أحمد حسين
مدخل
اعتدنا كهجريين أن نتدحرج في ساحات اللعب كالكرة على أقدام اللاعبين. كنا كمجرد حالة انتفاخ كروي نستوعب فيزيائيا استراتيجيات الحركة من أقدام اللاعبين ونجري بها نحو الشباك بحيادية مطلقة. ولم يكن هذا يشير إلى وضعية اختيار من جانبنا بالطبع، فالإختيار مهما كان متدنيا يمثل وعيا مقابلا يفترض إمكان الرفض. كان خاصية امتثال ليس لها تفسير سوى الحتم البنيوي المستدعى بالعفوية. هكذا وجدنا أنفسنا. نندفع في كل الإتجاهات بالتاثير والتاثر وليس بالوعي لأننا بشكل من الأشكال مجبرون على ذلك. ولم نحس بأية حاجة إلى السؤال عما نحن فيه، لأن ذلك كان عفويتنا السلوكية المتجذرة. كنا نؤدي وعيا ما لا نملك الإعتراض عليه بوعي آخر غير موجود. تشكل مورفولوجي في الوجدان المعرفي والسلوكي، يشبه تجسد الذنب في مورفولوجيا الأعضاء.
من لا يقنعه هذا الكلام فليبحث لنفسه عن تفسير خاص به.
ألهزل
بعد كل السخف الثوري المدبر الذي مثله الربيع العربي في مصر خاصة، دولة العراقة الهجرية والمركز الحداثي النسبي في المنطقة العربية، يبدو أن الضياع قد جاوز حدوده المحتملة نظريا وشكل حالة استفزاز لكبرياء الفهم والعقل البسيط لدى الشباب المصري. ربما كانوا الوحيدين من بين جماهير الزفة الذين تحركوا بشهامة الذات الرافضة ووعي الحاجة الماسة لتغيير مهزلة الواقع المهين، لذلك كان وعيهم بفداحة الخدعة الإنتخابية التي وقعوا فيها وخطرها على المستقبل مريعا ومهينا في ذات الوقت إلى درجة الألم. وقفوا ينظرون إلى بلادهم ومستقبلهم وهما يتحولان إلى صفقة ريعية بين أمريكا ومؤسسة الكهانة الإسلامية التي قادوها على راحاتهم إلى الحكم. كانت خطيئتهم غير معقولة، فلا أحد يجرب السم. ولكن الثقافة الهجرية لا تتعامل بالمعقول، فكان على حامليها من المصريين أن يتجاوزوا فقه الغيبة إلى صدمة المعقول، أو العكس. واختاروا فقه الغيبة لأنه أقرب إلى وجدانهم الثقافي. كانوا يعرفون الإيمان ولكنهم لم يعرفوا الدين أبدا. وكانوا متاكدين أن الإخوان مرجعية دينية وإيمانية بدلالة أنهم إخوان مسلمون كما يدل اسمهم، فاعتنقوهم سياسيا. ولاحظوا لاحقا أن جلتهم عراض سمان كبيرو الهامة، فظنوا أن هذه هي صفة المؤمن إجمالا حتى لو كان جائعا، فتبعوهم بانتظار أن يصبحوا مثلهم عراضا سمانا كبيري الهامة. ومرت سنة كاملة وهم يزدادون نحافة، والجماعة يزدادون سمنة واكتظاظا. فزادوا أقساط الصلاة والصوم فلم يزد الواحد منهم كيلوغراما. فهلوسوا أن في الأمر سرا، وأخذهم حب الأستطلاع فسألوا الليبراليين، فقالوا لهم أن السمنة لا علاقة لها بالإيمان وإنما بكثرة الطعام وأكل الطيب. وانتشر السر بين الناس ولاحظوا أنهم كانوا يعرفون ذلك من قبل ولكن حدث لهم شيء يسمي الغفلة. وأن الجماعة يستعينون عليهم بدين خاص بهم يشبه السحر ليجعلوهم مغفلين.
