من المتوقَّع أن تتجاوز الصين «الولايات المتحدة» لتصبح أكبر اقتصاد في العالم. الطبقة العاملة الصينية هي الأكبر في العالم. وفي غضون سنوات قليلة، من المرجَّح أن تصعد في الصين حركة كفاحيّة من الطبقة العاملة. كما أنّ الصين هي أكبر مستهلك للطاقة في العالم، وأكبر الباعثين لغازات الاحتباس الحراري. ولذلك، فإن الصين هي في قلب التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العالمية المعاصرة.
معيَّنة من الظروف التاريخية لتعمل وتتطور. ومع تطور الشروط التاريخية وتغييرها، نصل، عاجلاً أم آجلاً إلى نقطة تصبح عندها الشروط غير متوافقة مع الاشتغال العادي للنظام، ولا يعود النظام بعدها قادراً على العمل وفقاً لقوانين الحركة الأساسية الخاصة به، ويجب استبداله بنظام جديد (أو عدة أنظمة أخرى).
الصين وأزمة القرن الحادي والعشرين
تقوم الرأسمالية على السعي وراء تراكم لا نهائي لرأس المال، مدفوعٍ بالسعي لتحقيق الربح. وللتشغيل العادي للنظام الاقتصادي الرأسمالي لا بدّ من معدلات ربح عالية ومستقرة، والتي كانت ممكنة تاريخياً بفضل الإمداد الوفير والرخيص من العمالة والطاقة والموارد المادية والضرائب.
ومع ذلك، فإن تطور الرأسمالية قد غيَّر البُنى الاجتماعية. على مدار التطور الرأسمالي، كان هناك ميلٌ متنامٍ إلى البَلتَرة المتزايدة للقوى الكادحة (تحويلهم إلى بروليتاريا، أيْ عمَّال بِأَجر). ومقارنةً بالقطاعات الأخرى من السكان العاملين، تتمتع الطبقة الكادحة البروليتاريّة بقدرة أكبر على التنظيم. وبما أن غالبية القوى الكادحة تصبح بروليتاريّة وتتنامى مَطالِبُها من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فهناك ميلٌ لارتفاع تكاليف العمالة والضرائب نسبةً إلى قيمة الناتج الاقتصادي، مما يخفِّض من معدَّل الربح الرأسمالي.
تاريخياً، كان الرأسماليون يستجيبون لارتفاع تكاليف العمالة والضرائب عن طريق نقل رأس المال إلى مناطق جديدة، حيث القوة العاملة أرخص وأكثر وفرة. ويبدو أنّ الصين ربّما تكون آخر منطقة جغرافية كبيرة يمكن أن تؤمّن قوّة عاملة رخيصة ووفيرة إلى جانب الشروط الضرورية الأخرى المطلوبة لتراكمٍ فعَّال لرأس المال. ومع بدء الطبقة العاملة الصينية في المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فإن تكلفة العمالة الصينية، والعالمية أيضاً، سوف تميل إلى الارتفاع. وليس ثّمَّة منطقة جغرافية كبيرة أخرى يمكن لرأس المال العالمي أن ينتقل إليها.
إنّ السعي وراء نمو اقتصادي لانهائي هو السمّة المميزة للرأسمالية الحديثة. لكن النمو الأُسّي للإنتاج والاستهلاك المادّي قد استنزف الموارد الطبيعية وأدى إلى تدهور البيئة. الكثير من الحيز البيئي الكوكبي قد تمّ استغلاله خلال النصف الثاني من القرن العشرين، من أجل التوسع الرأسمالي. في أوائل القرن الحادي والعشرين، وأصبحت العديد من الأنظمة البيئية العالمية على وشك الانهيار. ولا سيّما الكارثة المناخية الوشيكة التي تهدّد بتقويض أسس الحضارة البشرية.
تشير هذه التطورات إلى أن الظروف المختلفة، التي كانت تاريخياً تعزز الاشتغال العادي للمنظومة الرأسمالية العالمية، قد تغيّرت، وتتغيّر، بشكل جذري، ولم يعد ممكناً استمرار القوانين الأساسية لحركة الرأسمالية.
في سبعينيات القرن الماضي، كانت الصين واحدة من ساحات المعارك الرئيسة في الصراع الطبقي العالمي. ومهَّدت هزيمة الثوريِّين الماويِّين الطريقَ أمام انتقال الصين إلى الرأسمالية، وربما كانت عاملاً حاسماً في تقرير نتائج الحرب الطبقية العالمية في أواخر القرن العشرين. وفي السنوات القادمة، ستعود الصين مرة أخرى ساحةً رئيسةً للصراع الطبقي العالمي. وانتصار أو هزيمة الطبقة العاملة الصينية قد يقرِّرُ إلى حدّ كبير كيف سيتم حلّ الأزمة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
على وشك أزمة كبيرة
كون الاقتصاد الصيني اقتصاداً طرفياً كبيراً متخصِّصاً في الصادرات الصناعية، فمن الضروري بالنسبة للصين أن تحافظ على استثمارات ضخمة في المعدات الصناعية والبنية التحتية. أدى الارتفاع الكبير لمستوى الاستثمار في الصين إلى انخفاض معدل الربح فيها. ومع ارتفاع تكاليف الأجور والضرائب ورأس المال، دخلت الرأسمالية الصينية في حقبة «اعتصار الأرباح» مما أدى إلى المزيد من الانخفاض في معدل الربح.
