د. نورالدين مصطفى/ فلسطين
لقد تم اعتبار القواعد العسكرية الاجنبية، كلاسيكيا، شكلا ملموسا من اشكال تدخّل قوى غريبة في الشؤون الداخلية لدول اخرى، اقل منها درجات على سلم العلاقات الدولية،وذلك على حساب سيادة واستقلال وكرامة شعوب وحكومات البلدان المستضيفة لها.
عموما، تاتي بمثابة شكل احتلالي فظّ ، وتظهر في ظل موازين قوى عسكرية او اقتصادية مؤاتية لتلك القوى؛في بعض الحالات تاتي نتيجة طلب من حكومات بدواعي التحالفات العسكرية اوالتبعية او الاستكانة او كشرط لانسحاب قوات عسكرية غازية او محتلة لارض وطن ما.
في الحالات السابقة، تقام القواعد العسكرية على جزء من ارض او بحر الاقليم، مع وجود او انعدام وجود سكان اصليين عليه. الاثار الضارة المترتبة عليها تكون محدودة زمانيا ومكانيا واحيانا لا يشعر بها احد.
اتفاقية بلات (1901) La Enmienda Platt التي اقيمت بموجبها القاعدة البحرية الامريكية في خليج غوانتنمو (كوبا) عام 1903، تم استنساخها في الاردن التي ابرمت عام 1994 اتفاقية سلام مع اسرائيل (وادي عربة) يتم بموجبها اعادة منطقة الباقورة(وهي جنة زراعية) اسميا الى الاردن، لان اسرائيل استاجرتها لمدة 99 عاما من اجل اقامة مركز سياحي! وقبل ذلك بكثير اثناء الحرب العالمية الاولى، اشترطت الولايات المتحدة على بريطانيا بيعها 34 مدمرة مضادة للغواصات الالمانية، لقاء تاجيرها احد موانئها لمدة 99 عاما ايضا!
مع ذلك، يوجد شكل آخر من القواعد العسكرية الاجنبية اكثر خطورة، يترتب عليه عواقب كارثية على الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ و وجود شعوب وبلدان بذاتها، كما هو الاحتلال العسكري الانجلوساخوني الاستيطاني الاجلائي الاحلالي. في هذا السياق تندرج حالة دولة اسرائيل الصهيونية التي اقيمت اصطناعيا عام 1948 في فلسطين العربية التاريخية.
في اعقاب عملية مضاعفة مضطردة للمستوطنين ، من 50 الى 650 الف مستوطن خلال الفترة 1917 ـ 1947، استولى جيش من الغزاة والمرتزقة القادمين من 37 دولة على 78% من فلسطين، وارتكب خلالها عملية تطهير عرقي على الطريقة النازية الهتلرية: مجازر بحق عشرات الاف الفلسطينيين؛ 850 الف فلسطيني طردوا من وطنهم؛تدمير واحراق 532 مدينة وقرية، وفي عام 1967 سلبت اسرائيل بقية فلسطين.
في 1948 اقيم الكيان الصهيوني الاشكنازي (اسرائيل) بيهود اوروبيين بشكل اساسي. لدى الاشكناز عروق عديدة واكثريتهم بولنديين وروس(…). منذ البداية كانت اسرائيل ولازالت مشروعا سياسيا واقتصاديا وايديولوجيا معقد ومعولم، ومتلاحم عضويا ووظيفيا مع الراسمالية في مختلف اطوارها من الميركانتيلية وصولا الى العولمة النيولبرالية.
ذاك الجيش العسكري وبمساعدة ودعم قوى من خارج المنطقة اقام دولة ـ قاعدة عسكرية، ومنذ ذلك الحين ما انفكت تشن حروبا لا نهاية لها، في خدمة تلك القوى وخدمة مصالح النخب الاقتصادية والعسكرية الذاتية. ولا زالت تشكل العامل الحاسم في زعزعة المنطقة: على امتداد حوالي سبع عقود من وجودها غير القانوني والمختلق، شنت على اقل تقدير 11 حربا عدوانية على العرب، انطلاقا من موقع تفوقها العسكرى كما ونوعا ، والذي تضمنه القوى التي اوجدت تلك القاعدة العسكرية وخاصة الامبريالية الامريكية. لدرجة ان اسرائيل قد تحولت الى قوة نووية دون الاعلان عن ذلك.
ديفيد بن غوريون، مؤسس اسرائيل قال “نحن فقط بامكاننا ان نتحول الى عرب كما تحول الامريكيون الى جلود حمراء” (كناية عن الهنود الاصلانيين، وعن استحالة التحول) (…) حربنا ضد العرب حرب ان نكون او لا نكون وليست حرب حدود (…) اسرائيل تعيش بالحرب وتموت بالسلام”.