وسواء كان المبادرون إلى الأنتفاضة، وواضعو السيناريو هم شباب مصر ومثقفوها بكل أطيافهم ومواقعهم وأجنداتهم المعنونة وغير المعنونة، ام كانت المبادرة شكلا من اشكال استئناف السياق من جانب أمريكا لتعديل مزاج الإخوان المهووس بالعظمة والجشع الإقتصادي، والحد من طموحهم الأرعن، وتذكيرهم بأنهم حلفاء بالتبعية وليس بالتكافؤ، شانهم شان الليبراليين من شركاء اللعبة التي أوصلتهم إلى الحكم… سواء كان ذلك او ذاك، فقد اسفر عن انتفاضة جماهيرية شعبية وشبابية لم تكن في الحسبان، تجاوزت بوعيها الميداني واندفاعها الثوري كل حدود التوقعات، وسيطرت سيطرة تامة على ساحة السياق، بحيث لم يعد ممكنا معها أي موقف او سلوك سوى الولاء للحتم الشعبي الشامل، الذي جسدته الإنتفاضة في أكثر صوره إقناعا. بل في أكثر احتمالاته إدهاشا، بحيث أن قناة الميادين بمراسليها المتواجدين بضعف قدراتهم العادية، وبقدرتها المهنية الفائقة على التفكيك الذاتي، وبالإضافة إلى استدعاء ممتهني التفكيك السلعي من السوق الإعلامية، لم تنجح في اكتشاف شخص واحد تسند إليه منصب القيادة الميدانية أو الكواليسية لجماهير سوبر مليونية تتكلم كلها بلغة واحدة وتتحرك بتناغم عفوي شامل وكانهم جميعا خريجو مدرسة واحدة في الوعي أسمها مدرسة التجربة الذاتية. لا فلسفة، لا نظريات معقدة، ولا قيادات غامضة مجهولة النشأة. طوفان من الأرادة الموحدة، هي نتيجة الصرورة والتحول النوعي المفاجيء للوعي، في طريقها إلى الهدف الموحد. لذلك كان من العبث البحث عن القيادات بين ثلاثين مليون قائد. ( وبمناسبة فضائية الميادين، فيبدو أن كواليسها مغشوشة ببعض الممثلين الإعلاميين الموجودين على شكل أسهم استثمارية مملوكة لبعض الفئات. فهم يقومون في نوافذهم الإعلامية المستأجرة، بتكرار نهج الرأي والرأي الآخر، بتقديم بعض أيتام الليبرالية المهملين مثل عبد الحسين شعبان، وعلاوي، وبعض الوجوه التي نزلت عن الدبابات الأمريكية، وانضمت إلى وطنية المالكي الجديدة. )
في 25 فبراير شدت أبالسة المطبخ الأمريكي كثيرا من المصريين، من جوعهم وغضبهم وحيرتهم، إلى ميدان التحرير، ليؤدوا دورهم في ثورة الربيع العربي. وحينما انتهى الدور انتهوا معه فأخرجوهم من المولد بلا حمص. هنالك لبس ابالسة المطبخ أقنعتهم، فانغمس اللبارلة في الديموقراطية حتى رؤوس أصابعهم، وانغمس الإخوان في الإسلام حتى رؤوس أظافرهم، وتحالفوا كما أوصتهم أمريكا ليكملوا مشوار الثورة العربية الكبرى. وبين الأورغيا الإباحية والأورغيا الشرعية سار هجريو الليبرالية وهجريو اليثربية من المصريين منعظين إلى صناديق الإقتراع، وانتخبوا اليثربيين للإمارة، وأنصارهم الليبراليين للوزارة كما حدث في سقيفة بني ساعدة. ورضي الليبراليون بالوزارة. ورضي اليثربيون بالإمارة ولكنهم رضوا أيضا بالوزارة، وخرج الليبراليون من المولد مثل المنعظين، بلا حمص أو فول.
انفرط عقد التحالف بين الإخوة الأعداء من اللبارلة والإخوان، ولم يعد التواصل التآمرى بينهم ممكنا بعد القفزة النوعية الرائعة التي نفذها الإخوان الذين ساعدتهم لحاهم على الإرتفاع. وجلس اللبارلة مع وجوههم الغريبة، تحت قبعة توفيق الحكيم وسلامة موسى ونجيب محفوظ، ينتظرون الربيع القادم.