ومن التجربة التاريخية للرأسمالية البريطانية والأمريكية يُستَنتَج بأنّه غالباً ما كانت تحدث أزمةٌ كبيرة عندما ينخفض معدل الربح العامّ في الاقتصاد إلى أقل من 10 في المائة. من المرجَّح أن ينخفض معدل الربح العام للاقتصاد الصيني إلى 10% اعتباراً من العام 2020 مما سيؤدي إلى أزمة اقتصادية كبرى. ولكن مع الارتفاع السريع في نسبة دَين الصين إلى ناتجها المحلي الإجمالي، فإن حدوث أزمة مالية واقتصادية كبرى قبل العام 2020 هو احتمال وارد أيضاً. ونظراً إلى الوزن الاقتصادي الحالي للصين، فإنّ أزمةً كبرى في الاقتصاد الصيني من المؤكَّد أنها ستجرّ الاقتصاد العالمي إلى الرّكود القادم، الذي قد يكون أكثر ضرراً بكثير من الركود الكبير في 2008–2009.
في الماضي، استطاعت الرأسمالية العالمية التعافي من الأزمات الكبرى من خلال القيام بإعادة هيكلة دون تغيير الإطار المؤسَّساتي الأساس للرأسمالية. ولكن، في القرن الحادي والعشرين، سيكون على الرأسمالية العالمية أن تواجه ليس فقط التناقضات الاقتصادية والاجتماعية التقليدية، بل وكذلك التناقضات الإيكولوجية (البيئويّة) المتصاعدة بسرعة.
القيود الإيكولوجية على التراكم الرأسمالي في الصين
على المدى القصير والمتوسط، يحتاج الاقتصاد الرأسمالي الصيني إلى معدل نمو أكثر من 5% للحفاظ على استقرار اقتصادي. ولكن نموّه وفق معدَّل كهذا (أي: أكثر من 5% سنوياً)، يعني أنّ طلب الصين على النفط، والغاز الطبيعي، والفحم، من المرجَّح أن يفرض على أسواق الطاقة العالمية عبئاً لا يمكنها تحمّله في السنوات القادمة. وسيظل الطلب على المياه في الصين أعلى من كمية موارد المياه العذبة المستدامة بيئياً. ومن غير المتوقَّع أن تتحسّن في السنوات القادمة سوى مؤشرات قليلة فقط لتلوث الهواء (كانبعاثات ثاني أوكسيد الكبريت مثلاً).
وبافتراض أن الصين يحق لها السماح بنسبة 20% من إجمالي ميزانية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم، فإنّه لم يعد ممكناً عملياً أن تفي الصين بمتطلّبات استقرار المناخ اللازمة لكبح لجام ارتفاع درجة حرارة كوكبنا إلى ما دون درجتين مئويَّتين. ولتجنب أسوأ الكوارث المناخية، يجب أن تصل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من الصين إلى ذروتها بحلول العام 2030 وأن تنخفض بسرعة بين عامي 2030 و2050. ويقتضي خفض الانبعاثات المطلوب حدوث انخفاض حادّ في معدّل النمو الاقتصادي للصين بحلول العقد الثالث (2020– 2030)، وربما يتطلّب نمواً اقتصادياً سلبياً بحلول العقد الرابع (2030– 2040). وبعبارة أخرى، فإنّ المتطلبات الأساسية لاستقرار المناخ لا تتوافق أساساً مع الاشتغال العادي للاقتصاد الرأسمالي الصيني.
العالم يسير نحو احترارٍ يزيد عن درجتين مئويتين
للحد من الاحترار العالمي على المدى الطويل، إلى ما لا يزيد عن 2 درجة مئوية، يحتاج العالم إلى اتباع مسار الانبعاثات 2,6 RCP (وهو رمز السيناريو الأول والأفضل من بين أربعة سيناريوهات لسيرورة ونتائج الدفيئة حتى العام 2100 وفق تصنيف دولي اعتمده علماء البيئة). وتحقيقه يحتاج إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 3% سنوياً من العام 2012 وحتى 2100.
وتعتمد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمي على مستوى الناتج الاقتصادي الإجمالي العالمي، وعلى شدّة الانبعاث المتربطة به، وهذه الأخيرة تُعَرَّف بأنها نسبة: انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في العالم على الناتج المحلي الإجمالي. ومن ذلك تُستَنتَج المعادلة التالية:
معدل تخفيض انبعاثات CO2= معدّل تخفيض شدّة الانبعاث- معدل النمو الاقتصادي العالمي.
إذا كان الاقتصاد العالمي ينمو بنسبة 3% سنوياً، وكان معدَّل تخفيض الانبعاثات المطلوب هو 3%، فإن معدل تخفيض شدة الانبعاث، وفق المعادلة أعلاه، يجب أن يكون 6%، فهل هذا ممكن؟!
الحلّ تكنولوجي أم سياسي؟
من الحقائق الأساسية التي غالباً ما يهملها المتفائلون في التكنولوجيا، هي: أن الاقتصاد العالمي الحالي قائمٌ على بنية رأسمال تحتية شديدة الاعتماد على الوقود الأحفوري. وبغض النظر عن سرعة تقدّم التكنولوجيات الجديدة، فإن معظمها بحاجة إلى دمجها في مبانٍ ومَعدّات جديدة. لكن السلع الرأسمالية الحالية تدوم لسنوات عديدة ولا يمكن استبدالها إلّا ببطء؛ إذ يتم عادةً استبدال 4– 5% من المخزون الرأسمالي القديم كل عام.
