المناهج والممارسات البديلة في التعليم والتربية، وفق “أنطون ماكارنكو”، الطاهر المعز

المناهج والممارسات البديلة في التعليم والتربية، وفق “أنطون ماكارنكو”

(13/03/1888 01/04/1939)

توطئة:

“إذا كان عمَلُكَ مصحوبًا بالفشل والإخفاقات، لا تُلْقِ باللّوم على الآخرين، بل تساءل عن مدى إدراكِكَ لقواعد هذا العمل، ومدى إتقانك لعمَلِك”

عن “أنطون ماكارينكو”

من كتاب “القصيدة التّربوية” 1935

قرأت بمرارة ما كَتبَه العديد من الأصدقاء والصّديقات، والعديد منهم ومنهن مُنخرطون في النضال النقابي والسياسي، وبعضهم يمارسون مهنة التّعليم، بشأن هذه الشعوب العربية “الجاهلة التي تنتخب الإخوان المسلمين والرجعيين”، والتي “لا يُرْجى منها شيء”، ويُعلن بعض هؤلاء الأصدقاء انسحابهم (هُن) من “مُساندة” هذا الشعب الجاهل، ويضعون أنفُسهم خارجه، في انتظار استيراد شعب آخر، يُدْرِك ويُتْقِن قواعد الإنتخاب “الصّالح”، وكأن التغيير في طبيعة المُجتمع ونمط الإنتاج، يمكن أن يحصل عبر الإنتخابات التي صاغ قواعدها مجلس، يُمثل أغلبيةُ نُوّابه التحالفَ الرجعيَّ الخاضع للبنك العالمي ولصندوق النقد الدّولي وللشركات العابرة للقارات…

لهؤلاء، ولغيرهم، ولأصدقائي وصديقاتي من المُدَرِّسِين، ومن المناضلين التّقدّمِيِّين الذين يناضلون، من أجل غَدِ أفضل، للكادحين وللفُقراء، ومن أجل مُجتمع يَطْلُبُ من كل شخص بذل ما استطاع من جهد، مقابل الحصول على ما يفي بحاجاته المادية والمعنوية، أقدّم هذه النبذة عن المُرَبِّي والمُفكّر والمناضل الشيوعي “أنطون ماكارينكو”، وكنت قد قَدّمتُ سابقًا المُفكّر البرازيلي “باولو فريري”، عبر مقال كتبه الصديق المغربي “جواد”، عضو “أتاك” المغرب، و”الشبكة العالمية من أجل إلغاء دُيُون العالم الثالث”، ولا أعتقد أن بإمكاني تقديم هذا المُفَكّر (باولو فريري)، بشكل أفضل من الصديق “جواد”، ويُعتبر أحدهما (“أنطون ماكارينكو” و “باولو فريري” ) مُكَمِّلاً للآخر، رغم فارق الزمان واختلاف المكان…

مقدّمة:

تُخَلّف الحروب خرابًا ودمارًا يَضُرُّ بالبشر وبالمحيط، ولكن يتأثر الفُقراء بنتائج الحرب أكثر من غيرهم، فالأثرياء قادرون على مغادرة مناطق الحرب أو مغادرة البلاد، ويحتكِرُ بعض الأثرياء المواد المفْقُودة بسبب الحرب، ومن بينها السلع الضرورية والأغذية، فيُضارِبُون بها ويبيعونها بأسعار مُضاعَفَة، ويضطر سكان العديد من المناطق إلى مغادرة مُدُنِهِم وقُراهم، ليصبحوا لاجئين، فيما يموت العديد من الأبرياء، ما يُمزق أواصر الأُسَر، ليصبح آلاف الأطفال أيتامًا، ومُشرّدِين، وهو ما حصل للفلسطينيين ويحصل في سوريا والعراق واليمن وليبيا وافغانستان…