أما جماعة مرسي وعبد البديع فلم يكن لديهم وقت ليضيعوه، كانت المسؤوليات والمناصب والمؤسسات الوطنية الخالية، تناديهم من مواقعها في الفراغ الهجري. وبدأ ماسونيو الإسلام الفقهي الشعوبي عملهم بطريقة النهب الماشر. فادرك الليبراليون أنهم ضاعوا. وأن القونين المصرفية والريعية في الفقه وعند آدم سميث واحدة، ولكنها عند آدم سميث لعبة محددة التفاصيل والإجتهاد فيها ممنوع، لتوفر كل الضوابط الملزمة لجميع اللاعبين، ولكنها في الفقه الإسلامي مفتوحة على الإجتهاد، وفضفاضة تتسع للتحليل والتحريم وليس للحلال والحرام وحدهما. لذلك فإن التسميات الفقهية مفتوحة، بعكس قوانين آدم سميث، على ارتجالات الغرض. المرابحة حلال والربا حرام، والفرق بين الأختين المحجبة والسافرة ليس فرقا في البنية أو الهدف النهائي، بل مجرد فرق في الأداء واستعمال الألية الواحدة في الحالتين وهي الفوضى البناءة. كلتاهما تقبضان نقدا وبذات العملة، ولكن شتان بين الفوضى الحلال عند المحجبة، والفوضى الحرام لدى السافرة. عند الأولى ربوية روحية، وعند الثانية ربوية مادية , فوضى فقهية مفتوحة بالحلال والثحليل على كل مراتب الريع في الكيف والكم والمشاركة المجانية في الملكية، والحماية الشرعية في الحجز، والتوقيف ونزع الملكية، والرقابة، والتدوير بحكم الشراكة في راس المال والريع بين طرفي الأستثمار، وفوضى استراقية منظمة على طريقة آدم سمبث القائمة على الإقراض وعدم التدخل إلا بحدود الريع الربوي وجزاءاته المقننة القابلة للنقض والتطويل تحت طائلة الضغوط والمحاذير السياسية والإجتماعية والنقابية. وبذلك فإن قضية الإحتكار ستكون محسومة قطعا في أي بلد ماخوَن، لصالح المرابحة ( الفوضى الحلال )، وعلى المرابين من جماعة آدم سميث، في البلاد المأخونة أن يتحولوا للعمل كوكلاء مهنيين لدى الإحتكار المأخوَن. لصوصية سلفية ولصوصية حداثية تختلفان في الوسائل ودرجة الشبق لإقتصادي. وعلى السوق الإقتصادية العالمية أن تفرط بلبرالييها في مصر والعالم الإسلامي أو تتدخل لكبح جماح المحجبات ودعم السافرات والوصول إلى توافق بينهما، أي بين الفوضى الحلال والربا الحرام. وأول بوادر هذا الإتجاه تظهر في استبدال صور مرسى المفزعة، بصور جديدة تشبه صور رشدي أباظة.
الجد
ألجد هو أن الفوضى الوحيدة في العالم هي فوضى الأستغلال الإقتصادي وما ينجم عته من اختلال للتوازن الطبيعي بين الإنسان وعالمه بكل تفاصيله البيولوجية والمعنوية. والمصطلحات المتداولة للحداثة والعولمة هي في معطم حالاتها نسج للعقل المنحرف لخرافات إعلامية تساعد على استمرار فوضى الأستغلال وتدمير الوعي الإنساني الذي استطاع أن يدرك أن الإنسانية هي مشروع البشر الوحيد لاستمرار الحياة.
الشعوب هي مفردة التواجد الإنساني التي تحمي التوازن وتحاول تحقيقه عبر التصدي للإستغلال لتحقق في النهاية عولمة الحرية وليس عولمة الهيمنة. وما حدث في مصر مهما كانت دوافعه الأولية، أصبح الآن محكوما بأزمة الشعب والإنسان المصري الذي أوصله جدل التجربة إلى إدراك فداحة الإختلال في التوازن بينه وبين عالمه الحقيقي على كل المستويات. كان ما حدث في أواخر يوليو أنطلاقا لنفير الوجود المصري الإنساني أي الشعبي من نقطة الخطر القصوى. لم يعد بالإمكان السكوت، على هوام الإستغلال المحلى الذي يمتص دماءهم مباشرة من جلودهم، أوعلى الإستغلال الدولي الذي يريد إخراجهم عن كل ما بقي لهم من تفاصيل تحقق انسانيتهم المطعونة في الصميم. انفجرت معاناتهم الطويلة مع اللامعقول، فوضعتهم في مكانهم النوعي المحتم في جوهر الإلتزام ومقدمة الحركة. ولن يعود أي شيء كما كان في مصر لأن الشعب المصري بأكثريته الشبابية لم يعد كما كان. استيقظت العراقة بكبريائها، والكرامة بعفويتها، والتراث الفخم الذي يستطيع مكابرة همجيات العصر القوية كلها بفرادته الحضارية والإنسانية.
حدث هذا بزخم شعبي غير مألوف من حيث مشاركة كل الفئات السياسية غير الدينىية، ومن حيث سقف المطالب الوطنية والإجتماعية، وبرعاية حكيمة ومنصفة من جانب الجيش. ثم بدأت الثورة المضادة تعلن عن نفسها بطريقة مبتكرة، مستغلة شعار سلمية الثورة وضرورة المحافظة على مدنية الدولة، وعدم تدخل الجيش في السياسة، وتحقيق الوحدة الوطنية.
