عادل سمارة
نصف قرن مضى ولم تتوقف بعد تداعيات هزيمة حركة التحرر العربي بشقيها القومي والاشتراكي. بل لم تتوقف هجمة إجهاز الثورة المضادة على حركة التحرر هذه، كما لم يتوقف تراجع هذه الحركة وهو التراجع الذي تتنازعه فئتان من هذه الحركة تؤشران إلى عمق مأزقها:
· فئة القيادات المهيمنة على هذه الحركة والتي لم تتخلص من استدخال الهزيمة الناجم عن ضعفها الفكري ومن ثم الانتمائي، كما لم يمت الجيل القيادي هذا بعد،
· وفئة الكوادر الصامدة ولكن النادرة والمحاصرة والتي لا تزال تقوم بدور جيوب المقاومة تحضيرا للوثبة مجددا أو للانتقال من مذبحة الحكام إلى ملحمة الشعب.
في سياق نقد ضعف حركة التحرر هذه لا يمكننا تجاهل قوة الثورة المضادة وإمكاناتها بل ووجودها السابق على تبلور هذه الحركة أي الوجود الاستعماري ومن ثم الإمبريالي الراسمالي الغربي والكيان الصهيوني والطبقات الحاكمة المولاة على القطريات العربية والمتبلورة في الدولة القطرية كضد للدولة القومية وبالطبع للاشتراكية بلا شك.
ولا يقلل من خطورة الدولة القطرية، بل يزيد من خطورتها، العباءة الجديدة التي يدثرها بها بعض المثقفين التقدميين حيث أسموها مؤخراً ب “الدولة الوطنية”.
تجسدت هزيمة المشروع العروبي في هزيمة جناحها الرسمي الذي امسك بالسلطة، أي الأنظمة العربية القطرية ذات التوجهات القومية والتنموية وخاصة إثر هزيمة هذه الأنظمة قومية الاتجاه في عدوان 1967. وهو العدوان الذي من شدة التبسيط بمكان قراءته على أنه هزيمة أمام الكيان الصهيوني في تغطية على أن مختلف الحروب مع الكيان هي حروب مع المركز الراسمالي العالمي، والذي على أية حال لم يُخف ابدا أنه خالق وحامي الكيان. وهذا ليس تقليلاً من خطورة الكيان ولا من نتائج الهزيمة، ولكن من أجل تجليس الصراع في إطاره الطبيعي. ذلك من أجل الكثير وخاصة فهم أن الغرب الراسمالي هو عدو تام، مكتمل ودائم.
وكانت هذه الهزيمة هي الإيذان بصعود الأنظمة القطرية التابعة إلى قيادة الوطن العربي وخاصة إثر الطفرتين النفطيتين 1973 و 1982 حيث لعب الفائض النفطي دورا في:
· خصي الأنظمة الجمهورية الفقيرة وكلبشتها برشوة ما أُسمي “مساعدة دول الفائض لدول العجز” وهي مساعدة لا علاقة لها بأي شكل من التطوير الإقتصادي بالمعنى الإنتاجي بل تسديد ديون وتسمين البيروقراط وأجهزة الأمن.
· اضطرار دول العجز ، ومنها العلمانية للسكوت على تغلغل المال السياسي لأنظمة الدين السياسي حيث ملأ هذا الفكر ذلك الفراغ الموحش بعد تراجع الثقافة القومية والاشتراكية. وهو ما خدم قوى الدين السياسي كذلك.
إن قراءة شروط الهزيمة، وتدمير بدايات التصنيع وخاصة في مصر، وسيطرة طبقة الكمبرادور وتدفق الفائض الريعي هو أرضية مناسبة جدا لانتشار الفكر الغيبي والاكتفاء بالعيش على سطح الحياة بمعنى:
· وجود سيولة مالية تغطي الاستهلاك المر الذي يحول الناس إلى مجرد أفواه آكلة.
· تغييب او تجويف الوعي بتوظيف جيوش من دُعاة العودة للغيبيات كتبا وندوات وصحفا وتلفزيونات ولاحقا فضائيات…الخ مولتها السعودية خاصة.