اما السناتور الامريكي بول فيندلي Paul Findley فقد راى ان “عقيدة الاصوليين المسيحيين تنص على ان وجود اسرائيل قوية يشكل ضرورة لنوايا الرب في فلسطين (…) ومن واجب الولايات المتحدة ان تجعل اسرائيل قوية جدا عسكريا الى يوم القيامة”.
ان الطبقة الانجلوساخونية المُتهوِّدة الحاكمة في الولايات المتحدة ارتكبت افظع جريمتين في تاريخ البشرية: ابادة الشعوب الاصلانية واستعباد وقتل الزنوج الافارقة. وعل ما يبدو فان هذا السلوك بالتواطؤ مع الاكليروس، جاء تحت تاثير كنيس الشيطان (1770) حيث اندمج الدين وراس المال على يد آل روتشيلد Rothschild.
اما المجري النمساوي ثيودور هيرتزل فقد وضع الذرائع من اجل استيطان فلسطين في كتابه “الدولة اليهودية” “Der Judensaat”لعام 1886، بينما يعترف منظر الصهيونية فلاديمير جابوتنسكي بان فلسطين ليست ملكية لليهود، ومع ذلك ينصح باستعمال الاساليب الملائمة والاصرار على “الامر الواقع” وبهذا يضطر العرب الى التنازل عن وطنهم ويتم توطينهم في مكان آخر.
وقد ادى تضافر جهود الامبريالية الاوروبية الامريكية الى انجاز عملية اقامة الدولة اليهودية في فلسطين. فقد اشار الانجليزي اسرائيل زانغويل Israel Zangwill الى ان كثافة سكان القدس تعادل ضعف كثافة سكان الولايات المتحدة، واوصى باستعمال السيف ضد السكان الاصليين كحل لتلك المشكلة. ومن سخرية القدر ان يكون زانغويل هو نفسه الذي اخترع الكذبة الكبرى القائلة بان فلسطين بدون شعب لشعب بدون ارض. وتجدر الاشارة الى ان الملك البريطاني ادوارد كان قد طرد اليهود من ارضه عام 1290 ومنع عودة اي منهم وبقي الامر على هذا الحال لغاية عام 1556.
كما اوصت لجنة هنري كامبل بانرمان Henry Campbell-Bannerman (1907) بـ “تدمير الامة العربية واقامة حاجز غريب يفصل مشرقها عن مغربها لكي لا تنهض ابدا من عثرتها التاريخية”. في حين كان أرثر بيلفور Arthur Belfour يقول “نحن لا يهمنا النظام الذي سنقيمه بهدف ان يبقى نفط الشرق الاوسط في ايدينا؛ الشيء المهم هو ان يبقى النفط في متناولنا”. لاحقا ابرمت اتفاقية سايكس بيكو سرا (1916) وصدر اعلان بلفور لشهير (1917).
اما النظام السياسي الامريكي فهو الذي دشّن الخطوات العملية لغزو فلسطين استيطانيا، حيث بدا مع ووردر كريستوفر Worder Christopher عام 1844، الذي استطاع في عام 1852 اقامة اول مستوطنة زراعية في فلسطين وأسكن فيها سبعين مستوطنا بروتستانتيا امريكيا، طلبوا في عام 1867 من وزارة الخارجية الامريكية اعادتهم الى وطنهم ومع ذلك جاء رد الوزارة بالرفض وبعثوا اليهم 150 مستوطنا بروتستانتيا آخرين قادمين من ولاية مين Maine. حاليا “يعيش في اسرائيل 160 الف مستوطن امريكي، ومنهم 50 الفا يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية”. في البداية تحدثوا عن عودة اليهود ولاحقا روجوا لفكرة دولة يهودية.
في عام 1919، قال رئيس العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الامريكي السيناتور هنري فلود Henry D. Flood “ان بقاء القدس وفلسطين في ايدي الاتراك (…) بدا لي عارا على جبين الحضارة ولا بد من غسله” في حين اكد السناتور كتينغ Cutting ان الولايات المتحدة ترى في اسرائيل “مصلحة امريكية عليا”.
طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة واسرائيل لغاية يوم 6 اكتوبر 1973، كشفها الجنرال كريتون ابرامز Crayton Abrams عندما قال “يقوم العرب الان بصلب حميرنا”، اي ان اسرائيل مطية للخطط الامريكية في الشرق الاوسط؛ وكيان وظيفي في خدمة مصالحها الجيوسياسية، ومنطقة نفوذ للقوة السياسية العسكرية الامريكية في المنطقة.
