يقول الكاتب اليهودي الاشكنازي: امنون راز:
لكنه رغم هذه التحولات، فإن التمييز بين المتدينين والعلمانيين ليس مغلوطاً وحسب، بل مضللاً أيضاً، ويحول دون امكانية تفحص طابع ” العلمانية” الاسرائيلية. وكما سأحاول أن أظهر هنا، فإن الموقف الذي يمثله العلمانيون قائم هو الآخرعلى تحليل ثيولوجي، يرفض أية امكانية للتسوية القائمة على الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، وعلى التطلع للشراكة والمساواة بين العرب واليهود”[10]
ان راز شأنه شأن الكثيرين من المثقفين الاسرائيليين، وان كان يقر بقدر، ربما ليس بسيطاً من حقوق الفلسطينيين، إلا أنه يترك لنا جوهر أو قدر، هذه الحقوق مفتوحاً، أي دون تحديد. فهي يمكن أن تكون مجرد حق الصلاة في الحرم الإبراهيمي أو الانحصار في الحقوق البلدية كما يقول عزمي بشارة[11]، ويمكن أن لا تكون شيئاً. لكن راز يعود فيقول لاحقاً:
“ما يهم التأكيد عليه حقاً هو الوعي القائم على الرفض الفعال للوعي التاريخي – معرّف الوعي اليهودي السابق. في هذا المصطلح بالذات، الذي تقوم الثقافة الراهنة على رفضه، تكمن امكانيات لتعريف مختلف للوجود اليهودي في البلاد، وهو تعريف لا يقوم على إنكار أو نهب أو طرد. [12]
لكن هذا الاقتراب من الوضوح، يظل اقتراباً حذراً وغامضاً. انه مجرد اقتراب من الوضوح وليس الوضوح نفسه. فأي طرد أو نهب هما المقصودان، طرد 1948 أم طرد 1967، أم حتى الأنماط الجديدة المحدودة ولكن اليومية من الطرد والنهب التي يتعرض لها الفلسطينيون عبر مصادرة الأرض بالقضم والتزوير لكي لا يظل للسلطة الفلسطينية سوى مسطحات المدن وبعض القرى. فإن المعالجة الفكرية التي قدمها راز وفي ثوب ثقافي تاريخي فلسفي لا تمنع طرح الجانب السياسي فيها بوضوح ودقة اذا كان هناك تجاوز حقيقي للإنكار والنهب والطرد التي مارستها الصهيونية.
إن ما يقوله على سبيل المثال دانييل بويارين أكثر هشاشة وتشوشاً مما يقوله امنون راز، يقول بويارين:
“وفي الحد الأدنى، ولا أجده جواباً كافياً بشكل كامل، ولكنه موقف حد أدنى، اذا كانت هناك دولة يهودية – فإنه لزاماً على الدولة اليهودية ذات السيادة أن تمنح حقوقاً متساوية، معاملة متساوية، ورفاهية اقتصادية متساوية (للسكان غير اليهود) وذلك ضمن القوانين الدينية التي يقع الفلسطينيون ضمنها. إنها واضحة جداً في القوانين الدينية”.[13]
حوار على أرض الآخرين
المهم أن المعتدل والمتطرف من هؤلاء انما يحاور بعضهم الآخر على أرض الآخرين، أي الأرض الفلسطينية، وليس أرض اليهود أنفسهم. فحتى أكثرهم “زهداً” في مسألة الأرض، يبقى موقفه غامضاً وقابل لأكثر من تفسير. يقول بويارين، اقتطف هنا من وثيقة رسمية لـ ناطوري كارتا:
“نحن يهود فلسطين لا رغبة لدينا لتوسيع أماكن سكنانا واحتلال أراضي جيراننا، ولكن فقط أن نعيش إلى جانب الفلسطينيين غير اليهود، تماماً كما عاش اليهود في كل العالم بسلام وسكينة”.[14]