· غياب العلاقات الاجتماعية الإنتاجية التي تجترىء وعيا حياتيا وطبقيا ووطنياً
· اعتبار الدولة القطرية هي الوضع النهائي لهذه الأمة
· واعتبار من لديه المال هو الحاكم الشرعي طالما يوفر الرواتب ومتطلبات الاستهلاك
· اعتبار الغرب كحليف للأنظمة مثابة طرف التصالح معه وارداً، هذا إذا كان كثيرون أصلا إعتبروه عدواً.
· تغييب صورة العدو الصهيوني.
ولذا، شهدت هذه المرحلة سلسلة الاعتراف بالكيان الصهيوني بدءا بمصر حيث توقيع اتفاق كامب ديفيد. والاعتراف بالكيان الصهيوني يحمل في جوهره ما ليس أقل خطراً، وهو انتهاء الوطن العربي بأسره ساحة ومزرعة للمركز الراسمالي الغربي دون أن يكون مترسملا بمعنى إنتاجي وبالتالي ليس شريكا. وهو ما يمكننا تسميته تحالف المركز الراسمالي الإنتاجي مع الكمبرادور التابع في صيغة تحويل العالم إلى قطاع عام راسمالي معولم.
إرتفعت للحلول محل التيارات القومية والاشتراكية (الشيوعية والماركسية) والإيمان الطبيعي تيارات وثقافات أخرى مضادة:
· الثقافة والحدود القطرية والإقليمية
· ثقافة الدين السياسي الطائفية المذهبية
· وثقافة الراسمالية الكمبرادورية والطفيلية التابعة.
ساعد على تقوية هذه التيارات أزمة الاشتراكية على صعيد عالمي وتفكك الكتلة الاشتراكية مما أفقد الدول الجمهورية حمايتها الخارجية ممثلة في الاتحاد السوفييتي لتبقى معتمدة على حمايتها الداخلية كدولة أمنية، وهو ما تجلى في احتلال العراق وتفكيكه عمليا، وفتح مسارات هائلة للطائفية فيه ليكون تجربة للثورة المضادة تقوم بتطبيقها لاحقا على الوطن العربي.
ليس شرطا إن كانت الثورة المضادة عارفة بعمق ان بنية المجتمع العربي بعد الستينات قد غدت جاهزة للصراع الطائفي أم لا، ولكنها، أي الثورة المضادة كانت تهدف تفجير هذه الصراعات معتمدة على:
· وجود قوى وأنظمة الدين السياسي
· سهولة استخدام الوجود والدور الإيراني لتعميق الفزاعة المذهبية
فقد تمت قراءة الثورة الإيرانية على انها مذهبية وضد العرب السُنَّة وذلك لتبرير التحشيد والتجنيد المذهبي ضدها. وهو تحشيد يصب في صالح الثورة المضادة.
إن إخفاء الطابع القومي للثورة الإيريانية قُصد به حصر التناقض ضدها في المستوى الطائفي وذلك إمعانا من الثورة المضادة في قتل المشروع العروبي الذي هو نقيضها أكثر مما هو نقيض إيران.
هنا يُشهد للثورة المضادة تمكُّنها من تجاهل المستوى القومي للثورة الإيرانية وتحريك المستوى السني العربي ضدها بما هو تحريك طائفي بحت يخلو من الأبعاد الوطنية والقومية وبالطبع الطبقية. فهو تحريك مئات ملايين السنة بدوافع طائفية لا تحمل اي مشروع حداثي إنساني قطعيا، بل مشروعا طائفيا إقصائيا في الموقع وتابعا على الصعيد العالمي.
وتمكن الشحن الطائفي من إخفاء الأبعاد الوطنية والقومية والتنموية للنظام الإيراني بتحويله إلى العدو المباشر والوحيد للعرب السنة (لأن الطائفية تقرأ الوطن العربي على أرضية الطوائف لا القومية) مما غطى على توسع الاعتراف بالكيان الصهيوني وأعطى ذلك التوسع غطاء مناسبا.
يخلص المرء من قراءة توسع دور الريع النفطي في السياسة العربية بل هيمنة أنطمة الريع هذه أن وليدها الرئيسي والخطير هو نشر الطائفية والمذهبية كفايروس لتفكيك المشترك القومي العربي.
بكلام آخر، تم إحلال هذه القراءة للدين أي الدين السياسي محل المسألة العروبية بشكل مقصود وعلى أرضية عدوان وتناقض تناحريين. وهي قراءة اتخذت وضعية تعميم تثقيفي وهابي وإخواني هائلين عبئتا كل طائفة ومذهب ضد الآخر تحضيرا لمعركة اقتتال ذي طابع إفنائي.