وبالطبع لا يوجد ثورات بهذه المواصفات الديبلوماسية. فالثورة انبعاث ضدي وانقلابي على سيادة المرحلة القائمة. الثورة لا تقوم على التفاوض مع الشذوذ، وإنما على اجتثاثه. لقد أوضحت مهزلة الربيع الأمريكي الإخواني الليبرالي ذلك بفظاظة تم من خلالها تجاهل مصر ومن فيها، ودفع الشعب المصري إلى الخروج بنفسه، ليس من أجل تصحيح المهزلة التي حصلت، وإنما لاجتثاث الواقع الذي سمح بها كي لاتعود مرة أخرى. الثورة في حالة مصر تقوم على الهدم الذي لا يمكن أن يقوم بدونه بناء.أبدا
أي وحدة وطنية يريدون بين الشعب المصري ونقيضه الوطني والوجودي على كافة الصعد. هل يعتقدون أن الشعب المصري يمكنه مجرد أن يعيش كشعب مع بقاء تنظيمات الإسلام السياسي في مصر ؟ أية وحدة وطنية مع أناس يقولون أن من حقهم سفك دماء المصريين بالشرعية التي أعطوهم إياها بنسبة اا% من الأصوات، وأخذوها منهم بواقع 80%. أية وحدة وطنية مع أناس تقبل عندهم توبة الكافر بالله، ولا تقبل توبة من كفر بشرعيتهم ؟ وبدون تطويل لا لزوم له، هل يستطيع أي شعب في الدنيا بناء مستقبله على التحالف السياسي والأقتصادي مع أعداء الشعوب الدوليين وأتباعهم المحليين الذين يريدون كسب الدنيا بالدين والحديد، أو الذين يصورون آلية النهب والإستعباد الديموقراطية الغربية بديلا عن العدل الإجتماعي والحرية الحقيقية ؟ كيف يمكن تصور المتأخوِن أو الليبرالي مع شعبه ؟ وإذا كنت الحجة أن مصر منهكة اقتصاديا، ولا تستطيع حرق جسورها مع المعونات الأمريكية التي تعطى لها بالرهن، فمن فعل هذا بها، ولماذا الثورة وعلى من إذن ؟ ألثورة إن لم تبدأ بحرق الجسور اللوجستية والمبدئية مع أعدائها ليست ثورة، بل احتجاج شعبي لن يغير شيئا من طبيعة الواقع المتدحرج.
على كل شعب في العالم يريد أن يتحرر من استعباد عالم النخبة الإقتصادية والسيادية المحلي والدولي له، أن يعلم أن خيار التضحية بحدودها القصوى هو الثمن المكافيء لذلك. الثورة ستخرجه من دائرة استعباد الآخر له، وتعيد له كرامته الإنسانيته، وتفتح أبواب مستقبله على البناء والتنمية الممنوعتين عليه، وتهيء له حياة من الإكتفاء في كل مجالات الحاجة. ستخرجه من سياق الموت إلى سياق الحياة. مقابل ذلك هو مطالب بفعل ثوري مكافيء حدوده الوحيدة هي الإنتصار بأي ثمن. فإذا لم يسلم بذلك فعليه أن يؤجل ثورته، لأن الثورة الإجتماعية لا تحتمل سوى الإنتصار. فنتائج الهزيمة هي الموت المضاعف. وكيف يمكن أن تهزم مصر بشعبها وجيشها وحضارتها أمام حفنة من المنحرفين تقودها عربدة الجشع والهلوسة؟
ويكثر الحديث عن تجنب العنف والدم. كلمة حق يراد بها باطل. من يريد العنف لذاته سوى المجانين ومرضى الجريمة ؟ لذلك فإن العنف الثوري موجه دائما لصد العنف الآخر وليس للإعتداء المجاني. إنه ليس عنفا مقدسا ولكنه عنف مستوجب وضروري بمنطق الخير الأخلاقي للحياة الذي يرفض الإعتداء على وجود الأخر للإخلال بتوازن علاقات الوجود معه. إن العنف المتراكم في علاقات الوجود بين من يستثمرون العنف وبين من يرفضونه ويعانون منه، لا يمكن أن يجعل أية ثورة حقيقية تؤمن بالعنف هدفا، لأن رفضه كان خيارها الأخلاقي الوحيد منذ البداية. ولكن على الثورة أن ترفض العنف مبدئيا، ولكن هذا للأسف، يزيد من احتمالات العنف من الجانب الآخر، وليس العكس. لذلك لا يمكن ميدانيا أن تتنازل الثورة عن العنف كردع للعنف الآخر، خاصة وأن العنف الآخر، يؤمن بالعنف كوسيلة قمع وتخويف. والموضوعية النفسية تحتم أن القاعدة السيكيولوجية لعلاقة أولئك الشواذ بالعنف هي الخوف، فما داموا يخيفون الناس به، فهو مرادف سيكيولوجي للخوف لديهم. لذلك فإنهم بدون ما يحميهم منه جبناء، تتهالك قواهم النفسية أمامه، خاصة لأنهم يملكون خيارا بديلا عن التعرض له هو الهرب، فهم لا يملكون أي تنفيس أخلاقي أو سمو مبدئي يدفعهم للصمود. والثورة التي تبادر العنف بعنف أشد هي الني تحقق انتصارها بأقل ما يمكن من تبادل للعنف. أما الثورة التي تفاوض العنف اللاأخلاقي فعليها التراجع مبكرا قبل أن تدفع ثمن ثورتها ضعفين من العنف الدائر واللاحق. إن آليات الظلم تستبدل دائما بآليات أكثر عنفا وقسوة وتطورا في أعقاب فشل الشعوب في وعي المعادلة الثورية بمبدئي السمو والبراغماتية. ومن أكثر سموا من علي بن أبي طالب في أخلاقيته وبراغماتيته العاقلة ؟ وبراغماتية الثورة العاقلة هي الرد على العنف بعنف أشد، واقتناص كل فرصة لتجنبه إذا أمكن.