لنفترض أن نسبة 5% من المخزون الرأسمالي القديم (مثل: الآلات ومولِّدات الطاقة) قد استُهلِكت وأنَّ استثماراً رأسمالياً جديداً يحلّ محلّها. في هذه الحالة، لا يوجد نمو في مخزون رأس المال. ولنفترض أن المخزون الجديد ينطوي على تكنولوجيات مبتكرة بحيث يسبب المخزون الجديد شدة انبعاثات أقل بـ 50% من تلك الناجمة عن القديم. وهذا يكافئ تقريباً الافتراض بأن جميع محطات الطاقة الكهربائية الجديدة لا تطلق أيّة انبعاثات (أي: أنْ تكون ذات انبعاث صِفري. وتجدر الإشارة إلى أنّ محطات الكهرباء الحالية تسهم بنحو 40% من إجمالي انبعاثات غاز CO2). لكن المخزون الرأسمالي الجديد لن يمثل سوى 5% من إجمالي المخزون، وستظل 95% الباقية تستخدم التكنولوجيات القديمة. وبالتالي، بالنسبة لكامل الاقتصاد، فإنّ شدة الانبعاث الوسطية الجديدة تصبح أقل بنسبة 2,5% فقط مقارنة بالقديمة (5% X 50% = 2,5%).
لنفترض الآن أن الاقتصاد ينمو بنسبة 3%. لدعم النمو الاقتصادي ينمو مخزون رأس المال بنسبة 3%، ويصبح المخزون الجديد يشكّل 8% من المخزون الإجمالي (استبدال 5% من القديم + نمو صافٍ 3%). ومن جديد بافتراض أنّ المخزون له شدّة انبعاث تبلغ 50% مما كانت عليه لدى القديم، عندئذٍ فإنّ شدة الانبعاث للاقتصاد بأكمله ستنخفض بنسبة 4% (8% X 50% = 4%). ولكن معدّل النمو الاقتصادي هو 3% وبالتالي، ووفقاً لهذا الافتراض سينخفض إجمالي الانبعاثات بنسبة 1% فقط، لا أكثر.
وفي الواقع، من المستبعد جداً أن يشتمل المخزون الرأسمالي الجديد على تكنولوجيات جديدة قادرة على إنقاص شدّة الانبعاث بنسبة 50%. إذ تشير معدلات خفض الانبعاثات الملحوظة في الاقتصاد العالمي بالنسبة لمخزون رأس المال الجديد إلى تخفيض لم يستطع أن يزيد عن 25% في أحسن الأحوال.
ينتج من المحاكمة المنطقية السابقة: أنه من المستحيل على الاقتصاد الرأسمالي العالمي أن يحقّق معدّل تخفيض سنوي في شدة الانبعاثات بنسبة 6% على مدى عدة عقود طويلة من الزمن. وبالتالي، فإنه في ظل ظروف النمو الاقتصادي اللامحدود، لا يمكن للعالَم تحقيق ذلك المستوى من تخفيض الانبعاثات الضروري لإنجاز الهدف الآمن، ألا وهو الحدّ من الاحترار العالمي بما لا يزيد عن درجتين مئويتين مقارنةً بالعصر ما قبل الصناعي. وفي الواقع، حتى لو التزم العالَم على الفور بنمو اقتصادي صفري، فإنه سيكون من المستحيل تقريباً تحقيق معدل سنوي لخفض الانبعاثات بنسبة 3% سنوياً من الآن (كلام الكاتب منذ العام 2016) وحتى نهاية القرن الواحد والعشرين.
ومع اقتراب الاحترار العالمي من درجتين مئويّتين، فإن بعض أشكال تغير المناخ الخطير لن يكون ممكناً تجنّبها بحلول النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين. لكن السؤال هو: ما إذا كان يمكن للإنسانية أن تتجنَّب أسوأ الكوارث المناخية التي قد تدمّر الحضارة البشرية؟ ربما يعتمد الجواب جزئياً على كمية الوقود الأحفوري المتاحة القابلة للاستثمار الاقتصادي.
نهاية عصر النفط؟
في مراجعة «مشهد الطاقة السنوي» لعام 2014، توقَّعت «إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، EIA» أنّ إنتاج الولايات المتحدة من النفط سيصل إلى ذروته في 2019. وفي دراسة مستقلة (2014) قام ديفيد هيوز، وهو عالم جيولوجي وزميل باحث في معهد بوست كاربون (ما بعد الكربون)، بدراسة «مسارح» النفط الصخري باستخدام بيانات الإنتاج التفصيلية (يشير مصطلح «المسرح النفطي» إلى مجموعة من حقول النفط في منطقة جغرافية تشترك بظروفها الجيولوجية). ووجد هيوز أن إنتاج النفط الصخري الأمريكي من مسارحه الرئيسة سوف يصل إلى ذروته قبل العام 2020، ومن المرجَّح أن تكون معدلات إنتاج النفط الخام بعد عام 2020 أقل بكثير مما توقَّعه معهد EIA.
من المرجَّح أن تتزامن ذروة إنتاج النفط في الولايات المتحدة مع ذروة إنتاج النفط العالمي. عندما يتأخّر إنتاج النفط العالمي عن تلبية الطلب المتزايد سترتفع أسعاره مجدَّداً، مما سيسرِّع الركود الاقتصادي العالمي القادم.
إذا دخل إنتاج النفط العالمي في حالة من التراجع الدائم، ما بعد عام 2020، فإن الاقتصاد الرأسمالي العالمي سوف يواجه صعوبات انخفاض معدلات النمو الاقتصادي. وبما أنّ المنظومة قائمة على تراكم لا نهائي لرأس المال، فإنّها تحتاج إلى مستوى معيَّن من معدل النمو الاقتصادي للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. فإذا انخفض معدل النمو الاقتصادي إلى ما دون العتبة المطلوبة للاستقرار وفَشِلَ النظام في التعافي، فإنّ أزمته الهيكلية ستشتدّ.
هل ما زال «التوسّع الجغرافي» مَهرَباً ممكناً للرأسمالية؟
في الماضي، تمكن النظام الرأسمالي العالمي من النجاة من العديد من الأزمات الكبرى عبر إستراتيجية التوسع الجغرافي أو ما يسمّيه بعض الباحثين «الإصلاح المكاني، spatial fix« (ديفيد هارفي 2001).
