كي لا يصبح تراثنا الحضاري تحت الوصاية!

رفيف رضا صيداوي

تحطيم مجاهدي جبهة النصرة الإسلاميّة منذ بضعة أيام تمثال أبي العلاء المعري (973-1057) في مدينة معرة النعمان (جنوب حلب) مسقط رأسه، لم يكن الأول من نوعه، كما يبدو أنه ليس الأخير. فتماثيل الشاعر العربي الأبرز من بين شعراء وفلاسفة العرب في القرن العاشر الميلادي تتعرّض للهجوم في منطقة إدلب شمال شرقي سورية منذ أكثر من سنة من قبل مجاهدي جبهة النصرة. ولئن كثرت تفسيرات الحدث، فإنها كلّها تشير إلى أن الحدث نفسه لا يستقيم مع أيّ منطق أكان دينيّاً أم غير ديني. إذ ثمّة من فسّر هذه الاعتداءات بأصول المعرّي الشيعية، وثمّة في المقابل من ربطها بميول جبهة النصرة إلى تحطيم التماثيل على أنواعها، سواء أكانت لرجال السياسة، أو لشخصيات تاريخية أو دينية…، لكونها مخالفة للدين الإسلامي، وثمة بعض ثالث ربط الحدث بأفكار المعرّي نفسه المعروف عنه دفاعه عن حقوق العقل (المنطق) ضدّ إدعاءات العادات والتقاليد والسلطة، هو الذي تخيّل مثلاً شعراء الجاهلية العرب في الجنّة، وذلك في واحد من أبرز نتاجاته الأدبية الإبداعية، وهي “رسالة الغفران”،  فضلاً عن فلسفته التشاؤمية التي جعلته يوصي، وهو القائل “هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد”، بعدم إنجاب الأطفال لتجنيبهم آلام الحياة…..

وبعد فترة قصيرة لا تتجاوز الأسبوع على قطع رأس تمثال المعرّي، اختفى/سرق رأس تمثال عميد الأدب العربي طه حسين”(1889 ــ 1973). من مسقط رأسه في محافظة المنيا في مصر. اختفى صاحب كتابيْ “في الشعر الجاهلي” (1926) و”مستقبل الثقافة في مصر” (1938)، اللذين أثارا زوابع في الساحة الثقافية المصرية والعربية، تارةً بحجة الطعن في القرآن ونفي نبوءة الرسول محمد(صلعم)، وتارةً أخرى بحجة الإخلال بالنظم العامة وإثارة الفوضى، وهي اتهامات ذهبت إلى حدّ تكفيره واعتباره مرتدّاً. علماً بأن مجهولين بادروا قبل ذلك بأيام إلى وضع نقابٍ على تمثال كوكب الشرق أم كلثوم في أحد ميادين مدينة المنصورة، ما دفع وزارة الثقافة المصرية يوم العاشر من فبراير إلى إدانة الاعتداء على تمثاليْ أم كلثوم وطه حسين، عبر بيان يصف هذا العمل بأنه “يفتقد إلى كلّ القيم الوطنية والإسلامية والإنسانية”.

هذه الأحداث التي احتلّت حيّزاً كبيراً في النقاش الدائر في الساحتين الثقافية والسياسية العربية جعلت الكثيرين يتساءلون: هل هي “حرب تطهير الذاكرة من المعرّي وطه حسين؟”(عنوان مقال لبيار أبي صعب في جريدة الأخبار في 18 شباط/فبراير 2013).

في المقابل، أعلنت جمعية توانسة من أجل تعزيز المجتمع المدني واليقظة الديمقراطية، أن ناشطين أصوليّين يتراوح عددهم بين 3000 و10000 تقريباً، نفّذوا منذ سقوط الرئيس زين العابدين بن علي في يناير/كانون الثاني 2012، سلسلة عمليات عنفيّة ضدّ أضرحة الأولياء الصالحين في الأراضي التونسية، كان آخرها، وهو الهجوم الثاني عشر، إحراق مقام سيدي بوسعيد في تونس، وتخريب المخطوطات الثمينة الموجودة في الضريح، وخصوصاً كتاب “النقد”، وهو جزء من مجموعة كتب “الوليّ الصالح” الذي بني مقام سيدي بوسعيد من أجله، هذا فضلاً عن إحراق مخطوطات نادرة ومصاحف قرآنية ثمينة خُطّت بيد أقرب تلميذ للوليّ سيدي بوسعيد.

أين الدين من السطو على حضارة العرب؟

إذا كانت هذه الأفعال وسواها تقوم بها تيارات دينيّة باسم الدين، وبحجة إزالة كلّ ما يعتبر من وجهة نظر هذه التيارات ضرباً من ضروب الشرك بالله، سواء أكان من علامات ورموز الحاضر أم الماضي، فإن ما يجري على جبهة موازية من سطو وسرقة واعتداءات على الآثار الخاصة بالحضارة العربية والإسلامية لا يشي بأن “الحرص على الدين الإسلامي” هو هدف هؤلاء الذين يدّعون حمايته. بحيث يلاحظ أن سرقة الآثار تتعاظم مع تردّي الأوضاع الأمنية العربية. ففي العراق دمّرت أعمال النهب مجموعات فريدة من آثار حضارات ما بين النهرين وآلاف القطع النقدية والأثرية الثمينة، وتمّ نهب متحف الموصل، وأشعلت النيران في المكتبة الإسلامية في بغداد، والتي تضمّ مخطوطات أثرية من بينها واحدة من أقدم النسخ الموجودة من القرآن. أما عن الاثار والوثائق والمقتنيات التاريخية التي سرقت على يد الجنود الأميركيّين فقد توزّعت بين دول عدّة وبنسب 60% في أميركا و30% في إسرائيل و5% في لندن، فيما تتوزّع النسبة المتبقّية على دول أخرى من بينها تركيا وفرنسا وألمانيا:revfacts.blogspot.com/2012/07/blog-post.html