وتتكاثر التساؤلات أيضا عن هوية الشعب المصري، وكأن مصر وشعبها ظلا بدون هوية حتى أواخر يوليو 2013. وهوية أي بلد في التاريخ هي تراكمه الحضاري والإثني وثقافته الغالبة. فهي قسر جغرافي تاريخي وموضوعي وليست خيارا فضفاضا. وتكرر هذه الظاهرة في ثقافة الخاصة من المصريين، كانت دائما انعكاسا لغربة واغتراب طبقة الفلول الأرستقراطية من سلالات الجواري الفاخرات في قصور الحكام الشعوبيين المنقطعين عن الشعب وثقافته، من ناحية، وانعكاسا أيضا لقلق المستشرقين الغربيين من أي مشروع تنموي أو توحيدي في المنطقة العربية. هذا القلق العميق الجذور هو الذي أتى بالإسلام السياسي بديلا وتصديا لأي مشروع كهذا. وإذا استطاعت شعوب المنطقة الهجرية التحرر من نكباتها الشاملة، التي تلغي وجوديتها وحريتها الإجتماعية، فإن المشروع التنموي المشترك بينها سيتحول نحو تحقيق القسر الموضوعي للمصلحة، المفروضة فرضا بالقطع التكاملي الجغرافي والإنتاجي بين أقاليمها المصطنعة، وبالقطع الوجداني والغلبة الإثنية. وعليه فإن وعي المصلحة المشتركة هو الذي سيعيد تقييم قضايا الإنتماء كديتاميات رفد ثقافي وحضاري لا بد منها لمشروع التنمية الإنسانية وحمايته.ولكن الأنتباه يجب أن يتجه الأن نحو هدم كل الحواجز المعوقة لمشروع الحرية واستقلال الإرادة الذي سيحدد موضوعيا كل ديناميات الفعل والإختيارات المعنوية. الثورة ليست الآن على تفاصيل الوجود الفرعية، بل على قضية الإنسان الشاملة الذي ستؤهله الثورة لقيادة حتمه البنيوي التاريخي، ومصلحته التنموية بظروقها الموضوعية، ومنها بند الهوية. ولا أحد يحق له التدخل في إرادة الإنسان المصري في ظروف امتلاكه لحرية الإرادة والوعي الإستراتيجي مهما كانت هذه الإرادة. ولا يراد بهذه الثرثرة السخيفة سوى تشتيت انتباه الثورة والثوار ونشر التراخي التوري، لصالح التسكع على هوامش مفتعلة.
