ملاحظة: نُشرت هذه الدراسة في مجلة “ كنعان”، العدد 87 تشرين أول 1997 ص ص 81-110. نعيد نشرها في ذكراه لهذا العام كما هي.
حلقة (1)
مدخل تمهيدي
تناقش هذه الدراسة بشكل أساسي بعضاً من القضايا الهامة التي أثارها غسان كنفاني في فترة مبكرة، ولا سيما في علاقة هذه القضايا بالتطورات التي طرأت على الواقع الفلسطيني والعربي في الفترة الممتدة بين حياته واستشهاده والوضع العربي الحالي.
وفي هذا الصدد أود التنويه مبكراً، ان ما أقدمه هو تحليل تعبوي. تحليل لما كتبه غسان، ومحاولة لادخال القارئ في اشتباك المقارنة بين ما كتبه وأشار إليه غسان، وبين ما يدور اليوم، إنه اشتباك مقارنة أو مواجهة. وليس شرطاً أن يكون غسان قد كتب مطولاً عن القضايا التي أشير إليها. كما أن ما أكتبه ليس رثاءً لغسان، ليس شعراً أو خطاب مناسبة، وإنما هو تحليل مقارن، إن صحّ التعبير.
يمكن تقسيم معالجة غسان لهذه القضايا تقسيماً تعسفياً إلى حزمتين هما: المعالجات الأدبية، والمعالجات السياسية. سيجد القارئ بالطبع أن لا فرق بين المعالجات الأدبية والفكرية السياسية سوى في المدخل، بمعنى أن أدب غسان هو أدب سياسي اجتماعي وحتى طبقي. وبعبارات أخرى، فإن ابداعات غسان الفنية لم تأتِ بهدف رسم لوحات فنية لارضاء ذوق عام أو خاص، وإنما أتت لوحات فنية لأنها كانت قد تمثلت موضوعاتها وشخوصها وقضاياها إلى الحد الذي جعل منها أدباً أو فناً إبداعياً.
لذا، تتقاطع المقدرة الأدبية لدى غسان، بل وتنشأ عن عمق العلاقة والانشغال بالموقف والقضية، لم تنشأ ولم تنجرّ، كما هي الحال لدى البعض، من تعقيدات الانتماء أو التجديف للانتماء إلى هذه المدرسة أو تلك. لقد انشغل الكثيرون بتعديل مقاساتهم لتتلاءم مع القوالب التي أعدها النقاد للحصول على “عضوية” مدرسة أو أخرى. وبهذا أعفى غسان نفسه من عبثية “التكيّف” والخضوع لمعايير النقاد أو أصحاب المدارس لا سيما أن كثيراً من المدارس فضفاض إلى درجة يصعب تعريفها، ولا سيما مدرسة ما – بعد الحداثة، التي يعلن من ينتمون إليها أنه لا تعريف حتى “نسبي” لها.
يحضرني هنا ما كتبه يوسف إدريس:
بيكاسو لم يصبح بيكاسو لأنه تكعيبي أو زرقاوي، أو تجريدي، لبيكاسو قضية، هي شعب اسبانيا، وفي واعيته ولا واعيته وجوه مغضنة بالشقاء والألم والمأساة. ان تشابك الوجه الإنساني بماساته من كثرة ما ألح هذا التشابك وألحَّ على وجدان شديد الحماس شديد الحساسية شديد التأثر بالعلاقات والأشكال، ولد بيكاسو، ولا يزال، كفنان، حياً، لأنه فنان لا يزال يحيا قضيته.[1]
لذلك، لا يأتي الخلود كقرار شخصي مسبق، وإنما يأتي الخلود بالانتماء، يأتي بالعمل، وهذا ما كانه غسان. ولو دخل غسان نفق التكيف مع هذه المدرسة أونقادها أو نقاد نقادها، لما تجاوزت قامته قامة أدباء الصنعة ولما كان لنا شرف الحديث عنه اليوم.
لا تليق الكتابة عن غسان كشهيد فقط. فقبل هذا كان غسان مفكراً وأديباً ومناضلاً. علينا أن نكون حذرين ومسؤولين بعض الشيء كي لا نخلط تقديس الشهادة بتقديس الموت كي لا نفتخر بالموت لمجرد الموت، كما يفعل الكثيرون. ففي تحدي مواجهة ظروف وشروط ودروس الهزيمة يهرب الكثيرون من مواجهة الهزيمة وقهرها وتقييمها ليجدوا ملاذاً في الافتخار بعدد الشهداء، والزيادة النسبية والمطلقة في عددهم في هذا الشهر من هذا العام مقارنة بالشهر والعام المناظرين!.
