تهمة أنَّ الحركة كانت أداة بيد عبد الناصر. ولا أثير هذا للتقليل من دور عبد الناصر، ولكن عبد الناصر هو في النهاية نظام حكم قارب الاشتراكية ولم ينجزها، بينما الوحدة مصلحة الطبقات الشعبية على صعيد الوطن بأسره. لذا، فهزيمة الأنظمة في حرب 1967 كانت موجهة ضد الوحدة، مما يفترض القيام بعملية تجليس مسألة الوحدة في الحضن الشعبي بدل الرسمي المهزوم وهذا يؤكد وجوب عدم حل الحركة. غياب هانوي العرب لا يعني غياب الشعب العربي. فلم نعترف لمرة واحدة أن هذه الأنظمة تمثل الشعب العربي. وهذا يؤكد وجوب بقاء الحركة وليس حلها.
“كان تصوري أن نقيم قواعد أيضاً في سوريا فزجوا بي يومها في السجن”(ص 50)
ألم يكن هذا طبيعياً طالما أصبح الفلسطينيون يعملون بشكل قطري؟ ألم يكن المفترض أن تفعل هذا حركة القوميين العرب هناك، وأن يتم النضال ضد قطرية النظام من داخل البلد، من الثوريين السوريين كعرب لصالح الوحدة وفلسطين؟ وطالما أن الكل قطري، فليس مستغرباً أن يتم ذلك من سوريا، فالنظام السوري لم يكن خارج لعبة القطرية.
في تفسيره للعلاقة مع حزب العمل الاشتراكي وعدم تشكيل أو إعادة تشكيل حركة القوميين العرب قال الحكيم:
“إننا منشغلون بأعباء ومعارك الحلقة الفلسطينية، أما أن نتولى مهمة حزبية قومية فهذا يتطلب إمكانات تفوق إمكاناتنا… أما الوصول لرؤية برنامجية قومية فهو يصطدم بعقبات ليس وحدنا من يذللها ناهيكم أن الإرادة اليسارية العربية لا تنحصر في حزب العمل”.
هذا يؤكد قولي بأن العمل النضالي في القطر الواحد، طالما القطرية قائمة، لا بد أن يكون بأيدي ومبادرة المواطنين هناك. لا شك أن هذه المهمة ليست محصورة في الفلسطينيين ولا في أي قطر لوحده. ولكن وجود حتى هيئة تنسيقية لحركة عربية واحدة كان يمكن أن يتطور إلى شيء مختلف عن ما هو قائم اليوم. صحيح أن الموضوع الفلسطيني أوسع من أن يسمح بدور يقود الساحة العربية، ولكن كان لا بد من إيجاد عمل حزبي أو حركي على صعيد قومي. وهذه ليست تقصيرات الحكيم وحده، بقدر ما هي مشكلة كل من عايش المرحلة.
ورغم ذلك الانشغال، لم يبتعد الحكيم عن هذه الضرورة، وإن كان لم يتمكن من تنفيذها أو تجذيرها، بقوله “… بحيث نعمل ونسعى لأن تكون الجبهة أحد أنوية العمل القومي على امتداد الساحة العربية“.
ويقول أيضاً:
“… إنَّ مواجهتنا وتصدينا للواقع السياسي المعقد بات يتطلب العمل الجاد لإحياء واستنهاض حركة الجماهير العربية من خلال إعادة الاعتبار نظريا وعمليا لشعارات الوحدة العربية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والعمل على إقامة أوسع جبهة عربية، من خلال تحالف عريض يضم كافة التيارات والاتجاهات السياسية المناهضة لما يسمى بالنظام العالمي الجديد. أي التيار الوطني والقومي والماركسي والأصولي الديني المتنور”.
