الإخوان والمخابرات
(الجزء الأول)
شادي عمر الشربيني
ها هو “ابو العلا ماضي” يطل علينا من ساقية الصاوي ليفجر المفاجأة و يكشف السر و ينزع الغطاء عن جيش المخابرات السري المكون من 300 ألف بلطجي، حيثقال “ابو العلا”، أن الرئيس “محمد مرسي” أبلغه أن المخابرات العامة أنشأت منذ عدة سنوات تنظيماً مكوناً من 300 ألف عنصر ممن يعرفون بالبلطجية، بينهم 80 ألفاًفي القاهرة وحدها. و أشار “ماضي” إلى أن التنظيم هذا ظهر في الاشتباكات التي دارت بمحيط قصر الاتحادية و بحوزته الأسلحة البيضاء و النارية. أضاف “ماضي”أنه قد تم تسليم هذا التنظيم إلى المباحث الجنائية، ومن بعدها إلى أمن الدولة، و في السنوات السبع الأخيرة قبل اندلاع أحداث الثورة كان يتبع هذا التنظيم لمباحث أمنالدولة. و أكد “ماضي” أن هذه الأرقام حقيقية و أنه يحفظها لأنها صادرة من رئيس الجمهورية، مشيراً إلى أن من يقوم بتحريك هذا التنظيم معروف، وأن حجم الأخطارضخم جداً.
عندما سمع قيادي سابق بجهاز المخابرات كلام “أبو العلا ماضي” علق ساخرا أن “مبارك” منذ عام 2005 أوقف زيادة ميزانية المخابرات و حذر من زيادتها، فمن أينأتى “عمر سليمان” بأموال ينفقها على كل هؤلاء البلطجية، اما بالنسبة للثمانين ألف بلطجي الذين يزعم “ماضي” أن “سليمان” منحهم لأمن الدولة للتصدي لثورة قادمة،فإن عدد المتواجدين بميدان التحرير في بداية الثورة كان لا يزيد عن 50 ألف شاب، فمبال الجميع لو تركنا عليهم 80 الف بلطجي، هل كانت ستنجح وقتها الثورة و يتمالإطاحة بمبارك..!!
و السؤال هنا…. هل هناك طريقة لرواية الأساطير، ومبالغاتها وقسوتها ومفاجأتها، أفصل قليلا من تلك التي ألقى بها علينا “أبو العلا ماضي” أسطورته…!!!!
1- أبو العلا ماضي…مقدمة قصيرة
أشتهر اسم “أبو العلا ماضي”، عندما قد قدم أوراق تأسيس حزب الوسط ثلاث مرات في ظل نظام “مبارك”، لكن طلبه قوبل بالرفض، و كان التبرير أن حزب”ماضي” ليس سوى واجهة تتستر ورائها جماعة الإخوان المسلمين، و أن موضوع الانشقاق هذا لا ينطلي على طفل صغير، لقد كان “أبو العلا ماضي” متهما فيالقضية رقم 8 لسنة 1995 جنايات عسكرية، بتهمة إعادة إحياء جماعة محظورة (جماعة الإخوان المسلمين)، حيث تم القبض علي 49 من قيادات الجماعة في 2 يناير1995، و ذلك عقب اجتماع لمجلس شوري الجماعة بمركزها العام بالتوفيقية، لكن “أبو العلا ماضي” حصل علي البراءة، لأنه أثناء نزوله من الاجتماع تم تصويره منقفاه، فقد كانت أجهزة الأمن المسئولة عن تسجيل الاجتماع قد وضعت الكاميرات في الدور الثالث من “جراند أوتيل”، و هو فندق مقابل لمكتب الإرشاد وقتها فيالتوفيقية، و وضعت أجهزة الصوت في مكتب “مصطفي مشهور” المرشد العام وقتها، و كانت قد نزعت غطاء المكتب ليلا وثبتت أجهزة الصوت. أثناء صعود أعضاءالجماعة تم تصويرهم جميعا، لكن أثناء الهبوط اختلف الوضع، فقد خرج بعضهم إلي شارع 26 يوليو وهؤلاء تم تصويرهم من وجوههم فثبت أنهم صعدوا الاجتماع ثمنزلوا منه، أما “أبو العلا ماضي” فتصادف أنه كان متجها بعد الاجتماع إلي نقابة المهندسين في شارع رمسيس هو و آخرين، و عندما هبط من الاجتماع تم تصويره منقفاه، وكان السؤال في المحكمة هو كيف صعد إلي مكتب الإرشاد دون أن يهبط؟، ولم يكن “أبو العلا” وحده في ذلك ولكن كان هناك 14 آخرين خرجوا من المكتب إليشارع رمسيس وهم الذين حصلوا علي البراءة في القضية. لذلك كانت الأجهزة الأمنية غير مقتنعة على الأطلاق بموضوع انشقاق “أبو العلا ماضي” هذا..!!