كل هذه القضايا الشكلية هي حتما من توجيهات الثورة المضادة. وهي امتحان الثورة الأساسي. وبإمكان الثورة أن تستعمل كل تكتيكات المواجهة الثورية، بشرط أن تظل على موقفها الإستراتيجي من أن الثورة واقعيا، انفجرت عند حد الهاوية، ولن تنحرف قيد نصف ذرة عن وعيها بحتمية تحقيق أهدافها بالكامل، وأولها تحقيق أمن الثورة على ساحة نظيفة تماما من أعدائها التاريخيين. أية حرية منتقصة للإرادة والسيطرة الثورية، أو خلل في التصميم معناه تعليق للحسم. وتعليق الحسم معناه أن شروط الأمان لمشروع البناء والتنمية لم تتحقق بعد. إذا تعثرت ثورة الشباب المصري التي انتظمت كل شروط وحتميات النجاح الشعبي بصورة لا مثيل لها في التاريخ البشري، وافلتت ولو جزءا ضئيلا من تحفزها، او فاوضت على كمال أهدافها، فستجد الثورة المضادة موقعا لأقدامها ودسائسها الجرثومية، تحت دعاوى الوطنية الكاذبة، وشعارات ملافاة العنف الذي لم يبادر إليه غيرها، وستدور عجلتها مرة أخرى. ولن يحتاج الشعب المصري عندها إلى تجربة ثورية جديدة، في المستقبل المنظور، لأن أعداءه كانوا أكثر حرصا وإصرارا على أهدافهم الإستراتيجية الشرّية، منه على مصيره وحقه في الحياة. سيكون ذلك لو أمكن حدوثه معجزة انخذال لم يعرف لها التاريخ مثيلا، لثورة لم يعرف لها التاريخ مثيلا، وسيثبت اللصوص أنهم أكثر حرصا على لصوصيتهم، من حرص أصحاب الدار على حمايتها. مع وضع كهذا، سيخسر الشعب المصري، وبالأحرى الأنسان المصري، فرصة المعجزة التي اجترحها من صميم الحاجة والضرورة، لصالح التأدب الطوباوي. هذه معركة مصير بين الحياة أو الموت، لا يجوز فيها خطوة واحدة ليست للآمام. من لا يصر على هدم كل حواجز التقدم مرة واحدة، وبدون تردد في قضايا الخلق والتكوين الحاسمة، سيعود من موقف الفعل إلى موقف السجال الذي سيعيد الكرة من ساحة سيادة الثورة إلى ساحة سيادة اللعبة السياسية. عندها تذكروا جحا قصة مع حماره عندما قال : أصبحنا وأصبح الملك لله ! دخلنا من باب وخرجنا من باب.
إن الشعب المصري يملك الأن الفرصة والقوة الشعبية والشرعية للخروج من بؤس الواقع، إلى فضاء المستقبل الإنساني المشرف بشروطه هو. هذه الشروط هي وعيه المتضمن في الدافع الثوري الجبار الذي لم تكن الثورة لتقوم بدونه. لقد خرج الشعب المصري من رحم المعاناة التي اكتشف خلالها كل أنواع اللصوص والوكلاء والكذابين الذين لم يفكروا فيه يوما إلا كخامة للتشكيل في خدمة غاياتهم السافلة، يسفكون دمهم عند الحاجة، ويتسترون وراء الدفاع عن حقوقهم عند الحاجة أيضا، ويمارسون عليهم كل خدع الإعلام والتآمر. لذلك فإن التغيب الثوري للقيادة الشعبية عن الساحات السيادية من الأمن الثوري واجتثاث الخطر من جذوره , ومتابعة كل شيء بالتنظيات والمبادرات اللشعبية لتحطيم كل آليات الثورة المضادة بالأداة الشعبية، على ساحة الإنطلاق الثوري، سيتسبب في ارتخاء قبضة المتابعة والتصميم الثوري الذي يجب ألا يتزعزع تحت أية ظروف، وأولها تبني شعار الوحدة الوطنية بهيئتها السياسية المخادعة قبل انطلاق الثورة، حيث كانت كل الفئات السياسية مع النظام وضده في نفس اللحظة. فعلى النظام أن يبقى ليحميهم من الشعب، إلى أن يتسنى لهم وراثته. واقع الوحدة الوطنية الآن في مصر، هو واقع تقرره الثورة الشعبية وامتدادها العفوي في القوات المسلحة الذي هو امتداد الشعب اجتماعيا ووطنيا في معقل الوطنية الأول، الذي أقيم كمؤسسة لهذا الهدف. الثورة بأذرعها وامتداداتها في الواقع الجديد هي التي تضع مفهوم الوحدة الوطنية، ليس على أساس المصالحة لتنفيس الثورة سياسيا، وإنما فقط على أساس الإلتزام بثورة الشعب والوطن والإنسان المصري الذي جعله تحالف أعدائه ضده، يعبر القرون كعبيد روما مقيدا بالإغلال باسم الولاء للوطن وأولي الأمر. من أراد أن يبقى أو يدخل في معترك السياسة فبشروط الولاء للشعب وثورته، وإذا لم يعجبه ذلك فليهاجر إلى ولائه الأمريكي تاركا وراءه أمواله التي سرقها , أو ليعتزل الحياة الإجتماعية وينتظر المساءلة. هذا أقل ما يستحق. نحن لا نتسلى ! نحن نحاول ألا نموت لكي نحيا. هاتوا ما لنا وانصرفوا ! إن لم يكن بالطاعة فبالعنف. لن نعطيكم خيارا غير هذا.