تعرضت روسيا (كما العديد من البلدان الأوروبية وغير الأوروبية) للدمار، خلال الحرب العالمية الأولى، وكان الجُنُود من أبناء العُمال والفلاحين والفُقراء، يُحاربون من أجل مصالح غيرهم، في ظروف سيئة جدا، فاستغل الحزب الشيوعي الفرصة لتكثيف الدّعاية والتّحريض في صُفُوف الجنود الذين كانت مُساهمتهم حاسمة في انتصار الثورة البلشفية سنة 1917، وخرجت روسيا من الحرب قبل انتهائها، وذلك بمجرد انتصار الثورة، وكانت البلاد في حالة من الخراب والدّمار العظيمَيْن، كما خلّفت الحرب والثورة آلاف الأطفال المُشَرّدين، بدون مأوى وبدون أُسْرَة، قُدِّرَ عددهم، سنة 1918، بما لا يقل عن عشرة آلاف طفل قاصر، من الذكور والإناث…

في هذه الظروف، أشرف “أنطون ماكارينكو” على تأسيس وإدارة مؤسسات تَرْبَوِيّة تهدف إيواء هؤلاء الأطفال المُشرّدين والجانحين (مُرتكبي الجُنح)، وتم تجميع حوالي خمسمائة صَبِي وصَبِيّة، في المؤسسات التربوية التي أنشأها “ماكارينكو” وفريقه التّربوي، وتعليمهم وتأهيلهم، رغم الإمكانيات القليلة وشبه المَعْدُومة، ومحاولة إصلاح ما خَلَّفَتْهُ الأيام بهم من أضرار بدنية ونفسية وذهنية، ودَوّن “ماركرينكو” بعض التجارب والنّظريات في كتاباته…  

 مكانة التربية، خلال فترة الثورة وما بعد الحرب:

احتفلت روسيا سنة 2018 بذكرى ميلاد الكاتب، والمُعلم والخبير في عُلُوم التّربية “أنطون سيمونوفيتش ماكارينكو”  (1888 – 1939)، وكان الإتحاد السوفييتي قد أصدر طابعًا بريديًّا، تكريمًا له، واعتبرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) واحدًا من المُعلمين الأربعة (جون ديوي، وغيورغي كيرشينشتاينر، وماريا منتيسوري، و ماكارينكو) الذين طبَعُوا، أو تركوا بصماتهم، على التفكير والممارسة التربوية في القرن العشرين، ويتميّزُ “ماكارينكو” بتأسيس نظرية ومنهج تربوي، يراعي المُحيط، أي المجتمع الخارج من حالة الحرب ومن حالة الثورة والحصار الإمبريالي، فشملت نظريته ومنهجَهُ التّربوي المحيط البشري (المُجتمع) والأُسْرة، وكافة الجوانب المتعلقة بحياة الأطفال، ومنها التعلُّم واللعب والحُب والعمل، وغير ذلك وطَبَّقَ هذه النّظرية، عبر الممارسة، وتأسيس “مُعسْكر” لإيواء أطفال الشوارع، والجانحين من القاصرين، حيث تتم إعادة تأهيلهم، عبر التّعليم والعمل، والإبداع الفَنِّي، فقد أبْدَع هؤلاء الأطفال في فنون التصوير السّاكن والمُتحرك، بعد أن تَعلّموا تجميع آلات التّصوير، بداية من سنة 1933، ويعود الفضل لهؤلاء الأطفال والفريق التربوي في تطوير آلات التصوير الروسية، بدعم من بعض الفَنِّيِّين المُحْترفين، ويشترك الجميع، الأطفال والفريق التربوي، في تنظيم الحياة الجماعية في المُعسكر أو المُخيم، ولخّص نَظَرِيّتَهُ وخلاصة تجاربه (مع الفريق التّرْبَوي) في كُتُبِه، وأهمُّها وأشهَرُها كتابه الضّخم “قصيدة تَرْبَوِيّة” (1935)، و “كتاب للأبَوَيْن” (1937)، و “رايات (أو أَعْلام) على أَبْراج”، وهو كتاب من ثلاثة أجزاء، كَتبه “ماكارينكو”، سنة 1938، قبل سنة من وفاته، سنة 1939، في حادث قطار، ونُشر الكتاب بعد وفاته، وأصبح ماكارينكو عُضْوًا في اتحاد الكُتّاب السوفييتيين، سنة 1934…

كانت روسيا، والبلدان التي انضمّت إلى الإتحاد السوفييتي، فيما بعد، خرابًا، بنهاية الحرب العالمية الثانية، وحاصَرتها الجيوش الإمبريالية، حتى سنة 1922، وعرف سكان البلاد، بعد الحرب وأهْوالِها، المجاعة والحرمان، وكان اهتمام الدولة، المنبثقة عن الثورة البلشفية، مُنْصَبًّا على الدفاع عن حرمة البلاد، وعلى البحث عن سُبُل الخروج من الأزمات الإقتصادية.