في القرن 21، هل يمكن للنظام الرأسمالي العالمي أن يتغلب مرة أخرى على أزمته البنيوية الحالية من خلال «الإصلاح المكاني»؟
في القرن العشرين، كانت أطراف النظام الرأسمالي العالمي تشكل في أغلب المراحل نحو ثُلُثَي سكان العالم. بينما شكل كلّ من المركز مع أشباه الأطراف في أغلب المراحل حوالي سُدُس سكان العالم. وعبْر التبادل غير المتكافئ كان يتمّ نقل الفائض الاقتصادي من الأطراف إلى المركز. وتمركز الثروة الاقتصادية في بلدان المركز سمح لها بقيادة التراكم الرأسمالي العالمي وبـ«شراء» طبقاتها العاملة المحلية (بمعنى إرضائها النسبي لتميل إلى صفّها). في القرن العشرين كانت بلدان المركز تسهم بنحو 50– 60% من الناتج الاقتصادي الإجمالي العالمي، والأطراف بنسبة 20– 30%.
في أواخر القرن العشرين، ولاحتواء ارتفاع تكاليف العمالة والموارد، أصبح من الضروري للنظام الرأسمالي العالمي تعبئة مناطق جغرافية جديدة للمشاركة الفعالة في الإنتاج الصناعي العالمي. وأصبحت الصين هي المركز للإنتاج الصناعي العالمي. وأخذت النهضة الاقتصادية للصين تسبّب تحوّلاً صميميّاً في بنية النظام الرأسمالي العالمي. ولأول مرة في التاريخ الرأسمالي، بدأت الفجوة بين المركز وأحد الأطراف تضيق. بحلول العام 2013، انخفضت حصة بلدان المركز الرأسمالي من الناتج الاقتصادي الإجمالي العالمي إلى حوالي 40%، في حين ازدادت حصة البلدان الطرفية إلى حوالي %40 في المائة.
في السنوات القادمة، من المحتمل أن تتقدّم الصين إلى مرتبة أشباه-الأطراف (عندما يرتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد (per capita GDP) في الصين فوق الوسطي العالمي، وتبدأ مكاسب الصين من التبادل غير المتكافئ تتفوق على خسائرها منه). وستنخفض حصّة الأطراف من تعداد سكان العالم إلى نحو 50%. وهذا يثير التساؤل عمّا إذا كانت القوى العاملة المتبقية في الأطراف تستطيع أن تولّد فائضاً اقتصادياً كبيراً بما فيه الكفاية ليتم نقله إلى المركز. وإذا لم تعد ثروة العالم متركّزة في المركز الرأسمالي، فهل تستطيع دول هذا المركز الاستمرار في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي؟
في أواخر القرن العشرين، ساعدت مشاركة الصين في تقسيم العمل الرأسمالي الدُّوَلي على خفض تكلفة العمالة العالمية، وإحياء معدل الربح العالمي. في المستقبل، عندما يطالب العمّال الصينيون بمزيد من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فهل يمكن تعبئة قدرات أية منطقة جغرافية كبيرة أخرى على وجه البسيطة بحيث تستطيع احتواء ارتفاع تكلفة العمالة في الصين وبقية العالم؟
حتى تستطيع منطقة جغرافية أخرى أن تحلّ بديلاً عن الصين كمركز الإنتاج الصناعي العالَمي، يجب أن تلبّي العديد من المتطلَّبات:
(1) أن تؤمّن قوى عاملة كبيرة ورخيصة بما فيه الكفاية، من مقاس الصين على الأقلّ.
(2) أن تكون قواها العاملة مجهَّزة بالبنية التحتية والكفاءات والمهارات اللازمة للإنتاج الصناعي الرأسمالي.
(3) أن تحكمها دولة رأسمالية فعّالة قادرة على توفير شتّى الظروف السياسية والاجتماعية المطلوبة للتراكم الرأسمالي.
(4) وأخيراً، ألّا يكون التراكم الرأسمالي فيها مقيَّداً بنضوب الموارد والأزمات البيئية.
باستثناء الصين، تشمل أطراف النظام الرأسمالي العالمي حالياً بشكل رئيس: جنوب شرق آسيا، وجنوب آسيا، وإفريقيا شبه الصحراوية. وتعاني العديد من بلدان هذه المناطق حالياً من عدم الاستقرار السياسي ولا تمتلك البنية التحتية المادّية الكافية للتصنيع الرأسمالي. ربما تكون الهند هي البلد الوحيد القادر على توفير قوّة عمل صناعية يمكن مقارنتها بالصين حجماً. فهل تستطيع الهند إنقاذ الرأسمالية، هذا ما سنعرفه في القسم التالي.
الجزء الثاني
في هذا القسم من المادة سنتابع إجابة الكاتب عن سؤال: هل يمكن وجود جغرافية ترث دور الصين لتكون ملاذاً لمزيد من التراكم الرأسمالي؟ ثم نورد أهمّ محاججاته التي بنى عليها توقّعاته لتوقيت وحجم الأزمة الصينية القادمة وتأثيرها العالَمي.
هل تستطيع الهند إنقاذ الرأسمالية؟
في أوائل تسعينات القرن الماضي، عندما بدأت الصين في تسريع التحول إلى الرأسمالية، كانت عمالتها الصناعية تضاهي نظيرتها في جميع بلدان منظمة «التعاون والتنمية الاقتصادية OECD« مجتمعةً. لكنها تراجعت بالفترة 1998- 2002 من 158 مليون إلى 151 مليون وظيفة، حيث سرَّحَت الخصخصة الضخمة ملايين عمال القطاع العام. بالفترة 2002-2011، نمت العمالة الصناعية الصينية من 151 إلى 221 مليون، بمعدل 7,7 مليون عامل/سنة.