و جاء شهر يناير 2011 لتنقلب الأحوال رأسا على عقب، ويعتلي كل الداخلين في عداء مع نظام “مبارك” القمة عقب قيام الثورة، كان “أبو العلا ماضي” أحد هؤلاء،قدم مع رفيق الدرب، “عصام سلطان”، أوراق الحزب فقُبل. قالوا إن إسلامهم الوسطي هو الحل لتخليص البلاد من ويلات الانشقاق. نعت حزبه بالمدني في حضرةالليبراليين، وسماه إسلامياً في محيطا الإسلاميين، فهو يسعى دائماً للحصول على تأييد الجميع. عُرف حزبه في البدء بحزب المنشقين إذ إن “أبو العلا ماضي”، و”عصام سلطان”، كانا أحد أعضاء الإخوان المسلمين، و بينما كانت العدة تُنصب لانتخابات مجلس الشعب، أخذوا يملئون الفضائيات حديثاً عن مشاكل الإخوان، و كيفأن الوسط هو الحزب المنوط بإدارة مصر بعد الثورة، كان “ماضي” و “سلطان” لا يألون جهداً في إلحاق كلمة الثورة بأي جملة مفيدة في حديثهم. ترأس “ماضي” قائمةحزب الوسط الجديد في محافظة المنيا، مهد ولادته عام 1958، في مواجهة “سعد الكتاتني” بمجلس الشعب. كانت خسارة “ماضي” ساحقة، و تسبب في سقوط قائمةحزب الوسط بالمنيا، و كيف لا و هو الذي لم يره أحد في المحافظة منذ تخرج عام 1984. لقد تذكر، كعادة المرشحين، بلدته في مواسم الانتخابات.
لكن الخسارة لم يبدوا أنها شكلت أي مشكلة للرجل، و بدأ اقترابه و ولائه للإخوان يطفوا على السطح، بعد أن كان يمثل دور الخصم و المنافس، بدأ الإخوان بتنصيبهوكيل للجنة صياغة الدستور، ثم بعد ذلك دخوله قائمة أي حوار أو مؤتمر يسمى بالوطني، أحب “ماضي” الجلوس بالمؤتمرات الهادئة، كأحد أقطاب المعارضة، و لكنهامعارضة لا تعارض إلا المعارضين، وتضع نفسها في صف الرئيس، حيث يقول “ماضي” إن الرئيس مرسى هو الأصلح لإدارة البلاد، لأن جماعة ضخمة تسمع كلامهو تحميه من الوحوش المنتشرة، التي باستطاعتها إسقاط مصر و الثورة…!!
2- استدعاء السياق
“أبو العلا ماضي” لم يتحمل وطأة الهجوم الإعلامي على تصريحاته بخصوص المخابرات، و عاد ليتحدث عن كون المقطع المسرب اجتزئ من سياقه، التبرير الجاهزلتهمة الكلام المثير للجدل، و نسى الإخواني السابق أن كلمته كانت في صالون بساقية الصاوي، إذ حضرها العديد ممن كان السياق لديهم مكتملاً، و الكلام كان واضحاً وقاطعاً لا يحتمل اللبس أو التأويل، فالتراجع لا يفيد، و الطلقة التي تخرج من السلاح لن تعود مرة أخرى.
لكن “أبو العلا” بحزبه، بعصام سلطانه و محسوبه، ليس هو موضوعنا، فهو ليس أكثر من هامش آخر تتحرك من خلاله الجماعة…. ليس أكثر و ربما أقل….
لكن الخطورة في الموضوع هو أن كلامه كله جاء منسوبا إلى “مرسي”، الرجل الذي يحتل رأس الدولة المصرية الآن، فشخص متحفظ مثل “ماضي” لا يملك رعونةأن ينسب إلى من نقل عنه ما لم يقله، و لا يملك شجاعة أن يبوح للرأي العام بما سمعه دون أن يراجع صاحبه، و الكلام عن المخابرات العامة، التي توصف بأنها جهازسيادي و أعلى مؤسسة أمنية للدولة المصرية وتتبع مباشرة رئيس الجمهورية، أي أن رئيس الجمهورية يتهم جهازه الأمني الأول بالبلطجة و الخيانة و التآمر عليه..!!