تشكل الفقرتان أعلاه مدخلاً للتعامل مع المهمة، ولكنهما لا توحيان بمشروع متماسك للتنطح لها. فعبارة “العمل القومي” مسألة عروبية بوضوح، ولكنها عامة كذلك. فأي عمل: هل هو عمل الأنظمة، حتى بشقيها القومي التقدمي والتجاري الكمبرادوري المتوكئ من المهد إلى اللحد على المركز الرأسمالي والخادم له ما بقيا كلاهما حيَّيْن؟
أما الفقرة الثانية، وهي لا شك أكثر تجذيراً من الأولى، ولكنها تنتهي إلى حالة فضفاضة. تبدأ باستنهاض حركة الجماهير العربية وتنتهي بقيام أوسع جبهة عربية تضم كافة التيارات.
لا بأس، ولكن من يجب أن يقود هذه الجبهة، أم هي ديمقرطية العلاقة على طريقة جامعة الدول العربية، دورها فرض كفاية لا فرض عين، ومن حيث المهام لكلٍّ حق الاختيار المنفلت، كما يرى، بغض النظر عن وضوح أو عمى الرؤية. أما الأصولي الديني المتنور فقد يكون حليفاً في فترة القتال المسلح ضد الاغتصاب الصهيوني أو الاحتلال العسكري الأجنبي، وحتى خلال هذه الظروف لن يكون مأمون الجانب. فجماعات الدين السياسي، كالإخوان المسلمين طالما تحالفت مع الأنظمة العربية وفتحت نوافذ حوار مع الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي. لا يمكن لقوة سياسية منع أخرى من النضال الوطني ولكن التحالفات مسألة يجب أن تكون بأعلى دقة ممكنة.
والسؤال المعلق، وهذا موجه للجبهة وليس للحكيم: هل انتهت الجبهة إلى أحد أنوية العمل القومي؟ نواة لحركة عربية واحدة؟ قد يعتقد البعض أن هذا المشروع انقضى زمانه. لا بل هناك تكاثر لمن يغطون في هذا الاعتقاد أو يستفيدون منه. لكن تغوُّل رأس المال العالمي وتكتيل تكتلات هائلة فيه، واقتراب الكيان الصهيوني من الاندماج المهيمن في وعلى الوطن العربي، وتطبيق المركز لمشروع: “تركيز المركز وتذرير المحيط” بما يحمله من شرائح وشلل ومافيات فئوية وطائفية ومذهبية مركبة على عشائرية وحتى حمائلية لا توحي بغير خيار الحركة العربية الواحدة. المشروع التنويري والعلمي والعلماني. فلا يمكن لحريكات منفلتة هنا وهناك في القطر الواحد وحتى في جزء من القطر وربما في حارة، لا يمكن لهذا التذرير اللامتناهي أن ينتج حالة تغيير ولا تنمية ولا بالطبع اشتراكية.
إن الحركة الاشتراكية نقيض حتمي للقطرية وتمفصلاتها المنحدرة إلى مستوى الأسرة والذات الفردية. وهذه مسألة علينا إعادة قراءتها عربياً. ولا يخفى أن الانحصار القطري جعل من السهولة بمكان خلع ثوب الاشتراكية كما تفعل الأفاعي.
ثم يكمل: “كنا نراهن على التحرير من خلال الوحدة، فجاء الانفصال ليضعنا وجها لوجه أمام ضرورة العمل القطري (سويد ص 18). لست واثقاً من دقة هذا الطرح. قد يكون الأصوب أن الانفصال وضعنا، أو كان يجب أن يضعنا، أمام ضرورة العمل ضد القطرية، العمل في القطر الواحد رغماً عنا، ولكن العمل ضد القطرية الواحدة قناعة منَّا.