وهو اقتتال بدأ في لبنان على شكل حرب الطوائف والتي من نتائجها إخراج المقاومة الفلسطينية من جهة ووضع لبنان تحت الوصاية السعودية من جهة ثانية، اي سيطرة الطائفة السنية في لبنان بما هي التابعة للوهابية السعودية.
لكن لهذا معان وتداعيات كبيرة وخطيرة من الأبواب التالية:
· أن السعودية هي أخطر أدوات الإمبريالية وتحديداً الأمريكية
· وهي بهذا عدوة للقومية العربية
· وبالنتيجة والتحليل دون توفر معلومات هي حليف للكيان الصهيوني
· وهي معادية لمختلف الطوائف والمذاهب في الإسلام والأديان الأخرى
وإذا وضعنا هذا الموقف والدور للسعودية او قرأناه ببعده النفطي اي توفر فوائض مالية هائلة لنظام مضاد للبعد العربي فهو لا شك لا بد أن يوظف هذه الأموال لسيطرة ما على الوطن العربي:
· إما سيطرة عبر التنمية، وهذا ليس مؤهلا له
· أو سيطرة عبر شن حرب الطوائف والتخريب.
وهذا ما نشهده خاصة إثر الحراك العربي الأخير مجسدا في توسيع دائرة حرب النفط على الأمة العربية ونقلها:
· من تجويف وعي رعايا انظمة النفط لحشوها بالطائفية الدموية، ولكي تُبقي على تجريف ثروة العرب النفطية التي تسرقها
· إلى عدوان مباشر على الجمهوريات العربية متخذة الشكل الإبادي من ليبيا إلى العراق فسوريا فاليمن وحتى مصر لا مباشرة.
في السعودية وبأشكال مشابهة في مختلف انظمة النفط يتم استخدام الدين بدمج المؤسسة الدينية في خدمة المؤسسة السياسية ويتم تمويه ذلك بالمزاعم الإيمانية للطغم الحاكمة سواء بشعارات مثل “خادم الحرمين”، وبناء المساجد على صعيد عالمي وتشكيل لجان الزكاة والدعوة أو الإصرار على ارتداء اللباس العربي التقليدي ومنع الكحول شكليا…الخ.
بهذا يتم توظيف المؤسسة الدينية في إيهام الشعب بإيمانية المؤسسة السياسية وعزل المجتمع عن القضايا الأرضية وإشغاله بالتديُّن. وهذا ما يتيح متسعا للنظام او المؤسسة السياسية كي تمارس دور التابع للإمبريالية مغطاة بعباءة التدين فلا توفر حريات ولا عدالة ولا مساواة ولا حماية للوطن…الخ ناهيك طبعا عن هدر الثروات, وحدث ولا حرج عن عبودية المرأة..
وفي حين ان المؤسسة الدينية وخاصة في السعودية تحرض على الأديان الأخرى وتصف المسيحيين بالصليبيين وبالكفر والإباحية…الخ إلا أنها لا تطبق هذه المعايير المتوحشة على الأعداء الغربيين الحقيقيين المتواجدين على أرض الجزيرة باكملها على شكل جيوش وقواعد عسكرية برية وبحرية وجوية ناهيك عن التبعية الاستهلاكية باستيراد منتجات هؤلاء “الكفار” ورصد الفوائض المالية كارصدة فردية أو صناديق سيادية في الغرب بل واستجلاب الضحايا من نساء من مختلف أصقاع الأرض للدعارة المعلنة في دُبي والمستورة باسم فراشات الليل في كل الجزيرة العربية!
كل هذا تتجاهله المؤسسة الدينية وتكتفي بمطاردة من لا يذهبون إلى المساجد أو من يعاكسون النساء أو يشربون الكحول…الخ.
دعنا نسمي دور المؤسسة الدينية بتجليه في مستويات ثلاثة من الاستثمار:
· الاستثمار المحلي للدين في تجويف الوعي والتغطية على المعايب الوطنية والأخلاقية للسلطة السياسية .
· توسيع هذا الاستثمار إلى الوطن العربي والعالم ببث الثقافة الوهابية الدموية ضد كل من ليس من مؤيديها
· والاستثمار الجديد الأخطر في العلاقات مع الكيان الصهيوني.