في هذه الظُّرُوف نشأت المُؤسّسات التربوية، و”مُعَسْكرات” أو “مُخَيّمات” الأطفال المُشرّدين والجانحين، التي أنشأها “أنطون ماكارينكو” والفريق التربوي الصغير الذي رافقه ودعم عملية تحويل المشروع إلى واقع، بداية من سنة 2018، ولَخّص “ماكارينكو” نظريته بقوله: “من المستحيل تعليم الشخص أن يكون سعيدًا ، لكن من الممكن أن يتعلم كيف يكون سعيدًا”، كما لخص نظرياته وممارساته، خلال تدوين إحدى التجارب الأولى (المُؤسسة الإصلاحية التربوية “غوركي”)، التي تأسست سنة 1920، في كتابة “قصيدة تربوية”، حيث مَكّنَهُ هذا المشروع (الذي تحول إلى إنجاز) من تطبيق وتطوير نظرياته وممارساته التربوية التي أحْدَثَتْ ثَوْرَةً في مجال التربية والتّعليم، رغم قِلَّة الإمكانيات، ويتناول الكتاب (قصيدة تربوية) تجربة عملية، مع مجموعة من القاصرين الجانحين (السرقة والعُنف وصعوبة المِزاج…)، وأصرّ “ماكارينكو” على تطبيق الديمقراطية داخل الإصلاحية، في مجتمع تربّى على عُنف وقمع سلطة القَيْصَر، وعاش حربًا مُدَمِّرة (الحرب العالمية الأولى) وثورة، تَخَلَّلَتْها ثورات مُضادّة وتدخّلات القوى الأجنبية، ووضع داخلي صَعْب، وأَفْضَتْ الجُهُود، غير التقليدية، وغير المُعْتادة، للطاقم التربوي الصّغير إلى ابتكار وسائل جديدة لإعادة تربية وتأهيل هؤلاء الأحداث الجانحين، من خلال إنشاء مؤسسة مُنْتِجَة، تُشارك المجموعة كاملة (أطفال ومُرَبِّين) في تنظيمها وإدارتها بشكل ديمقراطي، وفي إيجاد حلول فورية للمشاكل الطارئة، ما أدى إلى رفع درجة الوعي واحترام الذات والآخرين، وتقدير قيمة الجُهد الجماعي والفردي…

إضافات “ماكارينكو” في مجال العملية التربوية:

وُلِدَ “أنطون ماكارينكو” في أسرة فقيرة، في أوكرانيا الحالية، وكان أبوه عاملا في السكة الحديدية، ولم يكن “ماكارينكو” مسؤولا أو مناضلا داخل هياكل الحزب الشيوعي (البلشفي) ولكنه كان مناضلا في ميدانه، ويعمل من أجل بناء مجتمع اشتراكي، ويُمارس هذه القناعات في عمله اليَوْمي، وحصل على جائزة هامة عن مجمل أعماله في مجال الأدب.