ما أكثر الذين استشهدوا، وأكثر منهم الذين يحسدونهم لأنهم عندما تمكنوا من ممارسة الشهادة خانتهم الصدفة. ولكن، ليس هذا هو المشروع. لم تكن الشهادة مشروع غسان، بل كانت الحياة بحرية وهوية ووعي. كان غسان طريقاُ أو دليلاً بين الوسط والمشروع الذي لا بد من إنجازه. وعندما كان لا بد من الشهادة في الطريق إلى ذلك المشروع، فعلها غسان. وبالتأكيد، كان غسان يكره الموت المجاني. ومع ذلك، فلأن كل فلسطيني هو مرشح شهيد، كل من ينتمي إلى الطبقات الشعبية في هذا العالم هو شهيد محتمل، فقد كان غسان يعمل وينتج إلى درجة توحي أنه يرى مصرعه غداً.
الأحياء الحقيقيون منا، الحريّون بالحياة وبالشهادة، هم الذين يسابقون الموت بالعطاء وبالانتاج، قبل أن يدركهم الموت. هذا السلوك هو مجرد لحظات بسيطة في المركّب اللا محدود للأبدية التي بوسع بني البشر اقتناصها مؤكدين بذلك على النزوع السرمدي للإنسان. من ينتج كثيراً، ومن يحاول إنجازالمشروع العام، هو إنسان حقيقي لا شك، لا يخشى الموت، ولكنه لا يحب الموت المجاني. فالشهداء الحقيقيون لا يتقنون صنعة الموت لأن صنعة الموت نقيض صنعة الحياة. فصنعة الموت لا تنجب.
بين الحقبة التي احتضنت غسان وبين اللحظة مسافة طويلة من التغيرات وبالتالي اختلافات تصل حد التناقض اللاتصالحي. كل شيء مختلف اليوم عن كل أشياء الأمس، المفاهيم، المواقف، التحليلات، القيم… ولا يتشابه سوى المكان ووحدات تقسيم الزمان التي هي مجرد فواصل بين الأحداث. لكل إنسان أو شعب في هذا العالم مكان. أما نحن الفلسطينيين، فلم يعد لنا مكان. على الأقل، فإن أناس النظام العالمي يرفضون أن يكون لنا مكان، يرفضون حجتنا بأن لنا مكاناً هو وطننا. وإذا صح القول أنه لا يوجد شيء اسمه الزمان، أي أن الزمن هو فواصل أو فراغات بين أحداث تجري في المكان، نصبح نحن الفلسطينيين بلا مكان ولا زمان. هذا وجه اختلاف آخر اليوم عن ما كانت عليه الأمور في فترة حياة غسان القصيرة.
لعل أفضل مثال أقدمه هو: أنني عرفت غسان أيام حركة القوميين العرب،وأبطال العودة، ومجلة الحرية ومؤتمرات الحركة التي كنت أحضرها كمراقب حيث كنت الأصغر سناً. كانت حقبة العمل العلني للحركة في لبنان، والعمل السري لأبطال العودة في لبنان أيضاً. وها هي دورة الزمان تعود لاحاول التعرف على آثار غسان في حقبة سوريالية إن شئتم، حقبة فيها عمل علني ولكن من طراز غريب. عمل علني بدون أحزاب، وبدون مهمات. عمل علني فيه القوى السياسية اما ملاحق للطبقات، وتحديداً لرأس المال، أو ملاحق للسلطة أو ملاحق للمنظمات غير الحكومية. [2]
[1] من مقدمة كتبها يوسف إدريس للأعمال الكاملة لغسان كنفاني المدفع
[2] طرأت تغييرات كبيرة على دور ومبنى الحزب السياسي بين القرن الماضي وحتى نهايات هذا القرن، ولكن التغيرات التي أصابت الحركة السياسية على المستوى العربي ووصلت إلى حد التماهي بين العديد من الحركات الراديكالية وحتى الماركسية وبين الأنظمة الحاكمة على الرغم من التباعد المتزايد بين هذه الأنظمة وبين الطبقات الشعبية. وحيث فقدت هذه الحركات انتماءها الفكري، فقد فقدت علاقتها الطبيعية وأصبحت أشبه ما تكون بمنظمات غير حكومية.
On the NGOization of Political Parties see: Adel Samara, The Palestinian Left: from Leninist to NGO-style Organization. In News From Within, vol XI no 5 May 1995.
- كاتب عربي من فلسطين.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.