ثلاثة لا يمكن أن تدركهم الوطنية حتى لو خيروا بينها وبين السجن، لأنهم تصنيع خياني وليسوا بُنىً وطنية أو مبدئية بحال من الأحوال : ليبراليو أمريكا، والمتأخونون، والشيوعيون العرب. الليبرالي كالإخواني سواء بسواء، عدمي لا ولاء له إلا لبيولوجيته. والشيوعي العربي لو خير بين الوطنية والصهيونية لاختار الصهيونية مطمئنا، حتى لو أعدمه القوميون كما حدث للرفيق فهد، أو لفضّل الصهيومريكية على الماركسية كما فعل بكداش وأميل حبيبي والعلامة عزمي بشارة، فهل لأمثال هؤلاء مكان في الوحدة الوطنية في الثورة المصرية ؟ الليبراليون والشيوعيون العرب يشبهون الفنانين، وفيهم شيء من الدماثة المهنية وليس لهم تنظيمات تستحق الإهتمام. وبالنسبة لجماعة الإخوان فإن وجودها التنظيمي الشرعي يعتبر خللا دستوريا، لأنها تشكل خطرا نوعا محققا على كل مفاصل حركة التنمية الإجتماعية والإنسانية، من الدين وحتى حرية العقل التنموي، ولأنه لا يقبل بأي التزام مدني يخالف شعاراته الفئوية. ولا يمكن للعقل والتجربة تخيل دستور ثوري أو غير ثوري يقبل التستر على طبيعة هذه الجماعة. فأي تشريع وضعي أو ديني صريح يبيح شرعية هذه الجماعية، يعتبر الأسلام مشاعا سياسيا وغرضيا، لكل من شاء من أصحاب المشاريع الفئوية تصرف نصوصه على هواها الدنيوي، وتلغي قدسيته وإيمانيته وأخلاقيته.
باختصار، مصر على عتبة المصير. لقد اجترح الشعب المصري وشبابه فعلا ثوريا لا سابقة له في التجربة. وهو اجتراح من صميم المنطق الموضوعي وليس من رومانسيات الإندفاع. مصر المكان في خطر، مصر الزمان في خطر، مصر الحضارة والتاريخ في خطر، والأهم من ذلك أن مصر الإنسان في خطر.
لا مجال للتراجع، ولا للتعب، ولا للتفكير في غير الثورة في حدودها القصوي. التراخي الأن أصبح جريمة وعيوية. لا مكان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا في مصر إلا لشعبها ولأصدقائه الموالين من شعوب الأرض. هذا مبدأ عملي وليس طوباوية ثورية. التجارب التي مر بها الشعب المصري والشعوب الهجرية الأخري وقف لها شعر رأس التاريخ أكثر من مرة. أنهار من الدماء سالت لا لسبب سوى تدنيء كرامة الضحايا بالعبث. مدن دمرت واراض اقتطعت وكنوز نهبت ومعالم حضارية أبيدت، لا لسبب سوى لإقناع أصحابها أنهم مرفوضون حتى عبيدا. منطقة تطعم ثرواتها أضعاف سكانها لم يشبع فيها أحد سوى عملائها، ولصوصها، وكفرتها ومجرميها. كل ذلك ليعيش الهجري كالعجل في القفر، لا دنيا ولا دين، يطارده هاجس الموت والخوف والذل أنى ذهب. بلغ عقل الجريمة ذراه في بلاد الهجريين ودمائهم. حكموا فيهم رعاع الجريمة وحدهم يسفكون دمهم وإنسانيتهم بالتوازي التكنولوجي المحكم بين الألة والفقيه الدجال. العجل يدرك ما يجري له وإن لم يعقله، ولكن الهجري الذي صنعوه بتكنولوجيا الألة وحشيش الفقهاء كان أسوأ من العجل. وقف قرونا على حافة ما يريدون، لولا أن الحياة نفخت في صورها، فخرج الحي من الميت في مصر وسوريا. وهنا وهناك. يدفع وسيدفع السوريون والمصريون كفارة الردة عن العقل، والدين، والدنيا فى الزمن الهجري، نيابة عن أمة بكاملها.