دَرَسَ علوم التربية، وسبق له العمل مع المُشرَّدِين والمُهَمَّشِين، قبل سنة 1917 (قبل الثورة الإشتراكية)، ويقول في كتاب “قصيدة تربوية” أنه لم يكن يمتلك برنامجًا أو نظرية جاهزة، عندما تولّى الإشراف على “إصلاحية غوركي”، سنة 1920، مع مجموعة من الصبيان والصبايا الجانحين، والخارجين عن نواميس المُجتمع، وتبلورت نظرياته وأساليبه مع التجربة العملية، حيث كان من العسير ضبط هؤلاء الشبان، لكن مشاركتهم في تسيير المُؤسّسة وفي مناقشة كل كبيرة وصغيرة، وتدريبهم على احترام الذات البشرية، واحترام آراء الآخرين، وتدريبهم على تقديم الحُجَج عند التّأييد أو الرّفض، جعل “الإصلاحية” تتحول من خليّة مُسْتَهْلِكَة إلى خَلِيّة مُنتجة في مجالات الزراعة والصناعات البسيطة، تكاد تُحقّق الإكتفاء الذاتي، ثم أصبح الشبان يقومون بعملية توعية للمجتمع الفلاحي، في القرى المُحيطة بالإصلاحية، ويجلبون انتباه الفلاحين وسُكّان القرى إلى مخاطر القضاء على أشجار الغابات، وإلى إيجاد وسائل لضبط العُنف بين السّكّان أو داخل الأُسْرة، وكان “ماكارينكو” قد اكتسب خبرة في تحسيس الفلاحين بمسألة العُنف المُتبادل بينهم، والذي يُفرّقهم ولا يخدم مصالحهم المُشتركة، وخبرة في مكافحة إفراط الفُقراء في استهلاك المشروبات الكُحُولِية والقُمار، لكن “ماكارينكو” يُنَبِّهُ أن الهدف ليس “تَقْويم سلوك” هؤلاء اللصوص والصّعاليك الصغار، بل إعادة تأهيلهم، لكي يحترموا أنفُسَهم، قبل احترام الغير، عبر التفكير والعمل الجماعي والبحث الجماعي عن حُلُول للمشاكل الطارئة، وتنفيذ الحلول بشكل جماعي أيضًا، في ظل نوع من الإنضباط والرقابة الذاتية، والمُحاسَبَة في حال الإخلال بالقواعد المُتَّفَق عليها أو تعريض المكتسبات الجماعية للخطر، ويُدْرِج “ماكارينكو” هذه الممارسة في باب “التربية السياسية والاجتماعية”، دون إهمال جانب التسلية واللعب، الذي قد يُكءسِب الأطفال خبرات ومهارات تُفيدهم في بقية حياتهم، عَملا بمقولة الجاحظ “عَلِّم الأطفال وهم يَلْعَبُون”…

اهتم “ماكارينكو” أيضًا بمسائل الحُب والعلاقات الغرامية والحياة الجنسية لمن بلغوا سن المُراهَقَة، وحاول الطاقم التربوي بث فكرة “الحب أمر عادي”، سواء كان بين الآباء والأبناء، وبين أفراد الأسرة، أو الحب (غير العُذْرِي) بين المراهقين والبالغين، الذين أصبحت أجسامهم وعُقُولُهُم تَتُوق لممارسة الجنس، واهتم “مكارينكو” والطاقم التربوي بتعليم هؤلاء المراهقين، قَدْرَ الإمكان، تنظيم حياتهم الجنسية والغرامية، لتَجَنُّبِ الفشل والإصابة بالإحباط وبخيبة الأمل التي قد تترك آثارًا سلبية كبيرة، ويُدْرِج “ماكارينكو” اهتمامه بهذا الجانب، في باب “رَفْع الوعي الإجتماعي والسياسي”، للشبان، لكي يكونوا مُفيدين لأنفسهم وللمجتمع…

أما تسمية هذه المؤسسة “الإصلاحية” التربوية باسم “غوركي”، فلها قِصّة طريفة، حيث أَدْخل “ماكارينكو” ممارسة المُطالعة كنشاط قار، عبر استماع الأطفال إلى أحدهم، يقرأ فصلاً أو فُصُولاً من كتب (رواية أو شعر)، ووجدوا مُتْعَةً في كتابات “مكسيم غوركي”، الذي روى بعض الفصول من طفولته الشّقِيّة، التي تُشبه طفولة هؤلاء الأطفال، الذين اختاروا بأنفسهم إسم “غوركي” للإصلاحية، ويعتقد “ماكارينكو” أن العمل الجماعي، وإدارة الموارد القليلة، عبر الممارسة الديمقراطية، ورفْع الحواجز، بين الطاقم الإداري والتربوي والأطفال، كانت من أهم أسباب حُصُول التّغْيِير الجذري في حياة الأطفال ويَسَّرَ بالتالي تَسْيِير عمل الإصلاحية، وتشكيل هيئة مُنتخبة (باقتراع سري)، تُشارك في ادارة الإصلاحية…

ترك “ماكارينكو” العمل في إصلاحية “غُوركي”، سنة 1928، وتفرّغ للعمل في “كومونة دزردنسكي”، وكتب: “لقد حققّتُ في كومونة دزردنسكي ما كنت أطمحُ إليه من المُشاركة في تحويل مثل هذه المجموعات الصغيرة إلى قوّة خلاّقة وحازمة ودقيقة، يتَمَتّعُ مُنْتَسِبُوها بمعارف متنوّعة”…

