د. عادل سمارة
لم ينقطع نقاش تجنيد اليهود المتدينين في الكيان الصهيوني منذ اغتصاب فلسطين. ولكن لم تنقطع مشاركتهم في هذا الجيش العدواني كذلك. وهذا بخلاف الاعتقاد بأنهم لم يُجندوا قبل القانون الجديد، بمعنى أنه قانون لإنهاء إعفائهم النسبي وليس المطلق من التجنيد. يؤكد المقتطف التالي مشاركة المتدينين في القتال باكرا، وحتى اليوم:
“يعيد الانشغال بمسألة تجنيد طلبة المدارس الدينية للخدمة في الجيش الإسرائيلي إلى الأذهان اللقاء بين الديني والعسكري قبل قيام الدولة، هذا اللقاء الذي يمثل قصة السرايا المتدينة، والذي تعود بدايته إلى ثلاثينيات القرن الماضي، في إطار منظمة “الهاغناه”. أنظر (نافذة على تاريخ انخراط المتدينين اليهود في صفوف الجيش الإسرائيلي،بقلم: دافيد ميلاميد ، في عدد حزيران 2013 من مجلة “كيفونيم حداشيم (اتجاهات جديدة)”، وهي لسان حال الهستدروت الصهيونية)
وهذا يؤكده آلتر فلنر: ” …لذا كان من البديهي أنهم لم يرغبوا في إعفاء أنفسهم من عبء حماية اليهود وحماية بلدات ومستوطنات أرض إسرائيل. وقد كان من بين طلاب المدارس الدينية الذين التحقوا كأفراد بمنظمة الهاغناه، ليس فقط طلاب مدارس دينية حسيدية وليتوانية، وإنما أيضا من أبناء الجماعة التي تسمى الآن ناطوري كارتا، حيث شوهد هؤلاء مرارا- في ذلك الوقت- وهم ذاهبون، حتى في أيام السبت، لتلقي التدريب على السلاح”.( في كتابه “مسلحون قبل المعسكر: 1984 عن جامعة بار إيلان ووزارة الدفاع)
بعد نقاشات طويلة ومسودات مشاريع قررت حكومة نتنياهو إنهاء إعفائهم “النسبي” من الجندية، وهو إنهاء سيكون نسبياً كذلك. ويجب أن يمر مشروع القانون الذي صادقت عليه الحكومة ولجنة وزارية بعد ذلك، بسلسلة من عمليات التصويت في البرلمان قبل أن يصبح قانونا،. وينص المشروع على وجوب التحاق الرجال من اليهود المتدينين بالجيش أو القيام بالخدمة المدنية، وفي حال المصادقة عليه فسيتم تطبيقه خلال خمس سنوات.
في المستوى المعلن، يهدف القانون إلى إصلاح الوضع السائد الذي يتم فيه إعفاء الرجال من اليهود المتدينين من الخدمة العسكرية في حال كانوا يدرسون في المعاهد الدينية، بما أن الخدمة العسكرية إلزامية حيث يخدم الرجال لمدة ثلاث سنوات بينما تخدم النساء لسنتين. إلا أن عشرات آلاف اليهود المتدينين يتجنبون الخدمة العسكرية من خلال التسجيل في مدارس دينية. وأثنى رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتانياهو على الخطوة التي قال:” إنها تذهب لما هو ابعد من فرض الخدمة العسكرية أو المدنية على اليهود المتدينين إذ تسعى لدمجهم في القوى العاملة”. كما أكد وزير الحرب موشيه يعالون أن القانون ” يطبق بالتدريج مع إقرار أهداف للتجنيد، وخلق أليات ايجابية وسلبية، ومن خلال تفضيل الذين يخدمون في الجيش”.
واضح ان آخر الكلام يستهدف زيادة التمييز ضد العرب.
خلاف فني ولقاء فعلي
فالقانون إذن لإيجاد طريقة لمزيد من دمج المتدينين في وحدات الجيش العلمانية وخاصة ايام السبت ووجود المجندات، حيث تركز المتدينون من مختلف فئات الحريديم في مجالات عسكرية بعيدة عن هذه المجالات. أي: “… “يكمن جوهر المشكلة في صعوبة دمج جنود متدينين داخل الإطار العسكري العلماني، على الرغم من أن جنوداً متدينين كثيرين خدموا بالفعل في وحدات عسكرية مختلفة، وذلك من خلال حل بسيط للمشكلة، تمثل في إقامة سرايا متدينة منفصلة، مكنت أفرادها من المشاركة في المعركة العسكرية وسط المحافظة على مبادئ وتعاليم الدين اليهودي.” (دافيد ميلاميد).
