3 نوفمبر 2004
ملاحظة من “كنعان”:
نعيد نشر هذا المقال، الذي نشر عام 2004 لتسليط الضوء على خلفية الصراع في هايتي وثبات المخططات الإمبريالية الأميركية ضدها.
“كنعان”
- ● ●
“لم يستطعوا سوى قطع جذع الشجرة.
أما فروعها فسوف تبرعم من جديد لأن جذورها
كثيرة وعميقة”
توسان لوفيرتير(1804)
زعيم الثورة الهاييتية حين نفته فرنسا
الى احد جبالها حيث وافته المنية
(1)
لن يكتب للرئيس الهاييتي اريستيد، هذه المرة، أن يعود الى جزيرته على متن نفّاتة عسكرية امريكية كما سبق له أن عاد عام 1994. فليست الاطاحة بالرئيس اريستيد وأزمة هاييتي المنكوبة وليدة الساعة، بل هو حصيلة تراكمية لمخطط وسياسات تعود بتاريخها الى ما قبل إستيلاء الرئيس الأميركي بوش الابن على البيت الابيض (مع عدم التقليل من اهمية وصول المحافظين الجدد الى البيت الابيض وتأثيرهم على مسيرة الاحداث).
قد لا يرى الكثيرون في أحداث هاييتي الساخنة وتداعياتها أمرا مستجهنا أو أكثر من حلقة جديدة في مسلسل “الغزوات” الامبريالية ألاميركية التي أدمنت عليها البشرية. وهذا صحيح. فلا شك انها حلقة جديدة في مسلسل هيمنة النظام الواحد والامبراطورية الكبرى، هذه المرة في الكاريبي. وربما لن تكون الحلقة الاخيرة: فهناك الازمة في فنزويلا التي لا تزداد الاّ غليانا وتعقيدا، وهناك كوبا التي لم يتوقف اليانكي الامبريالي عن نهش جسدها على مدى اربعة عقود و….هناك سوريا وربما البرازيل و…الخ. ولم يتنظر جيش الامبراطورية لدم بغداد أن يجف حتى نزلت الماينز شواطئ هاييتي ذلك البلد الاسود الصغير الذي لم يحظى إلاّ بوسام أفقر بلد في نصف الكرة الغربي.
(2)
لعل تجربة أريستيد تؤكد تكرارا الدرس الذي تعلمته الشعوب بوضوح: إن لم تنصاع الحركات الديمقراطية والساعية الى التغيير في بلدان العالم الثالث لاوامر السيد الابيض في واشنطن، فلن يكون مصيرها سوى الزوال. وهذا هو بالتحديد ما يفسر العداء الاميركي المتواصل على مدى قرنين لنصف الجزيرة هذه التي حازت على إستقلالها عام 1804. فليس مصير أريستيد (وغيره)، إذن، سوى الثمن التي تدفعه الشعوب الملونة وقياداتها حين تعلن العصيان وتختار الصمود والمقاومة: أي عندما تعجز عن إقامة “التوازن” في علاقاتها مع سياسة البيت الابيض أو التعامل مع “النخبة” المحلية المرتبطة بالمركز الراسمالي. ولعله ليس من باب المغالاة القول بان الرجل قد ذهب “كبش فداء” لعصيانه لاملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين لهول ما رأى من آثارها المدمرة على إقتصادات العالم الثالث ولادراكه بانها ستجر بلاده الى الهاوية السحيقة. ألم يكن اريستيد صاحب القول الشهير:” أن الرأسمالية خطيئة”. ويومها لم ترأف به إكليريته الكاثوليكية ولا ثيولوجية التحرير التي اعتنقها ونادى بها. وبين هذا وذاك يكمن قرار الغرب الرأسمالي في معاقبة و”تنحية” الرجل العاصي.
وقد يشاطر المرء منتقدي اريستيد ونظامه الرأي وتعدد الاخطاء في ادارة البلاد، كما فعل منتقدو الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، الاّ أن الاطاحة باريستيد كانت قادمة كما كانت الحرب على العراق حتى لو عاد أريستيد قدّيسا.