الثورة التي يحتاجها أي شعب هجري، تلمسه عصا الصحوة السحرية وتعيده إلى الوعي النوعي لحركة الوجود، في هذا العالم العالم المستذئب، هي السيادة الشعبية المباشرة،أو غير المباشرة على كل شيء. لن يتحقق مطلب الحرية والعدالة الإجتماعية، ولن يتحقق مشروع التنمية إذا لم يكونا في حراسة الثورة الشعبية من التربص. وإذا أمكن اعتبار موقف الليبرالية الوطنية مؤهلا كافيا لجعلها وجهة نظر ملتزمة وطنيا، فإنها أسطورة يمكن تجربتها بحذر شديد، ولكن هل تسمح التجارب لعاقل أو رشيد في الثورة تجريب ليبراليي هاننغتون، أو ليبراليي الفهد وبكداش وأميل حبيبي من الشيوعيين العرب، الذين دخلوا في الماركسية من باب العمالة للصهيونية ؟ ولن أتحدث طويلا عمن يسمونهم الإخوان، فليس لدي ما أقوله، سوى أن نجاح الثورة أو التنمية أو مشروع المستقبل، في أي بلد عربي مع وجودهم السياسي هو استحالة. وهذه ليست وجهة نظر. هي قطع معرفي. لا علاقة للإسلام بالكهنوت من قريب أو بعيد. ولا علاقة للكهنوت الإسلاموي بالدين أو الأخلاق لأنه لا يؤمن بهما إلا كآلية لتمرير مشروعه الإقتصادي والتخريبي كما هو حاصل بالفعل. ولكن هل سيعترف هذا التيار بسقوطه ويخلي الساحة السياسية بالعقل البراغماتي الواقعي ؟ لا يمكن حتى التفكير بهذا. إن عليهم أولا أن يتحرروا من العبودية القاطعة لأمريكا. فهم يعرفون أن صلاحيتهم الإفتراضية للعبودية المنتجة لدى العقل الصهيومريكي قد انتهت. ولكن ما زال لديهم أكثر من تريليوني دولار، وعشرات الآلاف من التنابلة. والسوق الثالثة تغص بالسلع البشرية. وقياداتهم الدولية لا تفكر بعد في التنازل عن إقطاعيتها اللوجستية الخاصة التي دعمت مواقعها على ساحة الشرالعالمي. إن كواليس هؤلاء القادة ليست كواليس إخوانية، فالإخوانية مجرد أداة من أدوات الشر العالمي الذي له كواليسه الغامضة التي يرتبط بها جنرالات الشر هؤلاء مباشرة، وقد يخيل لهم العقل غير العاقل أنهم يستطيعون مواصلة اللعب لحسابهم في العالم الإسلامي. وهنا يكمن الخطر في انقلاب الأتباع الدوليين على سادتهم الذين سيشجعونهم على مواصلة الهلوسة ليتحلصوا منهم نهائيا. لم يعد ” الإسلام ” منبعا وحيدا للإرهاب. لقد تم تدويله ليصبح عابرا للقارات، له منابعه التصنيعية على عموم الساحات البشرية. لذلك لم يعد أمام الشعوب سوى أن تنتصر لتعيش. أي أن تبادر للمواجهة والتضحية الإستشهادية والبطولية لتفرض انتصارها الإنساني، على مسوخ الشر البشرية. لا يوجد خيارات أمام أي شعب أو أية ثورة غير هذا. خيار استبدال ثورة الفوضى البناءة بثورة الهدم البناءة، وتخليص الساحات البشرية من أوبئتها.
لا علاقة لهذا المقال بالسياسة. فلم تعد السياسة في عصر أمريكا طرفا في العلاقات البشرية. العلاقة الوحيدة المكرسة هي التناول بالقوة المطلقة للفعل. البشر ليسوا أكثر من خامات استهلاكية للنخبة العالمية. والإنسانية صواتة خالصة تمثل ملحمة هروب البشر الضعفاء من قانون الغابة الذي ثبت للعقل الهمجي المتطور أنه قانون الحياة الحقيقي والوحيد أيضا. ولا تستطيع أية ثورة مفردة في العالم أن تتخلص من هذا الإله الإخطبوط خلاصا تاما. ولكن ثبت أن أذرعه قابلة للقطع، وأن على شعوب العالم أن ترفع شعار الإنسانية الجديد : نقسم أن تنتصر الإنسانية بأي ثمن ! وكمقدمة نموذجية يجب أن يكون شعار الثورة المعجزة في مصر : نقسم أن ننتصر على الشر ألدولي والإخواني بأي ثمن. فلا انتصار محقق بدون ذلك. لأن الشر الإخواني والأمريكي ليس له روادع أخرى. والرادع المتمثل في ميادين الشعب الثورية المدنية منها والعسكرية، يشكل رادعا يمكن أن يكون مخيفا، وبديلا عن العنف. أما التفاوض وعدم الحزم فسوف يقرب العنف.
لوكان لهذا المقال علاقة بعقل السياسة التحليلي الذي لم يعد يمارسه أحد غير المثقفين العرب، لما سمحت لنفسي بتجاوز حدودها الحيثية في المخاطبة. ولكنني أعرف أنني أكلم نفسي بصوت مسموع. لذلك لست مدينا بالإعتذار لمن أحبهم.