عام 2012 بلغت العمالة الصناعية الهندية 116 مليون (نصف حجم نظيرتها الصينية). وإذا استمر التوظيف بالصناعة الهندية بمعدل 7 مليون عامل بالسنة، ووصلت العمالة الصناعية الصينية ذروتها عند 250 مليون، فسيستغرق الأمر نحو 20 عاماً حتى تستطيع العمالة الهندية اللحاق بالصينية كمّياً.
أمّا من الناحية النوعية، كالصحة الجسدية ومحو الأميّة الأساسية، فغالباً ستتخلّف جودة العمالة الهندية عن الصينية بالمستقبل المنظور، مما سيعيق مستقبل الهند في التصنيع.
لقد بدأت كل من الصين والهند مساعي التصنيع الحديث في الخمسينات. ولكن بعكس الصين، لم تولد الدولة الهندية الحديثة تاريخياً من ثورة شعبية، إذْ لم يتم في الهند القضاء على تأثيرات الطبقة التقليدية من الملَّاكين في الريف. فكانت الصين أكثر نجاحاً بتلبية الاحتياجات الأساسية لسكانها، والتحسن الكبير للعمر المتوقع للفرد من 43 عاماً في 1960، إلى 63 عاماً في 1970. بينما تطلَّب الأمر من الهند الانتظار حتى 2010 لتحقق متوسط العمر المتوقع نفسه الذي حقّقته الصين عام 1975. وهكذا تخلَّفت الهند عن الصين بنحو 35 سنة من حيث تلبية المتطلبات الصحية الأساسية للسكان.
وبمقارنة البلدين في محو الأمية، منذ الثمانينيات حتى العقد الأول من القرن 21، يتبيّن أنّ الهند ستحتاج 90 سنة لتلحق بالصين.
وليعمل البلد كمركز للإنتاج الصناعي العالمي، يحتاج إلى استثمارات بالبنية التحتية لرأس المال وإمدادات طاقة وفيرة. وبهذا المجال تواجه الرأسمالية الهندية عوائق لا يمكن تجاوزها.
يعتمد التصنيع الصيني السريع على الاستهلاك الهائل للفحم، ولديها اكتفاء ذاتي كبير منه، ففي 2013 بلغت نسبة إنتاج الفحم إلى استهلاكه 96%. أمّا الهند فتعتمد على الواردات لتلبية 29% من احتياجاتها الفحميّة.
عالمياً الصين رابع أكبر منتج للنفط وخامس أكبر منتج للغاز الطبيعي. وإنتاج الهند النفطي أقل من خُمْس إنتاج الصين وتعتمد على الواردات لتلبية 76% من الطلب. وإنتاجها من الغاز الطبيعي أقلّ من ثُلُث إنتاج الصين وتعتمد على الواردات لتلبية 35% من احتياجاتها منه.
إنّ الفضاء البيئي العالَمي، بما هو متاح من وقود أحفوري بكل العالم، يعاني سلفاً للحفاظ على صعود الصين الصناعية. فمن المؤكد أنّ البيئة لن تستطيع تحمُّل هندٍ صناعيّةٍ تُضاف إلى الصّين الصناعية الحالية، على الأقلّ ضمن إطار الرأسمالية العالمية.
إنّ الاعتراف بهذه الحقيقة المادّية لا ينكر حقّ الشعب الهندي في حياة كريمة وتنمية بشرية كاملة. فالتجربة التاريخية للاشتراكية الماوية الصينية، والتجارب التقدمية في ولاية كيرالا الهندية تثبت إمكانية تحقيق تحسينات سريعة بمختلف مؤشرات التنمية البشرية مع مستويات منخفضة نسبياً من الاستهلاك المادّي.
مَيْل مُعدل الربح للانخفاض
في المجلّد الثالث من «رأس المال» يعرض ماركس اكتشافه لـ «قانون ميل معدّل الربح إلى الانخفاض»، وأنّه مع ميل التقدم التكنولوجي الرأسمالي نحو المَكنَنَة (إحلال رأس المال الثابت مكان العمل الحي)، ومع التحوّل المتزايد للإنتاج الرأسمالي إلى إنتاج كثيف للرأسمال، فإنّ «التركيب العضوي لرأس المال» سيرتفع، مخفِّضاً بذلك من معدّل الربح.
بدراستنا المقارنة لمعدلات الربح الرأسمالي التاريخية بين الولايات المتحدة والصين، لاحظنا أنّها كانت تراوح ضمن المجال 10-15% في الولايات المتحدة (منذ خمسينات القرن العشرين حتى 2012)، وضمن 20-30% في الصين (للفترة 1990-2010)، أي: نحو ضِعف نظيرتها الأمريكية. وهكذا فإنّ الصّين أنقذت مؤقّتاً معدَّل الربح الوسطي العالمي من استمرار انخفاضه. ولكن مع صعود الصين كمركز جديد لتراكم رأس المال العالمي، والميل نحو ارتفاع الأجور والضرائب وتكلفة رأس المال، فإنّ القوانين التي أزَّمَت الرأسمالية العالمية خلال القرن العشرين أخذت تفعل فعلها في الصين أيضاً. فمنذ 2007 انخفض معدل الربح الصيني بسرعة، مما سيقوِّض أساس الرأسمالية الصينية بغضون بضع سنوات، ويُدخل النظام الرأسمالي العالمي في الأزمة الكبرى القادمة.
في التاريخ الاقتصادي الأمريكي، انخفض معدل الربح إلى أقل من 10% مرة أولى خلال الكساد العظيم، ثم مرة ثانية لفترة وجيزة عام 1980. وبكلتا المناسبتين وقعت الرأسمالية الأمريكية والعالمية بأزمة عميقة. خلال الركود الكبير 2008-2009، انخفض معدل الربح الأمريكي إلى نحو 12%.
