سبارتاكوس الجزيرة فيصل القاسم.. بين أنف الناقة وذنبها!!

جهينة نيوز- بقلم نارام سرجون:

لأول مرة في حياتي أحس بتأنيب الضمير.. وأحس أنني قد سقيت أحدهم زجاجات النبيذ حتى الثمالة.. فصار يسير مترنحا في الطرقات يتعثر في أرصفة مقالاتي وكلماتي ويرتطم رأسه بأعمدة اللغة الرخامية.. فيتورم جبينه وعينه.. ويدوس حافيا على سكاكين الكلام والأسلاك الشائكة التي تسيّج هيبتي.. ويسقط من ثيابه وهو يهلوس باسمي متلعثما ويدعو عليّ أن يبليني ربي بمثل ما أبلاه الله.. وبلواه هي بلوى العيش بين أنف الناقة.. وذيلها!!.

في الحقيقة لن أبالغ إن قلت بأنني أحس بعقدة ذنب كبيرة وأنا أرى أنني تسببت بمشكلة نفسية لفيصل القاسم وبعاهة عقلية مستديمة له عن غير قصد.. فصار يحدث نفسه على تويتر كما لو أنني غريمه الوحيد في الحياة وقد قاسمته فراشه وخبزه وتركة أبيه.. ومن يتابعه هذه الأيام يعتقد أن الحرب والنزاع لم يكونا بين الشعب السوري والرئيس بشار الأسد من جهة وبين باراك أوباما وقطيع أبقاره من جهة أخرى.. بل المشكلة الحقيقية هي بين نارام سرجون وباراك أوباما وهولاند وكاميرون.. وأنني خذلت الشرق بأنني لم أضغط على أزرار الصواريخ التي كان القاسم ينتظرها.. بل أعطيت مفاتيح الحقيبة الكيماوية للغرب وحطمت قلب القاسم.. ومن يقرأ فيلسوف التويتر يظن أنه ابن شيمون بيريز أو شقيق جون ماكين لكثرة احتفالاته وشماتته بسقوط الردع السوري على أقدام أبيه أوباما كما يعتقد.. وابتهاجه بسقوط صواريخ نارام سرجون..

وهذه أول مرة أحس بإحساس المذنب بحق لغتي وأنا أرى لغتي الرصينة العزيزة على قلبي التي يجري في عروقها العطر وينبت على ضفائرها الغار.. تترك الحرب ومنازلة الأوغاد وترمي بالسيف.. لتغسل يديها بالماء والصابون بعد هذه المقالة المضمخة برائحة فيصل القاسم ونكهته ورائحة عرقه.. اليوم تحمل هذه اللغة مروحة صينية تطرد الرائحة والذباب والبعوض الذي انتشر من قمامات الربيع العربي وجيف الحرية المستوردة وبخار فم فيصل القاسم.. فهل تغفرين لي أيتها اللغة؟؟..

ليس بيني وبين فيصل أي ثأر شخصي ولم يهاجمني على عادة الثورجيين ببذاءة لسان وشتائم مقذعة وهذا يحسب له بالتأكيد.. ولا أقدر على أن أكره الرجل لأنك لا تقدر على أن تكره المهرجين.. فللمهرجين عذر عندي ومعطف يقيهم كراهيتي.. ولم يحدث اتصال بيني وبينه إلا مرة واحدة بالصدفة على الهاتف منذ سنوات طويلة ولدقائق لشأن لا علاقة له بالإعلام.. إلا أنني لم أتردد في أن أغمز منه بشكل لاذع في كتاباتي من باب الرأي في الأشياء والمواقف لأن تصريحاته المستهترة كانت مثيرة للاشمئزاز ويستحق بسببها أن يشد من أذنه كما التلاميذ المشاغبون.. ولن أتردد في الغمز منه مستقبلا لأنني لا أستحي من إبداء رأيي ولأن في الرجل دعابة وجاذبية كوميدية لا أنكرها ولا أقدر على مقاومتها.. وهو بالطبع كان يرد عليّ عبر تويتر بطريقته الساخرة المستهزئة.. لكن لم أكن أعرف أن كتاباتي الأخيرة قد شقت له قلبه وأخرجته عن طوره ولم يعد يرى في الدنيا وزحمة الأحداث وصراع الأمم ومناوشات الأساطيل إلا بريق كلامي.. ورؤوس صواريخي.. ودخان حرائقي.

وأذكر أنني كنت منذ سنوات أمر بجانب مكتبة الأسد في دمشق مساء وفوجئت بحشد كبير من الناس ملؤوا الساحة فيها وانتشروا على ضفاف الشارع الملاصق لها.. وبالكاد يمكن دخول المزيد وكأن مباراة لكرة القدم بين فريقي ريال مدريد ومانشستر يونايتد ستجري في حرم مكتبة الأسد أو أن الفنان جورج وسوف سلطان الطرب قرر أن يغني على درجات مكتبة الأسد أغنية يطرب لها الجمهور وتسلطن عليها حتى الكتب على الرفوف.. ولكني ذهلت عندما عرفت أن الجموع بانتظار محاضرة لفيصل القاسم.. إنه منظر جموع لا يشبه إلا جموع الذين ينتظرون محاضرات جاسوس الجواسيس عزمي بشارة.