من ناحية اخرى، ادلى الاكاديمي الكوبي الراحل روبيرتو غونساليس Roberto González برايه قائلا ” اسرائيل كحدث تاريخي ودولي ليست الا محصلة التوسع الاستيطاني والامبريالي في الشرق الاوسط (…) وهي الى حد كبير، دولة مصطنعة، قائمة على ايديولوجية رجعية وضمنيا ظلامية وتمييزية وفي التحليل الاخير عنصرية (…) انها حقيقة دولة “منبوذة اومارقة” (…) محكوم عليها بممارسة” “machtpolitik” اي سياسة القوة والسلطان كوسيلة للبقاء على قيد الحياة.
في الوقت الراهن، يجب ان لا تهمنا كثيرا التوترات الموجودة في العلاقات الدبلوسياسية الثنائية والاحتكاكات بين رئيسي الولايات المتحدة واسرائيل، اذا ان المجال الاقتصادي العسكري الامني يشهد تحسنا متصاعدا، اعلى مما كان عليه خلال عهد ادارة بوش الصغير ماسح جوخ وحذاء الصهيونية واسرائيل. يوجد للولايات المتحدة معاقل ومخازن عسكرية بما فيها اسلحة نووية في اسرائيل (على الاقل 150 سلاحا نوويا حسب تصريحات الرئيس السابق جيمي كارتر) في خدمة الاحتاجات الحربية لكلا القوتين في الشرق الاوسط.
يصل اجمالي المبلغ التراكمي للمساعدات الامريكية لاسرائيل في الفترة 1952 ـ 2012، الى 233 مليار دولار، بالاضافة الى الضمانات المالية بقيمة 19 مليار دولار؛ اما المساعدات العسكرية التراكمية فقد بلغت 100 ملياردولار وتطالب اسرائيل الان بمبلغ 50 مليار دولار اضافية للفترة 2017 ـ 2027؛ “لقد مولت الولايات المتحدة الصناعة العسكرية الاسرائيلية وفي الفترة 1951 ـ 2006 تبرعت لها بمبلغ 162 مليار دولار. وفقا لكلام نائب وزير الخارجية الامريكية نيقولاس بيرنز “تشكل هذه المساعدات استثمارا على المدى البعيد في اسرائيل؛ للولايات المتحدة مصالح حيوية تكمن في الحفاظ على امن اسرائيل”.
في عام 2014، خصصت الولايات المتحدة لاسرائيل 53% (3.1 مليار دولار) من المساعدات العسكرية للخارج (5,9 مليا دولار). اما الامريكي (يهودي مجري) جورج سوروسGeorge Soros؛ والسعودي الوليد بن طلال، وهو ممثل الصهيونية الوهابية للملكية الاسلامية المزيفة؛ والصهيوني الامريكي استرالي الاصل روبيرت مردوخ Rupert Murdoch;؛ والصهيوني الروسي المافيوي اركادي غايدماك Arkadi Gaidamak ؛ واليهودي الصهيوني اليانكي حاييم سابان Haím Saban، فانهم يشكلون ائتلافا لراس المال المالي ويدعمون الحرب الامبريالصهيونية وسلام راس المال، على حساب الوطن الكبير والامة العربية وقضيتها المركزية فلسطين.
جدير بالذكر ان صحيفة هارتس الاسرائيلية اعادت بتاريخ 13 مارس 1992، تصريح ادلى به الامين العام السابق لحلف شمال الاطلسي جوزيف لينز Joseph Linz، “اسرائيل هي المرتزق الاقل تكلفة في عصرنا”. بينما اكد شمعون بيريس Simón Pérez على انه “لا يمكن لاسرائيل ان تعيش دون المساعدات الامريكية”. فمنذ عام 1973 كانت الولايات المتحدة ولا زالت تشكل الضمانة الحقيقية لوجود اسرائيل وتفوقها التقني العسكري.
مما تقدم، يمكننا الاستنتاج بان اسرائيل كانت وما برحت قاعدة عسكرية تقليدية ونووية امريكية، دون اية رقابة او تفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية AIEA، اذانها لا زالت ترفض التوقيع على بروتوكولات الوكالة، لانها ببساطة تفتقر الى سياسة خارجية حقيقية حسب تاكيدات الصهيوني هنري كيسنجر H. Kissinger “اسرائيل ليس لديها سياسة خارجية؛ فقط لديها سياسة داخلية”. بيد ان الولايات المتحدة لا تقرر فقط في السياسة الخارجية لقاعدتها العسكرية العظمى، بل وفي سياستها الداخلية كما يحصل احيانا في الانتخابات والتخطيط الفعلي للاستيطان في الجليل وغزة والضفة الغربية. وفي عام 1974 قال الصهيوني كيسنجر للاسرائيليين ” نحن نعلم افضل منكم ما يناسبكم”.