و حتى يمكن فهم مدى و خطورة هذه التصريحات يجب وضعها في الإطار و السياق العام الذي جاءت فيه، فقد كان سبقها مثلا تصريحات للدكتور “محمد بديع”،المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، في شهر ديسمبر الماضي، حيث قال في رسالته الأسبوعية «إن جنود مصر طيعون لكنهم يحتاجون إلى قيادة رشيدة توعّيهم،بعد أن تولى أمرهم قيادات فاسدة»، و لو توقفنا قليلا عند تصريحات المرشد تلك فإنه يمكن فهم ما يرمي بديع إليه، إنه يتكلم عن قيادات الجيش، ويتهمها بالفساد، ممايعني حتمية الإطاحة بها و تبديلها بقيادات أخرى…
و لكي نفهم لماذا تنحصر مشكلة الجماعة في قيادات الجيش، فإننا يجب أن نبدأ من فهم العناصر التي تشكل القوات المسلحة، حيث تتشكل من أربع فئات، هي(القيادات –الضباط الميدانين و الصغار – أفراد الصف – المجندين)، و إذا كان هناك خلايا اخوانية نائمة في الجيش من الضباط وأفراد الصف.. كم عددهم إذن (؟!).. لا يمكن، بأيحال من الأحوال أن يتجاوزوا أصابع اليدين.. و لو كانوا قوة، كما يروج بعض الإخوان، لتغير المشهد تماما.. أما المجندون فهم لا يستقرون إلى الأبد بالجيش، سواءأكانوا ضباط احتياط أم جنودا.. وبالحساب البسيط ستكون نسبة المنتمين منهم للجماعة، هي نفس نسبة الإخوان بالمجتمع المصري، أي واحدا لكل مائة (1٪)،و بالتالي،فأخونة الجيش من القاعدة لابد أن تسبقها أخونة للمجتمع.. و إن تحدثنا عن الأجيال القادمة الملحقة بالكليات العسكرية.. حتى وإن كانوا من عائلات إخوانية، مثل أقارب”مرسى” و “الكتاتنى”، فهم يلحقون في سن مبكرة.. و تربية الكليات العسكرية، كفيلة بأن تجعلهم ينسون انتماءاتهم السياسية و إحلال العقيدة الوطنية الصرفة و العقيدالعسكرية المصرية محلها، و إلا فإنه يتم عزلهم في قطاعات غير مؤثرة و وظائف إدارية هامشية و بسيطة.. إذن فجماعة الإخوان المسلمين تحتاج إلى جيلين كاملين(الجيل 33 سنة) لتتمكن من أخونة الجيش انطلاقا من القاعدة، بما يعني من 60 إلى 50 عاما على الأقل..
إذن لا سبيل إلى السيطرة على الجيش من أسفل، هذه مهمة مرهقة طويلة و تقريبا مستحيلة، و أن السبيل الوحيد تقريبا للسيطرة على الجيش هو الإطاحة بقياداته، و توليةقيادات منتمية للجماعة أو على الأقل موالية لها..!!!
لقد اعتذر المرشد عن تصريحاته تلك على طريقة اسف ما كنش قصدي، كأنه داس على قدم أحد بالخطأ..!! لكن أي اعتذار لم يكن يستطيع أن يمحو دلالات الكلام ومراميه و مقاصده، و في الحقيقة فإنه لم يكد يمر برهة من الوقت على تصريحات المرشد، حتى اتهم القيادي الإخواني بالإسكندرية “على عبد الفتاح” المجلس العسكري،بتنفيذ عملية رفح التي راح ضحيتها 16 ضابطا وجنديا في رمضان الماضي.
وقال “عبد الفتاح”، في المحاضرة التي ألقاها على أعضاء بجماعة الإخوان نهاية شهر يناير الماضي، استكمالا لاتهام أعضاء المجلس العسكري بتدبير حادث الهجومعلى الضباط و الجنود المصريين الستة عشر في رفح، إنهم «عملوا للرئيس الفخ بتاع رفح بس هو استفاد منه وراح مطهر الجيش فحول المحنة لمنحة، فكان أسد وكانلوحده ومكنش معاه لا جيش تبعه، ولا حرس جمهوري تبعه، ولا مخابرات تبعه وقتها ربنا نصره».
و هكذا فقد تم رفع مستوى اتهام قيادات الجيش من الفساد إلى التآمر و الخيانة، بل إن هذه القيادات لم تتوانى عن التضحية بجنودها، و قتلهم وهم صائمين، لكي تأخذهاحجة للإطاحة بمرسي، و هل بعد ذلك خسة و نزالة…؟؟!!!
مرة أخرى هاجس الإطاحة بكل قيادات الجيش واستبدالها بأخرى موالية و تابعة يبدوا ملحا و حارقا، فالجيش هو القوة الوحيدة التي تستطيع أن تتدخل وقت اللزوم لفرملةقطار المشروع الإخواني، القطار الذي يريد أن ينطلق بسرعته التوربينية و يطيح بالجميع من أمامه..!!!