والحقيقة أن موقف حركة ناطوري كارتا المعتدلة هذا لا يبين لنا بوضوح أين هي بقعة الأرض التي تعتبرها هذه الحركة أرضها، وأين هي أرض الغير! ويقول بويارين أيضاً:
“تقول التوراة، ان عليك مسؤولية، كدولة ذات سيادة، ان تهتم برفاهية كل شخص بالتساوي: عليك أن تطبق قانوناً واحداً من مواليد البلاد وعلى الغرباء (الأعداد 15-15)”.[15]
ثم يعود بويارين ليحصر الأمر في المستوى الثقافي فيقول:
“لا أبحث عن وعاء يذاب فيه الفلسطينيون واليهود معاً، ولكن عن بيئة تكون فيها جماعات كل واحدة منها تعيش حياتها الثقافية، تطورها بشكل خلاق، ولكن مع تفاعل خصب بينهما”[16]
يقول حسن خضر:
“وقد عقد حاخامات يهود متطرفون، مؤخراً، قران اليهود على “أرض إسرائيل” وأقاموا احتفالاً علنياً لذلك، للحيلولة دون الانسحاب من الأراضي المحتلة”[17] يساعد هذا الموقف على رؤية مقصد الحاخام مناحيم فرومان المذكور أعلاه وهو من مستوطني مستوطنة تكواع على أرض بيت ساحور، بصدد عدم تقسيم الأرض. والحقيقة، ان “عقد القران” هذا ليس إلا “إبداعاً” يهودياً خاصاً لا يختلف كثيراً عن مختلف التخريجات والفتاوى التي يقول بها يهود آخرون من اليسار الصهيوني أمثال بنفنستي، وبرعام، وانتهاءً بالحاخام فريمان نفسه، حيث يجمعون كلهم على “عدم تقسيم البلاد”.[18]
صراع الهوية المصطنعة والدمج
يكتشف التوجه الرأسمالي المبكر من قبل فرنسا وبريطانيا لإقامة دولة لليهود في فلسطين عن قرار سياسي بعدم “دمج” اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها. وعليه، فإن التشريعات المرنة التي كانت تغري اليهود بالاندماج، كانت هي الاستثناء، لا القاعدة، وكما يقول غسان فإنها كانت تصطدم بقرار متطرف من قيادات اليهود برفض الاندماج.[19]
فقد استغلت، إلى أبعد حد، القوة التي كانت تمثلها طبقة يهودية ذات امتيازات اقتصادية ومالية خاصة، للضغط في الاتجاه العنصري المضاد والمتطرف، وجوبهت – بواسطة هذه الطبقة- الحقوق التي منحت لليهود بالرفض وراء حجج دينية وعنصرية واهية. [20]
واذا أخذنا دزرائيلي (اليهودي الروائي من جهة ورئيس وزراء أول دولة رأسمالية في العالم من جهة ثانية) كمثال، نجد أن الأوساط الرأسمالية – الليبرالية الحاكمة في أوروبا القرن الماضي، كما هو الحالي، كانت تعمل على عدم دمج اليهود، وبالتالي تتقاطع هنا بوضوح كل من المناداة بدولة يهودية مع المذابح التي مورست ضد اليهود في أوروبا الشرقية ولاحقاً في ألمانيا الهتلرية، كل لا يريد اندماج اليهود ولكن بطريقته. وللوصول إلى قطيعة مطلقة من جهة، والى دفن كامل من جهة ثانية لفكرة الدمج، فإن الأدب الصهيوني قرر إجراء قطع تام مع الماضي، حتى في الوقت الذي لم يصبح الدمج فيه بكل تلك الخطورة، أي في الوقت الحالي.