قد لا يكون أريستيد بالنسبة لهاييتي، كما يحاجج بعض الناقدين، ما مثله مانديلا لجنوب أفريقيا. وهم في هذا محقّون مهما أختلفت معايير المقارنة. الاّ أن اريستيد اصطف منذ البداية وعلى مدى مسيرته مع فقراء هاييتي. ومن الجائز أن الرجل لم يملك “الحنكة” السياسية ولا الكازمية الشخصية لمقارعة اليانكي الامبريالي المتربص، الاّ أنه كان الرئيس الهاييتي الاول والأوحد المنتخب بطريقة ديمقراطية. لقد آمن أريستيد بالحرية والديمقراطية وثيولوجية التحرير وشاطر الفقراء والمهمشين نضالاتهم ومعاناتهم. وعندما وضعه بابا الفاتيكان أما الخيار، خلع أريستيد ثوب الكاثوليكية واختار درب النضال مع شعبه.
(3)
هاييتي: ثور العبيد المستعصية
لا تنوى هذه المقالة معالجة شتّى ابعاد ألازمة في هاييتي، بل تتوخى خدش السطح لبعد هام: البعد العنصري. وليس المقصود بالطبع ان هاييتي تستفرد بهذا دون غيرها من شعوب المنطقة التي ذاقت الامرين منذ أن حلّ الرجل الابيض شواطئها. بل لأن تلك الجوانب هي التي يعمد الاعلام الرأسمالي دوما الى التعتيم عليها. وبعيدا عن الافتتان الاعلامي بتفاصيل الحدث فان الجوانب الاساسية في المعركة الهاييتية تؤكد مجددا أن الغرب الراسمالي ما زال يغرس أنيابه ناهشا لحم الفقراء والسود والملونين في هذا العالم. وأن هذه الحقيقة لم تتغير كثيرا في حقبة العولمة، سوى من حيث الشكل واسلواب الاداء.
إندلعت ثورة الزنوج في هاييتي عام 1791 عندما ثار نصف مليون افريقي أسود ضد الاحتلال الفرنسي الذي دام قرنا من الزمن. وكانت فرنسا قد “ورثت” هاييتي عن الاستعمار الإسباني الذي ارتحل عنها عام 1697 بعد أن احتلها منذ أوائل القرن السادس عشر. وبرعت فرنسا أكثر من سلفها في استجلاب “العبيد” من أفريقيا للعمل في مزارع قصب السكر والبن مما جعل هاييتي أغنى مستعمرة في القرن الثامن عشر.
انتصر ثوار هاييتي على جيش نابليون، أعتى الجيوش الاستعمارية في التاريخ الحديث، وأعلنوا هاييتي دولة مستقلة ذات سيادة في الفاتح من يناير 1804. وجاء الرد الاميركي آنذاك فوريا ومعبرا عن الموقف العنصري الاستعماري الابيض والذي لم يتغير في جوهره منذ ذلك الحين:
ـ فقد ساندت الولايات المتحدة،(التي كانت “ثورتها” قد انتصرت قبل ذلك باعوام قليلة – عام 1776)، فرنسا البيضاء في احتلالها لهاييتي وحربها مع الثوار على مدى سنوات الثورة الهاييتية 1791-1804.
ـ وعندما ظفر ثوار هاييتي بالنصر وأعلنوا استقلال الجزيرة، رفض جورج واشنطن ووزير خارجيته آنذاك توماس جافرسون (كلاهما اسياد وملاّك “عبيد” كبار) الاعتراف بالدولة الفتية. وكيف “يليق” بالابيض الاعتراف بثورة تقيم أول جمهورية سوداء وثاني جمهورية في نصف الكرة الغربي.