أما خلال الثورة الليبية، فثمة آلافٌ من القطع النقدية والأثرية الثمينة التي سرقت من خزانة البنك التجاري في بنغازي.. والذي كان يحتوي على أكثر من عشرة آلاف قطعة، بما في ذلك عملات تعود إلى العصر اليوناني والروماني والبيزنطي والعصور الإسلامية الأولى، إضافة إلى عدد من الكنوز الأخرى مثل التماثيل الصغيرة والمجوهرات. وفي سورية تعرّض متحف حماة الوطني منذ بداية الأحداث هناك للسرقة، بالإضافة إلى متحف “أفاميا” أيضاً. وفي الشهور الأولى لثورة يناير نهبت آثار خاصة بعهد أخناتون والملك توت عنخ آمون..

لائحة السرقات تطول وتطول، لكن اللافت أن أحداً من “المدّعين بحماية الدين الإسلامي الحنيف” لم يبادر إلى حماية هذه الآثار التي يسعى الصهاينة وراء جزء كبير منها لإثبات عبرانيتها، وذلك في إطار استراتيجية شاملة ومتكاملة لطمس الهوية القومية العربية والإسلامية، حتى ولو اقتضى ذلك تزوير التاريخ والسطو على حضارات الآخرين. فالآثار الخاصة بعهد أخناتون والملك توت عنخ آمون.. وبحسب مدير الإدارة المركزية لآثار مصر الوسطى الدكتور عبد الرحمن العايدي “يسعى وراءها اليهود لإثبات عبرانيتها ولإثبات حقّ اليهود في مصر”، فيما كشف نور عبد الصمد مدير عام المواقع الأثرية في مصر أن إسرائيل قامت بعمليات تهريب وثائق وآثار ومخطوطات مصرية مهمّة، أبرزها إنجيل يهوذا (يعود تاريخه إلى القرن الثالث الميلادي) الموجود ضمن وثائق نجع حمادي، مؤكداً أن إسرائيل قامت بمساعدة الجمعية الجغرافية الأميركية التي يرأسها اليهودي روبرت ميردوخ، بنقل الإنجيل إلى اليونان ثم إلى أميركا، وأنه موجود الآن في مدينة جنيف في سويسرا، تمهيداً لنقله إلى إسرائيل، فيما لم تسترجع مصر إلا بعض الوريقات من إنجيل يهوذا، وبما يمثّل 5% فقط منه…وما سعي إسرائيل، وفق بعض الخبراء،  للحصول على أرشيف اليهود في العراق إلا تأكيد لفرضيتها التي تدّعي من خلالها أن اليهود هم بناة برج بابل مثلما هم بناة الأهرامات في مصر..

وفي يونيو 2012 كانت وزارة السياحة والآثار العراقية قد أعلنت قطع العلاقة مع واشنطن في مجال التنقيب والتعاون الأثري، بسبب اعتراف أميركا بإعارة الإرث الوطني اليهودي العراقي إلى إسرائيل… وقد ذكر موقع “العراق للجميع” أن منظمة “العاد” اليهودية نشطت خلال الغزو الأميركي للعراق في إدخال مجموعة مدرّبة إلى البلاد، عملت على سرقة كلّ ما يخصّ اليهود في العراق عبر إدخال فرق مدربة وبعثات متخصّصة إلى آثار الوركاء وأور نهبت خلالها آثاراً عراقية ثمينة بطرق مبتكرة لا تثير الشكوك تحت غطاء عمليات تنقيب.. وأضاف المصدر إن اسرائيل وصفت امتلاكها أهمّ الآثار عن تاريخ اليهود في العراق بـ”الانتصار الحقيقي للأمة اليهودية”، إذ حصلت على جزء أصيل ومهمّ، وهو الأفضل على الإطلاق من تراث اليهود.

أوليس من اللافت حقاً أن يتمّ تجاهل هذه الأحداث المصيريّة كلّها، في الوقت الذي يشير فيه تقرير “مشاريع القوانين العنصرية التمييزية الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيّين” (2011)، إلى التضييق الجاري على الفلسطينيّين، وإلى مشروع قانون فرض الخدمة المدنية على فلسطينيّي الـ48، الرامي إلى تحويل ولاء الفلسطينيّين، وخصوصاً الشباب، لإسرائيل؟

أوليس من اللافت حقاً، تجاهل قانون تعريف إسرائيل على أنها “دولة “القومية اليهودية”، والذي تتضمّن بنوده إلغاء الصفة الرسمية عن اللغة العربية، والسماح بالتالي بطرد كلّ عربي من أراضي الـ48 لا يعترف بإسرائيل دولة يهودية؟

:::::

المصدر: “أفق”، 25/02/2013