“يمثل العجوز يهودي الدياسبورا والماضي اليهودي عموماً، بينما توحي عملية دفنه بالطريقة التي تصرف بها الاسرائيليون تجاه ماضيهم.. فاليهودية الارثوذكسية تنتمي الى الماضي الذي حاول الاسرائيليون دفنه والقطع معه، والصهيونية تنتمي إلى الماضي الذي يحمله الآباء على كواهلهم ويهزأ منه الأبناء. والدياسبورا تنتمي إلى الماضي الذي هرب منه اليهود الى إسرائيل نحو مستقبلهم”[21]
لخص ناحوم جولدمان السبب الحقيقي لظهور الحركة الصهيونية في خطاب بعنوان “80 عاماً من الصهيونية” عام 1978 على النحو التالي:
“السبب الحقيقي لخلق الحركة الصهيونية الحديثة كان الخوف على بقاء ومستقبل شعبنا بعد الانعتاق في القرن التاسع عشر والانتهاء الفعلي لاضطهاد اليهود” [22]
يقول حسن خضر، ربما لم نعثر على وصف للمجتمع اليهودي قبل عصر الانعتاق أفضل من الوصف الذي أطلقه عليه يسرائيل شاحاك :” أحد أكثر المجتمعات المغلقة إنغلاقاً، وأحد أكثر المجتمعات استبداداً في التاريح البشري برمته”.[23]
أما من الناحية العملية، فلعل النموذج المضاد للدمج، أي النموذج الذي نجح في تجاوز الدمج هو نموذج هرتسل الذي أسماه “التابع الكولونيالي” .. هذا ما يوضحه نوردوا مساعد هرتسل بقوله:
“تشير طموحاتنا إلى فلسطين كما تشير البوصلة إلى الشمال، لذا، يجب أن نوجه أنفسنا تجاه الدول التي تقع فلسطين في نفوذها”[24]
لكن رفض الدمج لا يمكن أن يكون بدون مظلة تحمي اليهود، وتتعهد نقلهم إلى فلسطين وحمايتهم هناك. ولا بد لهذه القوة أن تدرك هي أيضاً لماذا تقوم بكل هذه الخدمات لليهود، الذين على أية حال لم يكونوا أبداً أولئك البشر المحببين لدى الأوروبيين. فالمركزانية الأوروبية ولا سيما في ظل الرأسمالية لم تكن لتحتضن اليهود لدرجة “ضمان” مشروع وطن قومي لهم في فلسطين، ما لم يكن وراء ذلك استثمار استيراتيجي. هذا ما أدركه هيرتسل عندما كتب:
“سنقيم هناك جزءاً من جدار دفاع عن أوروبا في آسيا ونكون مركزاً متقدماً للحضارة ضد البربرية، وسنبقى كدولة محايدة على اتصال دائم بأوروبا التي عليها ضمان وجودنا”.[25]
واذا كانت مساعدة أوروبا لليهود ممكنة في ظرف ما، فإن ضمان أوروبا لوجود دولة يهودية لا يمكن أن يحصل إلا إذا لعبت هذه الدولة دوراً يساوي فواتير الحفاظ عليها ويزيد.
- كاتب عربي من فلسطين.
[10] انظر امنون راز – كركوتسكين، متدينون وعلمانيون في اسرائيل: الصهيونية، الثيولوجيا، وازدواجية القومية. في الكرمل العدد 51، ربيع 1997، ص203. امنون راز، استاذ التاريخ اليهودي في جامعة بئر السبع.
[11] انظر عادل سمارة، الدولة ثنائية القومية، والحكم الذاتي الثقافي ودولة لكل مواطنيها مشاريع حلول صهوينية للقضية الفلسطينية، في مجلة كنعان، العدد 85 ، نيسان 1997، ص 43.
[12] نفس المصدر ص 204
[13] News From Within,1996 انظر، يوحنان لوروين، مقابلة مع دانييل بويارين في مجلة: بويارين هو اسرائيلي، يعمل حالياً أستاذاً للدين اليهودي في جامعة بيركلي.
[14] نفس المصدر ص 35
[15] نفس المصدر ص 23
[16] نفس المصدر ص 23
[17] هوية الآخر، مصدر سبق ذكره، ص59
[18] انظر مقال يئير شيلج، دولة واحدة لشعبين، المنشور في كول هعير 31-1-1997
[19] انظر” في الأدب الصهيوني”، ص47-ص65
[20] نفس المصدر ص 55-56 مقتطف من Elmer Berger, The Jewish Dilemma New York The Diven, Adir Co.1946
[21] هوية الآخر، نفس المصدر، ص 61.
[22] Akiva Orr, The un je wish State: Politics of Jewish Identity in Israel London Ithaca Press, 1982, p.10 من حسن خضر، هوية الآخر، ص 69.
[23] يسرائيل شاحاك: الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود، ترجمة حسن خضر، بيادر، دائرة الثقافة م.ت.ف عدد 6، صيف 1991 عدد 7/8 1992، ص128- 130.
[24] نوردو ماكس في بريشيت من حسن خضر، هوية الآخر، مصدر سبق ذكره، ص 179
[25] ثيودور هيرتسل: الدولة اليهودية، ص 29، عن بريشيت في حسن خضر، ص 180
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.