وهكذا كانت ثورة هاييتي (أ) ثورة الزنوج الاولى في التاريخ الحديث ضد الاحتلال الاوروبي الابيض و(ب) الثورة السوداء الاولى التي تلت الثورتين الاميركية (1776) والفرنسية (1789). ومع أن هذه الثورة، التي قادها “العبد” الأسود توسن ليفرتير((Toussaint L’Ouverture، قد تأثرت بمبادئ الثورة الفرنسية في “الحرية والمساواة والاخوة”، الاّ أنها جاءت لتؤ كد أن هذه المبادئ تنطبق على كل البشر على إختلاف ألوانهم وأجناسهم وليست حكرا على الجنس الابيض. وبهذا جاءث ثورة هاييتي من حيث الجوهر، خارج سياق الثورتين الاميركية والفرنسية حيث جاءت عاصية متمردة على هاتين الثورتين ومعرّية لعنصريتهما التي تغلفت بمبادئ المساواة بين البشر. لم تسعى هاتان الثورتان (ولعله يجدر إضافة المؤسسة الكنسية شبه الحاكمة آنذاك والتي وطدت نفسها مرجعية أخلاقية ولاهوتية لتلك المبادئ)، لم تسعى الى تحقيق تلك المبادئ لغير الجنس الابيض. فلم تطالبا بالغاء العبودية وتحقيق المساواة بين البشر بكافة اجناسهم واعراقهم، بل على النقيض انطلقتا في حملات استعمارية، مع غيرهما من دول اوروبا الكولونيالية البيضاء، سعيا وراء السوق والموارد الطبيعية والايدي العاملة السمراء في بلدان أسيا وافريقيا.[1]
تحدّت الثورة الهاييتية للمرة الاولى في التاريخ الحديث كل مفترضات ومفاهيم المركزانية الاوروبية ووقفت يشجاعة لتقول ان مفاهيم المساواة والعدالة هذه إنما تقوم “فوقية” اروربا البيضاء ودونية السود والملونين. ولهذا أشاعت هذه الثورة الجزع في اوساط المؤسسات الحاكمة في الولايات المتحدة وغيرها فأقسمت مع غيرها من الدول الاستعمارية بانها لن تسمح بتكرار هذه التجربة. وشهدنا على مدى قرنين من الزمن تحالفا بين المصالح الرأسمالية الجشعة من جهة والمخاوف العنصرية البيضاء من جهة اخرى، رغم محاولتها إخفاء ايديولوجيتها العنصرية، من أجل الحيلولة دون سيادة وتنمية وازدهار هاييتي. لم يتوقف الامر عند رفض ألولايات المتحدة الاعتراف بالدولة الفتية السوداء، بل بقيت هاييتي مستهدفة تحاك ضدها المؤامرات واحدة تلو الاخرى. (راجع جدول رقم 1)
بقي ان نقول في الخاتمة، ان العبرة من أحداث هاييتي والاطاحة برئيسها أن الغرب الراسمالي لم ولن يتورع عن الاطاحة بالديمقراطيات والقيادات المنتخبة ديمقراطيا والتي تلقى دعما من شعوبها وجماهيرها في دول المحيط في العالم الثالث، سواء احتاج الامر تدخلا عسكريا أو باستخدام وسائل المخابرات والعملاء المحليين والاقتصاد والبنك الدولي…الخ. وليس هذا بالامر الجديد. أما ما يجب التنبه له واستنباطه من احداث هاييتي وفنزويلا واحتلال العراق وغيرها بأن الاستراتيجية الاميركية في حقبة العولمة (سواء احتل البيت الابيض رئيس ديمقراطي أم جمهوري) تسترشد برؤية واضحة ومحددة عملت بها الإدارات الاميركية أكثر من مرة وفي أكثر من بقعة. وتقوم هذه الرؤية على:
ـ ان “تغيير أنظمة الحكم” والاطاحة بالقيادات في العالم وخاصة دول المحيط في العالم الثالث، حتى المنتخبة منها، يبدأ بزعزعة اقتصاد البلد وانهاكه عن طريق تسديد الضربات المتتالية له. [2] وما أن يتم ذلك، حتى تصبح مهمة تغيير الانظمة والقضاء عليها مهمة سهلة. (وهنا يكمن دور صندوق النقد والبنك الدوليين).
ـ في ظل هذه الظروف، وفي غياب سيادة اقتصادية لا تعدو التنمية الاقتصادية والاجتماعية سوى وهما وسرابا.
جدول رقم 1
كرونولوجيا الصراع
ثورة هاييتي 1791 – 1804: الحرب ضد الاستعمار الفرنسي 1791-1804 الى أن أنتصرت الثورة واعلنت استقلال هاييتى عام 1804.
1862: إعترف ابراهام لنكولن بجمهورية هاييتي (ولعله لم يملك خيارا آخر وهو الزعيم الذي “الغى” العبودية.
1888: بعثت الولايات المتحدة بجيشها الى هايتتي ردا على احتجاز السلطات الهاييتية لسفينة اميركية حطت على شواطئ الجزيرة بطريقة غير شرعية. ولم تتوقف التدخلات الاميركية (العسكرية وغيرها) حيث أصابها الادمان منذ ذلك الحين على التدخل في اوضاع هذه الجزيرة المغلوبة على أمرها.