عندما كانت بريطانيا قوة مهيمنة على النظام الرأسمالي العالمي، كانت معدلات الربح البريطانية تفوق 25%، وبانخفاض معدل الربح البريطاني إلى 10-15% أوائل العشرينيات، أعطى ذلك إشارة البداية لـ«الأزمة النهائية» للهيمنة البريطانية. في السبعينيات دخلت الرأسمالية البريطانية بفترة أزمة اقتصادية عميقة وصراعات طبقية شديدة، إذ انخفض معدل ربح اقتصادها الإجمالي دون 10%.
إذاً، بناءً على التجربة التاريخية للرأسمالية البريطانية والأمريكية، قد يحتاج الاقتصاد الرأسمالي الرائد (الاقتصاد الذي يعمل كمركز لتراكم رأس المال العالمي) إلى أن يكون متوسِّط معدلات ربح النظام الرأسمالي العالمي أعلى بكثير من 10% لكي يشتغل بمستوى معقول من الاستقرار الاقتصادي والسياسي.
بالنسبة للصين بلغ معدل الربح 18% عام 2012، لكنه انخفض بعدها بسرعة. ووفقاً لدراسة أجريناها (2015) على معدلات الربح التاريخية والمتوقعة للاقتصاد الصيني من 2000 إلى 2030، فإنّ معدل الربح في الصين، وفق أكثر تقديراتنا تفاؤلاً، نتوقع أنه سيهبط إلى أقل من 12% بعد 2022 وأقل من 10% بعد 2028.
واستناداً إلى التجربة التاريخية للرأسمالية الأمريكية، عندما انخفض معدل الربح إلى ما يراوح بين 10-12% كان الاستثمار الخاص ينهار، ويدخل الاقتصاد في ركود عميق. وانهيار الاستثمار يؤدي بدوره إلى انخفاض سريع بمعدل الربح مجدداً، وهكذا تستمر الحلقة المفرغة مع غرق الاقتصاد الرأسمالي في أزمة كبيرة. بالقياس على ذلك، من المرجح أن يدخل الاقتصاد الصيني بأزمة كبيرة في العقد الثالث من القرن الحالي (2030-2020) عندما ينخفض معدل الربح في الصين إلى 10-12%. [لمقارنة أحدث بين الصين والولايات المتحدة راجع مادة قاسيون: «الصين والولايات المتحدة بين 2007-2017»، العدد 886/ 5 ت2/2018].
تأثير الدّيون
[تنويه وملاحظة من المحرر: فيما سيورده الكاتب أدناه عن ديون الصين، لا بدّ من التنويه مسبقاً بأنّه ممّا يؤخَذ على الكاتب ربّما عدم التركيز بدرجة كافية على الفرق الكيفي بين ديون الصين وديون الولايات المتحدة، وخاصةً أنّ التطورات الأخيرة أوصلت نحو 44% من ديون الشركات غير المالية الصينية لأن تكون ديون حكومية، وتعتبر «مضمونة» و«محمية بقدرة الحكومة المالية وبملكيّتها»، وأنّه حتى «الديون الصينية الأضعف، ليست مرهونة لدَين خارجي» حسب ما ورد في مادّة سابقة لقاسيون (بعنوان «الدَّين الصيني، الأضخم والأقل خطورة»، العدد 868/ 1 تموز/2018)، لكن رغم ذلك تبقى محاججات الكاتب التالية ذات أهمية على المدى الإستراتيجي المتوسط إلى الطويل، بما يتعلّق بالمصير التاريخي لكلّ الملكية الخاصّة الرأسمالية، ولا سيّما عندما يؤخذ بالحسبان اجتماع تأثير الديون مع عوامل ميل معدل الربح للانخفاض، والميل لانخفاض الاستثمار والنمو بالطريقة الرأسمالية. وذلك مع الاعتراف بإمكانية قدرة الأشكال الملموسة الصينية الحالية من الملكية، على مدى قصير إلى متوسط، بأن تحدث (ضمن الإطار الرأسمالي) فرقاً معيّناً مؤقّتاً بين مسار تطوّر الصين الرأسمالية والولايات المتحدة الإمبريالية، وأهمية تأثير ذلك على طريقة الخروج من الأزمة الرأسمالية القادمة نحو الاشتراكية– انتهى التنويه].
خلال فترات الركود الاقتصادي، تزيد الحكومة الرأسمالية من العجز لتساعد على تعويض جزء من تراجع الاستثمارات الخاصة وتحقيق الاستقرار للأرباح الرأسمالية. بسنوات 10 بعد الحرب، ساعد القطاع الحكومي الكبير وسياسات الاقتصاد الكلي الكينزية الدولَ الرأسمالية الأساسية على منع حدوث كسادات اقتصادية كبرى.
ومع أنّ جزءاً كبيراً من مخاطر الاستثمار أُلقي بعبئها على المجتمع، يستمر اتخاذ القرارات الاستثمارية من الأفراد الرأسماليين الذين يجنون كل الأرباح. إنّ «جَتمَعَة» مخاطر الاستثمار [أي جعل المجتمع يتكفّل بها] دون «جَتْمَعَة» الاستثمار نفسه، هو أحد التناقضات المهمّة للنظام الرأسمالي الحديث. فمن دون سيطرة المجتمع على الاستثمار، يُشَجَّع الرأسماليون الخاصّون على استثمارات متزايدة الخطورة بتمويلٍ من مستويات عالية من الديون.