في تلك اللحظة قلت لمرافقيّ.. “انظروا جيدا ولا تنسوا هذا المشهد.. إنه من علامات عصر الانحطاط.. لأنه عندما يتحول مهرج إلى فيلسوف يعلم الناس فإن الشعب لن ينتج إلا.. الفوضى الخلاقة”.. ماذا لدى فيصل ليتعلّم منه الناس؟؟ ليس بصاحب كتاب ولا بمؤلف ولا شاعر.. وليست له نظرية في إحياء الأمم ولا نهاية التاريخ ولا بدايته.. وهو مجرد مقدم برامج من نوع رديء لا تعلّم إلا الانحطاط.. ومع هذا يجتمع له ولعزمي بشارة ما لم يجتمع لنزار قباني ومحمود درويش.. أمة تجتمع لتتعلم الحرية من مهرج مثل فيصل وجاسوس إسرائيلي مثل عزمي هي أمة تنحدر.

نعم.. الأمة التي تعجب وتتعلم من ثقافة فيصل القاسم وأمثاله أمة تعيش في قاع الانحطاط الثقافي والنخر الأخلاقي والمعرفي.. ولا يوجد أعمق من هذه النقطة في العالم السفلي للثقافات.. وهي أخفض نقطة ثقافية على كوكب الأرض مثل موقع في البحر الميت.. وثقافة فيصل هي بعمق انخفاض البحر الميت.. لثقافة ماتت وغرقت في البحر.. ولا انحطاط بعدها..

وإذا كانت الزلازل تقاس بمقياس ريختر.. فإن مقياس الانهيار الثقافي لانحطاط الفكر والمنهج العقلي السليم هو مقياس فيصل القاسم لزلازل الأخلاق.. بتسع درجات فيصلية.. لأنه طوال عامين لم يقدم لنا رأيه في حرية قطر وقاعدة العيديد ولا في فكر (أبو متعب) أو الشرف الرفيع للمناضل الأممي بندر بن سلطان.. ولا حتى رأيه في مشاهد ذبح الناس أمام الأطفال بيد الثوار الهمج في مشاهد صار أكلة لحوم البشر يتعجبون منها وصار العالم كله يرفع حاجبيه وهو يتعجب من هذا الشعب الذي تحول من كتابة الأبجدية إلى أكل لحوم البشر باسم رد الفعل على شوقه للكرامة ورفضه للعنف.. ولا ندري كيف سيبرر فيصل أن النظام السوري حكم عقودا لكنه لم يعرف عنه أنه ذبح أحدا على قارعة الطريق أمام أمه وأبيه.. مثلما فعل المجرم النفسي شافي العجمي وأتباعه وثوار أردوغان في حلب.

الرجل لا يعرف هو نفسه أين هو.. ومن هو.. ولا ماذا يريد.. ولا أحد يعرف على وجه الدقة ما الذي ضيعه فيصل التائه.. فيصل الذاهل والمذهول.. يتحدث وكأنه عضو في مجلس شيوخ روما القديمة أو أنه سبارتاكوس الذي قاد ثورة العبيد في روما.. وبرنامجه الاتجاه المعاكس يترجم نفسيته.. ويعكس شخصيته كما تعكس المرآة الوجوه.. عقله عقلان في اتجاهين متعاكسين.. والحقيقة هي أنه في البرنامج الذي اشتهر من خلاله إنما يمارس طبيعته ويترك عقله يتصرف بعفوية مطلقة.. وما يراه الناس في برنامجه هو عقله العاري المنشطر من غير أقنعة مسرحية وإكسسوارات وإضاءات.. ولا توجد لحظة يتجلى فيها فيصل ويبدو فيها نقيا إلا في هذه الفترة التي نراه فيها في إطلالاته الهوجاء.. إنها اللحظات التي يخلع فيها عقله كل الملابس التنكرية ويمارس فيها ساعة التنفس كما السجناء.. خارج الزنازين.. عقله السجين يخرج ليسجن الناس في زنازين الجهل.

إنني كنت أحس بالعتب على الزمن الذي صار فيه أمثال فيصل قادة للرأي وصناع المزاج الشعبي.. وبدا ذلك لي كما يستولي أصحاب الحانات والكازينوهات على المكتبات القيمة ويحيلونها إلى مقاه ومقاصف يشرب فيها الناس الأركيلة مع نكهة الحشيش والأفيون وضحكات بنات الهوى.. وبدل الصمت المقدس أمام هيبة الكتب التي تصطف على رفوف المكتبات كما لو أنها صفوف المصلين بخشوع المتعبد في المعابد.. بدل هذا الصمت المهيب تسمع قرقرة الأراجيل وطقطقة أحجار النرد والمجادلات الغاضبة للاعبي الورق والقمار.. ولكنك أيضاً تسمع أصوات الحشاشين والسكارى وصوت الشهوة..