3- مصدر كل الشرور..!!
لكن قصة الجماعة و الجيش ليست بالضبط موضوع هذه السلسلة من المقالات، و سوف يتم إفراد مقالات أخرى لها لاحقا، و لكن روايتها هنا كانت واجبة لبيان الطريقالذي تسير فيه الجماعة، بيان الهدف النهائي الذي تبغيه، والذي كان أيضا هو هدف الصدام مع المخابرات المصرية العامة، و كانت حادثة رفح هي زناد تفجير ذلكالصدام، الذي كان مكتوما، بين الجماعة و المخابرات.
إن اتهامات “مرسي” للمخابرات العامة، التي جاءت على لسان “أبو العلا ماضي”، لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبق وقام الدكتور “محمد البلتاجي” بمحاولة ترويجاتهامات من نفس النوع، ففي شهر فبراير قبل الماضي، استضاف “خالد صلاح”، رئيس تحرير «اليوم السابع»، “البلتاجي” في برنامجه على قناة النهار، وأكد يومها أنجهاز المخابرات هو المسئول عن الفوضى التي تشهدها البلاد، وحكي في البرنامج تجربته في الوفاق بين وزارة الداخلية و الشباب الثائر في محمد محمود، ذكر انهذهب إلى الوزارة و اتفق مع قياداتها على وقف إطلاق قنابل الدخان لمدة معلومة، واتفق مع الشباب على الامتناع عن رمى جنود و ضباط الشرطة بالحجارة لنفسالفترة، و اعتبر هذه الفترة بمثابة هدنة يتم خلالها الاتفاق على فض الاشتباك بين الطرفين، و إقناع الشباب بالعودة إلى ميدان التحرير، “البلتاجي” أكد ل”خالد” انالطرفين قبل أن يتركهما نقضا الاتفاق و عن عمد، حيث تم إطلاق قنابل الغاز من قبل ضباط الشرطة، و قام بعض الشباب برمي الحجارة على الجنود، “البلتاجي” يرىأن الذين خرقوا الاتفاق عن عمد هم الذين يتبعون جهاز المخابرات، وأنه من مصلحتهم عدم التوصل إلى اتفاق والإبقاء على اشتعال الموقف كما هو، وحسب نظريةالدكتور “البلتاجي”، خلال اللقاء التلفزيوني، فإن جهاز المخابرات هو الذى يدير البلاد بعد سقوط جهاز أمن الدولة، وأنه المسئول عن الفوضى المتفشية في البلاد، وقالأيضا إن هذه الفوضى منظمة و مخطط لها بكل دقة، وأن أعوان أو توابع جهاز المخابرات في ميدان التحرير و شارع محمد محمود و في وزارة الداخلية و فيالقطاعات و الهيئات المختلفة بالقاهرة و المحافظات تشيع الفوضى كما خطط لها قيادات المخابرات، وكلما أطفئت النيران المشتعلة أوقدتها المخابرات مرة أخرى، كماحمل “البلتاجي” خلال اللقاء جهاز المخابرات مسئولية مجزرة مباراة الأهلي والمصري في بورسعيد.
هكذا إذن حول “البلتاجي” جهاز المخابرات العامة المصرية، من جهاز أمن وطني، هدفه التأمين و الحماية، إلى جهاز لنشر الفوضى و الخراب، إلى آلة لصنع المجازرفي بورسعيد و غيرها، حتى أصبح من الصعب التفرقة بين دوره و دور الموساد الإسرائيلي في مصر..!!!
و السؤال هنا لماذا تلقي الجماعة و قيادتها بكل هذه الاتهامات على جهاز المخابرات المصرية؟!!!
لماذا تصفه بكل ما هو دنيء و منحط و تنزع عنه أي صفة وطنية؟!!!
إن أفضل طريقة للحصول على هذه الإجابات هو الرجوع للتاريخ، فمعرفة التاريخ، فهمه واستيعابه، تجعلنا أكثر دراية بأسباب و جذور الصراعات الدائرة.
الذاكرة…الذاكرة الحية و اليقظة هي الحارس الهادي الأول للعقل و منقذه من أن تبتلعه دوامات التشويش و الإبهام أو يتيه في صحراء المجهول.
لذلك فإن قراءة ملفات العلاقة بين المخابرات والجماعة هو أفضل طريق للإجابة وفهم ما يحدث الآن.
هذا ما سنفعله في المقال القادم، حيث سنبدأ من الاحتكاك الأول بين الإخوان و المخابرات… احتكاك كان عنوانه قضية تنظيم 1965.
قالوا: “أبدا لا تستهن بقوة الأغبياء في مجموعات كبيرة” جورج كارلين
::::
المصدر: “كنعان” الفصلية، العدد 153، صيف 2013