ومن الطريف الإشارة إلى أن الشيوعي الصهيوني موشيه سنيه قد لعب دورا في تسوية الأمر بين المتدينين والعلمانيين بما يخدم العسكرية الصهيونية: فقد كتب ي.. ألياش: “…إن سنيه أبدى تفهما كبيرا لموقف الزملاء المتدينين في موضوع التدريبات في أيام السبت، وموضوع “الكاشير” (صلاحية الطعام- الحلال- حسب التقاليد الدينية اليهودية) وساهم في حل المشكلة بصورة إيجابية… وأن د. سنيه أكد في اجتماعات القادة العسكريين ضرورة توفير أجواء وظروف تمكن “الرفاق المتدينين” من الانخراط في “الهاغناه”.
وقد يوضح دور المتدينين الحربي ثناء بن غوريون العلماني على اقتراح الحاخام شلومو غورن:
“إنه لشرف للسرية المتدينة أن تكون أول من شق الطريق للمحافظة على تعاليم وفروض التوراة في الإطار العسكري… وقد برهنت بذلك على إمكانية دمج الأمن العسكري مع الأمن الديني- الروحي…فقد ساند بن غوريون موقفي …من أجل المحافظة على وحدة الجيش الإسرائيلي، وعدم التسبب بانقسامه إلى جيشين، متدين وغير متدين”
لكن مشاركة المتدينين لا تعتبر كافية مقارنة بالعلمانيين، ومن هنا نقطة الجدل الرئيسية، وهو ما يرفضه الحريديم حيث يرون بأبناء الييشيفوت (جمع ييشيفاة) أنهم بمثابة “سلاح روحاني” يحمي “شعب إسرائيل” ليس أقل من السلاح العسكري.
إذن يدور الجدل على عدم المساواة في العبء وهو مصدر اعتراض العلمانيين خاصة وأن الحكومة “الإسرائيلية” كانت قد صادقت سابقاً على تمديد سريان مفعول قانون “تال”، بشأن إعفاء المتدينين (الحريديين) من التجند للجيش لمدة خمس سنوات أخرى حيث صوت 21 وزيراً لصالح التمديد.
من اللافت ما قالته رئيسة شعبة الطاقة البشرية في الجيش اللواء أورنا بارفيفاي : “لا خلاف على ذلك، لأن الواقع الأمني يشكل الآن تحدياً كبيراً، وينبغي علينا تجنيد الجميع للخدمة العسكرية. وهناك اليوم واحد من أصل أربعة رجال لا يتجند للخدمة العسكرية، وواحدة من أصل امرأتين لا تتجند”.
وهذا ينقلنا إلى نقاش الأسباب الحقيقية لقرار فرض الخدمة المتساوية.
مستوى العرق واللون والطبقة
مخطىء من يعتقد أن الكيان الصهيوني الإشكنازي راغب او بوسعه أن يكون “ديمقراطياً” تجاه كافة أصول وألوان وطبقات مستوطنين جُلبوا من قرابة مئة أمة وثقافة. ولعل اشد صراع في هذا المستوى هو بين الإشكناز (بما هم السلطة السياسية والمالية والعسكرية والثقافية) بين اليهود الشرقيين وخاصة من الوطن العربي.
وبما أن المؤسسة العسكرية هي غالباً أشكنازية، وتشكل الكيبوتسات حاضنة وفراخة كبار ضباطها، فهي تحاول دائما تجنيد المتدينين في الجيش وحتى العرب وذلك ضمن سياسة احتواء كل من يعيش في الكيان تحت إمرتها بما هي ذراع المؤسسة السياسية الاقتصادية الطبقية الحاكمة.
وبدورهم بدأ اليهود الشرقيين ومعظم المتدينين منهم بالمنافسة لتحسين مواقعهم وخاصة منذ أن تمكن مناحيم بيجن (الليكودي) عام 1977 من اجتذاب اليهود الشرقيين للتصويت لحزبه ومن ثم وصوله إلى السلطة، دأب هؤلاء على الشغل من أجل المساواة مما حسن من مواقعهم، وسمح لهم في ظروف كثيرة من ابتزاز السلطة ولا سيما فيما يخص تمويل المدارس الدينية لحزب شاس المتدين.