بخصوص العلاقة الخاصة والوحيدة من نوعها في العلاقات الدولية المعاصرة، تتصرف الولايات المتحدة واسرائيل كلاعب واحد احد؛ بينما في مجال الجيوسياسة والمخططات الامريكية في المنطقة فانهما يتصرفان ككيانين منفصلين؛ اننا نشاهد ظاهرة “اسرلة السياسة الخارجية الامريكية اذ انه لم يعد من الممكن فصل قوة اسرائيل ولا قوة اليهود عن قوة الولايات المتحدة”.
اما الحقيقة حول هذه العلاقة فقد اوجزها جورج بوش الصغير عندما قال “نعلم ان عدد سكان اسرائيل 7 مليون نسمة؛ لكن عندما يتصدون للارهاب فانهم يصبحون 307 مليون نسمة؛ فلنعلن ان الصهيونية كلمة الرب؛ يوجد وعد قديم (…) بان تكون اسرائيل هي الشعب المختار”.
من جهته، يعترف ديك تشيني D. Cheney، بان اسرائيل والولايات المتحدة تشكلان مخلوقا طبيعيا في تحالفهما واهدافهما ومصيرهما، بينما يحاول تبرير محاولتهما خلق كيان امبريالصهيوني على نطاق عالمي، اذ قال: “الولايات المتحدة واسرائيل بيننا تحالف طبيعي (…) ونقود حربا واحدة من اجل منع اقامة امبراطورية استبدادية، تمتد من اسبانيا وتشمل شمال افريقيا وصولا الى الشرق الاوسط وجنوب آسيا”.
نتطابق مع تاكيدات بوش وتشيني بان اسرائيل تشكل جزء مكونا وحيويا للدولة الامريكية، وبان الصهيونية، كايديولوجية عنصرية وفاشية، هي كلمة رب الدولة الامبريالصهيونية: راس المال الكبير. وبهذا فان الصهيونية المسيحية، على المستوى الايديولوجي ـ الديني، جاءت لتجسد وحدة المصالح والاهداف مع الصهيونية اليهودية، واصبحت ايديولوجية المشروع الامبريالصهيوني على نطاق كوني.
وولتر راسل ميد Walter Russell Mead، باحث امريكي مهمّ، حاول فك رموز الطلسم الماثل خلف العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة واسرائيل، وتوصل الى خلاصة مؤداها انه لا قوة اللوبي اليهودي ولا المصالح الامبريالية الامريكية تقف خلف الدعم الامريكي المطلق لاسرائيل، بل انه الدعم الشعبي الامريكي الحقيقي للدولة اليهودية (…) على الرغم من ان الكتلة الديموغرافية اليهودية الامريكية تناقصت من 3.8% عام 1948 الى 1.8% حاليا. وفقا لاحصائيات اجريت مؤخرا، يعيش في اسرائيل 6.103.200 يهودي وفي الولايات المتحدة 5.7 مليون يهودي. الفرق بحده الادنى وقبل عشر سنوات كان الميزان بميل لصالح الولايات المتحدة.
خلال السنوات الخمسة الماضية، حصل تزاوج سافر بين الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية والصهيونية العربية الاسلامية ( التي تعبر عن نفسها من خلال ايديولوجية انظمة وقوى “الاسلام السياسي” وسلوكها السياسي والعسكري) تحت مظلة الامبريالية الامريكية، في محاولة منها لمنع تشكل وتوطد عالم متعدد الاقطاب.
في نهاية المطاف، الصهيونية ليست الا ايديولوجية راس المال. الوقائع التاريخية والراهنة تبرهن على هذا الراي، الذي يتعزز بوجود التكالب متعدد القوميات والاديان والاعراق، الذي اصبح راس حربة الثورة المضادة في عموم الشرق الاوسط؟
انطلاقا من تلك الوقائع والاحداث الملموسة غير القابلة للتفنيد، والتي تكرس دولة اسرائيل الصهيونية كقاعدة عسكرية عظمى للامبريالصهيونية في فلسطين التاريخية، هناك عديد من اللاعبين، فرادى وجماعات، رفعوا اصواتهم مطالبين بتفكيكها. الحاخام يسرائيل ويس (ناطوري كارتا)، إيلان بابيه، إسرائيل شامير، شلومو ساند وغيرهم، غادروا اسرائيل ويعيشون في الخارج احتجاجا على الجرائم الصهيونية في فلسطين، ونأمل ان يحذو بقية المستوطنين حذوهم وان يعودوا الى بلادهم واوطانهم الاصلية، من اجل احلال العدالة الحقيقية، واعادة الحقوق الوطنية والقومية والتاريخية للشعب الفلسطيني والامة العربية، كدعامة لا بد منها للامن والسلام في المنطقة والعالم.