وبمقارنة نسبة دَيْن القطاع غير المالي إلى الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة والصين من 1980 إلى 2013 وجدنا ما يلي [للاختصار سنشير من الآن فصاعداً إلى «الناتج المحلي الإجمالي» GDP باسم «الناتج الإجمالي»]:
في الولايات المتحدة: كانت هذه النسبة حوالي 180% في النصف الثاني من الثمانينات إلى التسعينات. وبعد عام 2000 ارتفعت ديون القطاع غير المالي عندما كان التوسع الاقتصادي الأمريكي مدفوعاً بفقاعة الإسكان. عام 2007، عشية الأزمة الاقتصادية، بلغت هذه النسبة 236%.
في الصين: كان إجمالي دَيْن القطاع غير المالي مستقراً نسبياً خلال 2003-2008، إذ بلغت نسبة هذا الدَّين إلى الناتج الإجمالي حوالي 140%. في 2009، استجابت الحكومة الصينية للأزمة الاقتصادية العالمية عبر تشجيع الحكومات المحلية والشركات المملوكة للدولة على تنفيذ برامج استثمارية ضخمة مموَّلة من القروض المصرفية. ارتفعت نسبة ديون القطاع غير المالي إلى الناتج الإجمالي الصيني، بين 2008 و2013، من 140% إلى 209% على التوالي. [تحديث المحرّر: في 2016 صارت النسبة 235%].
باستثناء ديون الحكومة المركزية، بلغ إجمالي ديون الصين للأُسر والأعمال غير المالية والحكومات الإقليمية والمحلية 194% من الناتج الإجمالي عام 2013. وبالمقارنة، في الولايات المتحدة عام 2007، كان إجمالي هكذا أنواع من الديون هو 191% من الناتج الإجمالي.
لا يمكن لنسبة الدَّين إلى الناتج الإجمالي أن تستمر بالارتفاع إلى الأبد. يتم تقدير القيمة طويلة الأمد لهذه النسبة، بحساب معدل الاقتراض الحالي (كنسبة من الناتج الإجمالي) مقسوماً على معدل نمو الناتج الإجمالي الاسمي طويل الأمد. في عام 2013، بلغ اقتراض القطاع غير المالي في الصين 31% من الناتج الإجمالي. معدل نمو الناتج الإجمالي الاسمي للصين هو حوالي 10%. وبالنظر إلى هذه النسب، فإن ديون القطاع غير المالي في الصين قد ترتفع في نهاية المطاف إلى ما يزيد عن 300% من الناتج الإجمالي.
هل تستطيع الصين تثبيت نسبة دَينْها إلى ناتجها الإجمالي دون أزمة اقتصادية كبرى؟
لنفترض أنها استهدفت تثبيت نسبة الدَّين إلى الناتج الإجمالي للقطاع غير المالي عند نسبة 200% (والذي سيبقى مع ذلك مستوى مرتفعاً). إذا كان معدل نمو الناتج الإجمالي الاسمي على المدى الطويل هو 10%، فيجب عندئذ خفض الاقتراض في القطاع غير المالي من 30% من الناتج الإجمالي إلى 20%.
كيف يمكن تخفيض الاقتراض في القطاع غير المالي نسبة إلى الناتج الإجمالي؟
سيناريو «الهبوط السلس»
سنفترض في هذا السيناريو: أنَّ الصين أعطت نفسها مهلة عشر سنوات (2014- 2023) لإجراء التكيُّف المطلوب لتخفيض الاقتراض.
إذا تم تمويل 30% من الناتج الإجمالي للصين حالياً من خلال زيادة الدَّين، فإن 70% الباقي منه لن يكون معتمداً مباشرة على تمويل الديون. بافتراض أن هذا الجزء الباقي يمكن أن يستمر بالنمو بمعدل 10% سنوياً، فإنه بنهاية فترة السنوات العشر (عام 2023)، سيكون هذا الجزء من الناتج الإجمالي قد نما ليصبح 182% مما كان عليه كامل الناتج الإجمالي للصين في بداية هذه الفترة (أي في 2013)، (هذا الرقم 182% مُستَنتَج بالحساب البسيط التالي: ضرب 70% بالعدد 1,1 المرفوع للأسّ 10، أي بزيادة النمو 10% سنوياً مركَّبةً لعشر سنوات).
عام 2023، ينبغي أن ينخفض اقتراض القطاع غير المالي إلى 20% من الناتج الإجمالي وينبغي لذلك الجزء من الناتج الإجمالي الذي لا يعتمد بشكل مباشر على تمويل الديون أن يشكل 80% من الناتج الإجمالي. وبالتالي في 2023 يجب أن يكون الناتج الإجمالي الاسمي للصين 227% مما كان عليه في 2013 (بحساب أنّ 1,82 ÷ 0,8 = 2,27)، مما يعني معدل نمو سنوي يبلغ 8,5% على مدى السنوات العشر (وهو ما يعادل متوسط معدل نمو سنوي للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنحو 6,5%، على افتراض أن معدل التضخم سيكون 2%).
ومع ذلك، هل لدى الصين عشر سنوات لتحقيق تكيُّف «الهبوط الناعم»؟
إذا أخذنا بالاعتبار عامل انخفاض معدل الربح منذ 2013 حتى 2023، هل تستطيع الصين تَجنُّب حدوث انخفاض مفاجئ وكبير في الاستثمار والاقتراض التجاري خلال هذه الفترة؟
في الواقع، في ظَلَّ سيناريو «الهبوط الناعم» المشار إليه أعلاه، من المتوقع أن ترتفع نسبة ديون القطاع غير المالي في الصين إلى 260% من الناتج الإجمالي بحلول 2020-2023 حيث إن القروض المتوقعة للقطاع غير المالي كبيرة بما فيه الكفاية لكي يستمر الدَّين بالنمو بسرعة تفوق سرعة نمو الناتج الإجمالي حتى عام 2023. إنّ مستوى دينٍ كهذا سيعني بأنه سيتفوَّق [كمّياً] على مستويات الديون الأمريكية التي وُجدت خلال وبعد الركود الكبير لعام 2008.