القومي والقطري:
“حزب العمل الاشتراكي العربي أحد فروع الحركة“. لكن لماذا حلت الحركة نفسها. هذا السؤال برسم الإجابة ليس إلى الحكيم نفسه أو وحده وإنما إلى الجيل القيادي الذي قام بذلك. فإذا كانت الهجمة وما تزال ضد الأمة والوحدة العربية، فلا يمكن أن يكون التصدي بحل حركة ذات بعد قومي إلا إذا كانت الحركة نفسها قد يئست من البعد القومي سواء كفكر أو كضرورة أو إذا كانت حركة قُطرية بثقافتها. وربما كان هذا صحيحاً لا سيما أن الحركة تلخصت في الجبهة الشعبية كتنظيم فلسطين ببعدين وطني وأممي دون بعد قومي. وقد يكون هذا تساوقاً مع أطروحة الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية التقليدية التي ترفض القومية العربية وتنحصر في النطاق القطري.
قال الحكيم:
“ تعرضت القضية لانحرافين:
1- طغيان العام العربي على الخاص الفلسطيني مما غيب الهوية الفلسطينية رغم وجوب إبرازها في مواجهة عمل الصهيونية لطمسها.
2- نتج بعدها سيادة روح القطرية الفلسطينية التي وصلت أوسلو.” ( سويد، ص 79).
فالمسألة انتقلت من الحد الأقصى إلى الحد الأقصى المقابل من خلل على حساب قطر إلى خلل في قوى القطر نفسها. ألم يكن طبيعياً تدهور الحركة الوطنية الفلسطينية إلى قطرية ضيقة وتورطها إذن في الاعتراف بالكيان؟ فطالما تورطت الحركة الوطنية الفلسطينية في القطرية وفي علاقات مع الأنظمة العربية، يغدو من الطبيعي أن تنتهي في اتفاقات أوسلو مبتعدة عن حركة التحرر الوطني العربية التي لا شكَّ كانت في انحسار.
ما العِلَّة إذن؟ بل هي علل. ولكن يهمنا التأشير إلى واحدة هي أكثر تعلقاً بمناقشة إرث الحكيم. الحركة أو التنظيم القومي. فالتحلُّق القطري الذي أصاب التنظيمات القومية، وإن كان البعث قد تميز بعدم حلّ بنيته القومية رغم أنها لم تتفعَّل من ناحية عملية، إلا أن مختلف الحركات القومية الامتداد لم تعد قائمة. وهذا أعطى شرعية للقطرية الرسمية حتى لو من باب ملء الفراغ. فكلما تراجع البساط القومي اكتست الأرض بالتصحُّر القطري. فالطبيعة ترفض الفراغ، ومن يفرغ قِدره من اللحم يملأه بالماء والحصى.
أحد الإشكالات النظرية العالقة هنا هي أنَّ القطرية متطابقة تماماً مع تجزئة سايكس-بيكو، أي مع مصالح البرجوازيات التابعة. لقد أثبتت التجربة أنَّ الدولة القطرية ترتبط بحبل سُرِّي مع الكيان الصهيوني ترابط بقاء للطرفين. وهي متناقضة بخطورة مع المصالح والقناعة الكامنة لدى الطبقات الشعبية بالوحدة، بغض النظر عن عمق ثقافتها ووعيها القومي وحتى الطبقي. ومن هنا، فإن تحويل حركة القوميين العرب إلى منظمة قطرية هو حالة من الازدواجية:
·بلورة فصيل مقاتل بشراسة ضد الكيان الصهيوني.
·لكنه فصيل قطع دوره كطليعة نضالية من أجل حركة ثورية عربية.
وفي هذا الصدد، يمكنني الاستنتاج بأنه لو توفر توجه عروبي أكثر لدى الجبهة الشعبية لتمكنت من استعادة صلاتها حتى تنظيميا مع القوى الماركسية العربية الجديدة في عدة أقطار عربية، ولكانت بهذا قد ارتقت من حركة القوميين العرب ذات الأفق القومي إلى الأفق العربي الشيوعي.
حين لا يكون في الساحة سوى النظام والطبقة والخطاب القطري، يتورط العرب جميعاً في القطرية، بمن فيهم الفلسطينيون الذين هم قطريون بلا قُطر، ويصلون إلى اتفاق أوسلو: “إلى ولاية يعطيهم إياها الاحتلال” ويسحبها متى شاء، ويرضون في الحالتين!