حانة فيصل لا تشبهها حانة.. الرجل كان في برنامجه يدمر ثقافة الحوار البناء حيث التلاقح الفكري وتلاقح الليل والنهار ليولد الزمن.. العقول في برنامجه تتناطح كما تتناطح الثيران مع الثيران في مواسم التكاثر والإلقاح البهيمي حتى تثخنها الجراح.. بل إن جهاد النكاح.. والتحرر بالناتو.. وسطوع شمس الأوطان من تحت عباءة برنار هنري ليفي.. وذبح الناس للناس.. هي ثمار لبذور بذرها هذا البرنامج الذي جعل نقيض المنطق وجهة نظر قابلة للحياة.. فتزوج الجهاد من النكاح لأول مرة في التاريخ بعد أن كان الجهاد صديقا للنفس والروح.. حيث صار للجهاد هرمونات ذكورية عالية لتتدفق في جيمه الشهوة وتنتصب ألفه ويضاجع النكاح.. فعندما يغيب المنطق ويلتقي مع اللامنطق يضاجع الجهاد النكاح.. ويصبح قلب الناتو هو قلب الحرية.. وباراك أوباما مولودا في الكعبة.. وبرنار هنري ليفي يصبح راويا للحديث والصحاح.. ونتنياهو يتعبد معنا في غار حراء.. إنه الاتجاه المعاكس للطبيعة والتاريخ والجغرافيا!!.

لا أدري من يقبل على نفسه أن يشارك في برنامج لفيصل القاسم.. الرجل لم يعد محايدا في مواقفه وبالتالي لا يحق له من الناحية المنطقية والأخلاقية أن يدير نقاشا في الأزمة السورية لأنه صار طرفا مباشرا وله موقف واضح وبرنامجه منصة لبث بيانات الثورجيين وليس لحل المشكلة أو عرضها.. وهو لم يدر حلقة واحدة يسأل فيها عن المبرر الأخلاقي والحضاري لذبح السوريين والجنود علنا أمام الكاميرا أمام الأطفال بيد ثواره وعلى مدار سنتين.. وبالتالي من السذاجة أن يرى برنامج يكون فيه الخصم والحكم من هذا العيار الأخلاقي..

وفيصل على ما يبدو ينتمي إلى ذلك النوع من الناس الذين يتمسحون على الأعتاب.. ويروى عن أحدهم أن ثورجيا سوريا شوهد يتمسح على أعتاب أمير قطري.. ويكثر من مديحه له.. حتى قال له.. “لقد أثبتم بوقوفكم مع حرية الشعوب العربية أنكم أيها الأمير أعلى ذروة في جسد هذا الشرق”.. ولكي يفهم الأمير بلغة بيئته مقصد الثورجي أضاف الأخير قائلا: لا يصح فيكم أيها الأمير إلا قول الشاعر:

قوم هم الأنف.. والأذناب غيرهم..

فمن يسوّي بأنف الناقة الذنبا..

وفيصل لايزال منذ تلك اللحظة يعيش في أنف الناقة.. ويتردد بين أنفها وذنبها..

هناك “كلمتان ورد غطاهن” لفيصل ليعرف كيف أنظر إليه.. وكيف أنظر إلى نفسي.. فلا تنزعج من اعتزازي بنفسي ولا من التشبيه الذي أسوقه وانظر إليه على أنه هجاء عربي:

يا فيصل.. إنني قبس.. إنني لهب مضيء.. ولذلك تراني محاطا بالفراش الذي يخفق بعصبية بأجنحته ليمسك الضوء ويقف على الشعاع بأرجله.. حولي يطوف الفراش فقط.. وقد يموت من لهبي.. حذار حذار من لهبي..

ولقد فوجئت عندما رأيت مخلوقا طنانا يحوم حول اللهب وزرقة النيران يحاول أن يخفق كالفراش.. ولكن الذباب الطنان لم يخلق ليحوم حول الضوء يا فيصل.. بل ليقف على أنوف المواشي.. حيث تقف يا فيصل.. في قطر.. زريبة العرب..

أخيراً.. من عادتي يا فيصل أن أضع خصومي في قدور جهنم وأسكب عليهم مهل اللغة.. وأترك أسماءهم تتشقق وتنفصل إلى حروفها.. لكني هذه المرة سأحترم أنك لست بشتام ولا لعّان.. ولذلك فسأتركك تسعى بين أنف الناقة وذيلها كما يحلو لكل الثورجيين.. وسأترك غضبي لغيرك ممن تطاول على الشعب السوري واستقلاله.. لأنني سأدخله في الناقة.. من الاتجاه المعاكس لأنف الناقة.