لقد تمكن تحالف المؤسستين السياسية والدينية من توسيع تواطئهما مع الإمبريالية إلى التواطؤ مع الكيان الصهيوني . وهو التواطؤ الذي يمكن رده إلى قرار عبد العزيز آل سعود بعدم استخدام النفط في حرب 1948 حيث تم اغتصاب فلسطين، وبالطبع ومن حينها لم تشارك السعودية في أية حرب دفاعية في مواجهة الكيان الصهيوني مكتفية بعدم الاعتراف العلني بالكيان وهو أمر شكلي بحت والزعم بمقاطعة الشركات التي تتعامل مع الكيان الصهيوني.
(حول الإلغاء الجديد للمقاطعة انظر الفصل الثاني من كتاب عادل سمارة : “ثورة مضادة إرهاصات أم ثورة” منشورات دار فضاءات عمان 2012) .
بل إن التخلي عن المقاطعة يعود إلى سنوات طويلة سابقة وخاصة الإمارات وعُمان: أنظر الخبر المرفق.
■ ■ ■
فعدم المشاركة في الدفاع عن فلسطين هو جوهريا تحالف مع العدو والتخصص في تقويض القومية العربية هو اشد تحالف مع العدو. وحتى وقف ضخ النفط إثر حرب تشرين 1973 هو أمر عليه تساؤلات كثيرة بمعنى أنه لعبة الشركات النفطية الدولية وليس بطولة الملك فيصل الذي كان يستجدي الرئيس الأمريكي جونسون لتدمير مصر الناصرية عشية عدوان 1967.
لقد وصل توظيف المؤسسة الدينية مؤخرا إلى استصدار مشايخ لفتاوى تطبيعية في عدة دول عربية منها مصر ، والأردن وسلطة الحكم الذاتي (بحجة فتوى زيارة الأقصى) والسعودية.
ومن اللافت تواكب حدثين سياسي وديني معا مؤخرا، حيث قام بابا الأقباط في مصر بزيارة القدس بحجة التعزية بوفاة راس الكنيسة القبطية في القدس مبررا ذلك بأنه شأن ديني لا سياسي. وزعم بأنه لن يطبع سياسيا إلا مع التطبيع الإلاسلامي! وهو قول لا يرفض التطبيع بل يريده جماعياً! مع أن هذا البابا نفسه قد رفض سابقا زيارة الأرض المحتلة معتبرا ذلك تطبيعا!!!!
وبهذا ينسجم البابا تواضروس مع فتاوى مفتي مصر وكثير من مشايخ الإسلام بجواز زيارة القدس تحت الاحتلال. هذا بعد ان صمد البابا شنودة لعقود ضد التطبيع.
لعل هذا يؤكد القناعات المتزايدة بأن تدخل المؤسة الدينية في السياسة أمر خطير وطنياً، وبان المطلوب ليس خضوع هذه المؤسسة للحكومات بل للمصلحة الوطنية والقومية.
لقد أفتى رجال الدين في لبنان لصالح الحربين الطائفيتين المسلحة 1975-1990، والسياسية حتى الآن، وأفتى رجال الدين الشيعة في العراق لاستقبال الاحتلال الأمريكي، ورد عليهم رجال دين سنة بالافتاء لصالح داعش التي هي مخلوق متوحش أمريكي ايضا.
كماأن معظم رجال المؤسسة الدينية السنية في الوطن العربي يُفتون بالتبعية للاستعمار العثماني حتى اليوم.
أما الحدث السياسي فهو إعلان دُبي عن افتتاح ممثلية للكيان الصهيونية فيها. وهو ربما إعلان عن وجود تلك الممثلية وليس افتتاحها في هذا التاريخ.
http://www.haaretz.com/israel-news/.premium-1.688235
والطريف أن هذه الكيانات تعرف حجمها الحقيقي، فهي تؤمن بانها ليست ذات سيادة، بمعنى أن دولة ذات سيادة لا يمكن ان تقيم اية علاقات مع دولة تقوم بأعمال إرهابية على أراضيها. فالكيان هو الذي قتل محمود المبحوح القيادي من حركة حماس في الإمارات تلك! وهذا يطرح سؤالا مثيرا للهزء: هل تواطئت الإمارات على قتل الرجل؟ وهل سبب التواطؤ أنه سُني إخواني وليس وهابي؟