وبالمقابل، فإن أحزاب الإشكناز تحاول بدورها ومن مدخل المماحكة السياسية ومدخل جني ثمار الإنفاق المالي على هؤلاء أن تجندهم في الجيش كالعلمانيين ضاربة على وتر اكتمال المواطنة بعدم التهرب من الخدمة العسكرية.
كلا الموقفين فيه حالة استثمارية اقتصادية وإن بدت ظاهريا مسائل سياسية وثقافية. ولعل الحوار الساخن بين أرييه درعي عن المتدينين وبين يائير لبيد عن الإشكنازيم يلخص الأمر.
يجادل درعي (وهو من أصول مغربية)بأن حركة شاس (السفاردايم الذين يُحافظون على التوراه) وبأن حزب الليكود هو حزب البيض،(وهذا يذكرنا بأن الليكود هو الذي التقط وزنهم العددي 1977 وكسب اصواتهم) ، وبأنّ شاس هي التي ستُقرر في ما يتعلّق بتجنيد المتدينين.
وهذا أمر لافت حقاً، لأن أعضاء شاس يخدمون في الجيش ولذا يصفهم درعي بأنهم “حزب المجندين” قاصدا بأن هناك تمييز مراتبي ضدهم. وبأن كثيرين من طلبة المعاهد الدينيّة، يخدمون في الجيش، وبأن هناك عشرات آلاف الحريديم في الجيش “الإسرائيليّ”، في الوحدات المختلفة، ولكنّهم لا يخدمون في الإذاعة العسكريّة، في إشارة واضحة إلى أنّ اليهود الشرقيين يُميّز ضدّهم سلبًا.
ولكن لابيد (وهومن اصل مجري) اتهم درعي بالمبالغة مؤكدا ان عشرات الالاف من الحريديم يتهربون من الجيش وبهذا يؤدون إلى خسارة ميزانية الدولة المبالغ الطائلة. وربما من المهم الإشارة إلى بعض ما تفوه به لابيد، ولا نقصد تذكير درعي بأنه كان قد سُجن بسبب الرشى بل قوله: “عليكم أنْ تعلموا أنّ الخدمة في الجيش هي أيضًا العودة إلى البيت داخل كيس الأموات.”
وأعتقد أن هذه تشرح مسألة هامة يعاني منها الكيان الصهيوني وهي عزوف كثير من الشباب عن الخدمة العسكرية لعدة اسباب نذكر منها إثنين:
القديم: والذي بدأ منذ منتصف الثمانينات حينما تمت خصخصة قطاعات واسعة من الاقتصاد
التي كانت الدولة تديرها، وقد توازى هذا مع تبلور طبقة راسمالية عصرية من حيث الإمكانات والتقنية وهذا خلق مناخا من الرفاه جعل كثيرين من اليهود يتعالون على الأعمال اليدوية والسوداء والوسيطة، ويكفي ان نذكر ان أكثر من 300 ألف عامل أجنبي كانوا ولا يزالون يعملون في الكيان. هؤلاء الشباب لم يعودوا معنيين بالجيش. هذا ناهيك عن وجود العمال الفلسطينيين من الضفة والقطاع والذين في اغلبهم يعملون بالتهريب الصعب.
تجدر الإشارة إلى أن الذين طالبوا المتدينين بالخدمة العسكرية الكلية وبالعمل، إنما يقصدون بأن العمالة الأجنبية هي عبء على الاقتصاد الصهيوني لا سيما في الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية لأن كثيرا من أجور هؤلاء تُحول إلى الخارج كعملة صعبة.
والجديد: وهو أن المقاومة اللبنانية التي ادت إلى تحرير الجنوب 2000 و 2006 وفشل محاولات احتلال غزة 2009-09 و 2012، دفعت مزيدا من الشباب إلى التحايل كي لا ينخرطوا في الجيش بعد أن اصبحت حروبه مكلفة كما قال لابيد”الجندية تعني عودة في الأكياس”. وقد يضيىء التالي على هذه النقطة وهو أن الشارع في الكيان كان يقول عن حرب حزيران 1967 :”دخلت الدولة الحرب وخرجت منها ولم نشعر بها”. أما اليوم، فيحسب الحساب لأية حرب، حسابا مراً.
ويبدو أن سلطة الكيان وبناء على ما تقدم، تعتقد بأن اي إعفاء أو تهرب من الجيش هي مثابة تعميق الخوف والإحباط النفسي من القتال، ولذا يمكن أن يكون هذا أحد عوامل إصدار القرار المذكور.