إنّ تراكب العاملين معاً: (ارتفاع نسب الدين إلى الناتج الإجمالي، مع هبوط معدل الربح) سيضمن تعرّض الاقتصاد الرأسمالي الصيني لأزمة اقتصادية ومالية كبرى.
[يحاجِجُ الكاتب أيضاً بأنّه حتى بشكل معدّل من هذا السيناريو لن يكون ممكناً تثبيت نسبة ديون القطاع غير المالي الصيني عند أقلّ من 200% من الناتج الإجمالي بنهاية الفترة، أي في 2023].
سيناريو «الهبوط القاسي»
نفترض تأثُّر الصين بأزمة مالية كبيرة بعد 2015 وهبوط قروض القطاع غير المالي بشدة من 30% من الناتج الإجمالي في 2015، إلى 10% من الناتج الإجمالي عام 2020. أي: أنَّ الجزء من الناتج الإجمالي الذي لا يعتمد بشكل مباشر على تمويل الديون، سيكون على مدى أربع سنوات (2016-2020) قد نما بمعدل 5% بالسنة (30% ناقص 10% تقسيم أربعة). وفق هذا السيناريو، سينكمش الناتج الإجمالي الاسمي للصين في 2016 و2017 ولن يتجاوز مستواه في 2015 حتى 2021. [حسابات الكاتب تعود إلى 2015].
ووفقاً لهذا السيناريو قد يعاني الاقتصاد الصيني من ركود عميق وطويل وتقفز نسبة دَيْن القطاع غير المالي إلى الناتج الإجمالي إلى 314% بحلول 2020.
من أزمة صينية إلى عالمية
كانت نسبة الاستثمار إلى الناتج الإجمالي للصين في 2015 أكثر من ضِعف نظيرتها الأمريكية قبل الركود الكبير (قبل 2008). وهكذا، عندما ينخفض معدل الربح في الصين إلى المستوى الخطِر رأسمالياً، أي تحت 10-12%، قد ينخفض الاستثمار الرأسمالي الصيني بنسبة 10-20% من الناتج الإجمالي. من أجل تثبيت معدل الربح الصيني أو تثبيت نسبة الدَّين إلى الناتج الإجمالي للصين، قد تحتاج الاستثمارات الصينية إلى الانخفاض بنسبة 15-20% من الناتج الإجمالي.
وبما أن الاستثمار الصيني يشكّل [في 2015] حوالي نصف الناتج الإجمالي للصين، فإن تخفيض الاستثمار بنسبة 10-20% من الناتج الإجمالي سيُترجم إلى انخفاض معدل النمو الاقتصادي بنسبة 5-10 نقاط مئوية.
كان الاقتصاد الصيني يشكّل 16% من الناتج الإجمالي العالمي في 2013. وعندما تأزف ساعة دخول الصين في الأزمة الاقتصادية المقبلة، يُتوقَّع أن يكون الاقتصاد الصيني قد أصبح يشكّل 20% من الناتج الإجمالي العالمي. وبالتالي فإن تخفيض معدل النمو الصيني بنسبة 5-10 نقاط مئوية سوف يُترجَم إلى انخفاض مباشر لمعدل النمو الاقتصادي العالمي بنسبة 1-2 نقطة مئوية.
وفضلاً عن ذلك سيؤدي انخفاض الاستثمار في الصين بنسبة 10-20% من ناتجها الإجمالي إلى انخفاض موافق في الطلب الصيني على السلع الرأسمالية الأجنبية والمواد الخام. وتبلغ واردات الصين 3% من الناتج الإجمالي العالمي (بالدولار الأمريكي) [في 2015] ولكنها قد ترتفع إلى 5% من الناتج الإجمالي العالمي عندما تدخل الصين في الأزمة الاقتصادية. إذا هبطت الواردات الصينية بنسبة 10-20%، فإنها ستخفّض الدخل العالمي بنسبة 0,5 إلى 1 نقطة مئوية. وعموماً، فإن أزمة كبرى في الاقتصاد الصيني ستطرح مباشرة 1,5 إلى 3 نقاط مئوية من معدل النمو الاقتصادي العالمي. وبما أنّ الاقتصاد العالمي ينمو بمعدل 3-4% سنوياً [أرقام 2015 أيضاً]، وبما أنّ الركود العالمي يُعرَّف بأنه النمو السلبي لمتوسط نصيب الفرد من الناتج الإجمالي العالمي، ومع أخذ معدل النمو السكاني العالمي بالحسبان، فإن الاقتصاد العالمي سيكون في حالة ركود إذا انخفض معدل النمو الاقتصادي العالمي إلى أقل من 1%.
وهكذا، فإن التأثيرات المباشرة للأزمة الاقتصادية الصينية وحدَها قد تسحب الاقتصاد الرأسمالي العالمي إلى الركود القادم مع أضرار أكبر مما حدث بعد ركود 2008-2009.
تمّ اختيار وترجمة وتحرير النص لهذا الجزء من المادة، من الفصلين الرابع والخامس من كتاب «الصين وأزمة القرن الحادي والعشرين» (China and the Twenty First Century Crisis)، الناشر: بلوتو برس (ط1، 2016)، تأليف مينكاي لي Minqi Li– باحث صيني ماركسي في الاقتصاد السياسي، وبروفسور في جامعة أوتا الأمريكية. وله أيضاً كتاب «صعود الصين وموت الاقتصاد الرأسمالي العالَمي» (بلوتو برس 2008).
:::::
موقع “قاسيون”
https://kassiounpaper.com/strategy-affairs/item/34201-2
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.