1891: نزل المارينز الاميركيون شواطئ هايتتي من أجل “حماية سلامة المواطنيين والممتلكات الاميركية” من أنفلات ثورة العمال السود الهاييتيين.
1934: أرادت الولايات المتحدة الاميركية، وذلك عامين قبل ان تتدخل في الحرب العالمية الاولى، السيطرة على الممر المائي الاستراتيجي وطريق التجارة الرئيسي الى المحيط الهادئ عبر قناة بنما. فقامت بانزال المارينز (1915) “لضبط العصابات” ووضع حد للاضطرابات واحتلت هاييتي لمدة عقدين غادرتها بقرار من الرئيس روزفلت (1934) بعد ان سلمت مقاليد الحكم الى زمرة من القتلة والمجرمين ـ “خريجي” الدورات العسكرية والاستخبارية.
عهد دوفيليي 1956 ـ 1986:هيمنت هذه الزمرة على البلاد حتى ظهور ديكتاتور هاييتى Duvallier والذي احتكر الحكم رئيسا لهاييتي “مدى الحياة”. وبعد وفاته عام 1971، إنتقل الحكم “بالوراثة” الى ابنه جان كلود Jean Calude والذي لم يكن قد بلغ من العمر آنذاك سوى تسعة عشر عاما، والذي استفرد بالحكم حتى اطيح به عام 1986 فرّ بعدها الى الولايات المتحدة مصطحبا معه ملايين الدولارات التي نهبها من ثروات البلاد. تميزت هذه الحقبة بخطاب الاب وابنه في “محاربة الشيوعية” وباسلوب القمع الوحشي العسكري بتمويل ودعم الولايات المتحدة.
1987 ـ 1990: صادقت هاييتي عام 1987 على دستور ينص على إنتخاب الرئيس والبرلمان. وهكذا أصبح جان بيرتران أرستيد، الكاهن الكاثوليكي، أول رئيس منتخب للبلاد عام 1990. استمر أرستيد في الحكم تسعة أشهر عندما اطاح به انقلاب عسكري بقيادة الجنرال راؤول سيدراس بدعم وكالة المخابرات المركزية الاميركية CIA. وقد كانت سنوات 1990 ـ 1994 من أكثر المراحل دموية وقمعا في تاريخ هاييتي اتسمت، بالاضافة الى تصفية كافة أشكال المعارضة وإبادة الألاف من الاحرار، بنهب خيرات وثروة البلاد وإفقار الفقراء والمهمشين والطبقات الشعبية.
عودة أريستيد عام 1994: “بدعم” من الرئيس الاميركي كلينتون وخمسة وعشرين الفا من جنوده، استعاد الرئيس اريستيد حكمه. ثم انتخب لولاية ثانية عام 2000 كان من المفروض أن تستمر حتى عام 2006. أما الطغمة العسكرية فقد فرّت الى جمهورية الدومينيكان المجاورة (النصف الآخر من الجزيرة) حيث تابعوا تآمرهم “وتدريبهم” العسكري على ايدي “القوات الخاصة” الاميركية العاملة هناك وفي الإكوادور وعدد من بلدان الكاريبي واميركا الوسطى واللاتينية، بانتظار اللحظة المؤاتية للانقضاض على السلطة في هاييتي والتي نشهدها اليوم.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
[1] يا للمفارقةّ! في حين “تتازع” فرنسا والولايات المتحدة على اقتسام غنائم العراق، نرى اليوم الجنود الفرنسيين والاميركيين “يتبخترون” جنبا الى جنب في شواراع هاييتي! الا يشد هذا ذاكرتنا الى الماضي/الحاضر الى الاستعمار في “قديمه” و”حديثه” والى خلاف “اللصوص” بعد الاستيلاء على الغنيمة.
[2] الامثلة على ذلك كثيرة: العقوبات ضد العراق على مدى 21 سنة قبل احتلاله، إملاءات الصندوق الدولي على الفيدرالية اليوغسلافية قبل تفكيكها ومن ثم على جمهورياتها فرادى وتقديم القروض والمساعدات الاقتصادية مشترطة “بالانفصال” عن الفيدرالية، الحصار الاميركية على كوربا منذ اوائل ستينات القرن المنصرم، اضافة الى تدمير اقتصاد الارجنتين وما يتم اعداد للاطاحة بالرئيس تشافس في فنزويلا….الخ