المبادئ التربوية لماكارينكو:

عمل مكارينكو على الدمج بين التعليم الدراسي والتربوي، التربوي، وربط التعليم بشروط الحياة اليومية الجماعية والعمل، وإدماج ممارسة الرياضة، والمشاركة الجماعية في حياة الإصلاحية، والإلتزام بنظافة الأماكن وبالقواعد الصحيّة وبأمن مواقع الإنتاج، وكان يحرص على إحاطة الأطفال الجانحين، بالهدف من العمل الذي يقومون به، إيمانًا منه بأنه “لا يمكن القيام بعمل جيد إذا لم تُدْرِك الهدف من وراء إنجاز ذلك العمل”…

مكّنت هذه الأفكار وهذه القناعات من إنشاء مُعسكرات الأطفال الجانحين وأطفال الشوارع، ومن تحويلهم إلى من مُجرمين (وضحايا في نفس الوقت) إلى طاقات مُنْتِجَة، عبر تحسيسهم بقيم الحُب والجمال والبراءة، التي كانوا قد فَقَدُوها، بفعل العُنف والتدمير الذي لحقهم في الشوارع وفي السجون، وحتى في داخل أُسَرِهِم…

كتابات “أنطون ماكارينكو”:

اشتهر ماكارينكو بأنه مُدَرّس ومُفَكٍّ وإخصائي اجتماعي وكاتب مُبْدِع، رَوّج للأفكار والمبادئ الديمقراطية، في الفكر والممارسة، وطوّر النظريات ومناهج التعليم والتربية في الإتحاد السوفييتي، كما تُرْجِمت ونُشرت كُتُبُه، خارج الإتحاد السوفييتي، ويعتبر كتاب “قصيدة تربوية” أهم عمل، وتحول إلى شريط سينمائي (روائي) سنة 1955، تحت عنوان “طريق الحياة”…

استفاد “ماكارينكو” من علاقاته بالكاتب العظيم “مكسيم غوركي” ، واحتفظ بمراسلاته معه خلال الفترة من 1925 إلى 1935، ودعاه لزيارة الإصلاحية (المُعسْكر) التي تحمل إسمه، وطلب نصيحته لكتابة أعماله اللاحقة، ومن بينها أعلام على الأبراج، الذي انتهى “ماكارينكو” من كتابته سنة 1938، بعد نَشْر “قصة الشرف” (1937)، وهي عبارة عن سيرة ذاتية، في قالب شيق، ولم يتمكن من إنهاء رواية “طرق الجيل”، حيث توفي فجأة، قبل اكتمالها، وفي الأثناء واصل “ماكارينكو” كتابة المقالات ونشر البحوث والدّراسات حول سُبُل التطوير البيداغوجي ومناهج التعليم، ونشر، سنة 1936، دراسة بعنوان “طرق تنظيم العملية التعليمية”، دعا من خلالها إلى الإبتعاد عن منطق “الوَعْظ الأخلاقي، والإعتماد على العقل والمَنْطق وتطوير ملكات الخلق والإبداع لدى الأطفال والشباب، كما لدى العاملين بمختلف درجاتهم، وطور وجهات نظره التربوية في كتاب من جزأيْن، نُشر الجزء الأول منه سنة 1937، بعنوان “كتاب للآباء والأمهات”، ونشر العديد من الدراسات والأبحاث في مجال التعليم وعلوم التربية، وتحولت ثلاثة من كُتُبه إلى أشرطة سينمائية: “قصيدة تربوية”، سنة إنتاج الشريط 1935، و”أعلام على الأَبْراج”، سنة 1958، و”كبير وصغير” سنة 1963، وحملت العديد من المؤسسات التربوية السوفييتية والروسية، وكذلك العديد من الشوارع، إسم “ماكارينكو”، وتحمل العديد من المتاحف إسمَهُ…

خاتمة:

فَنَّد “أنطون ماكارينكو”، بالفكر وبالمُمارسة، النظريات التي تعتبر الفُقراء فاسدين وشريرين أو مُجرمين بالوراثة، أو “مُسَيَّرين” منذ الولادة، وينتظرهم السجن، ولا فائدة تُرجى من محاولة تغيير مصيرهم، وأظهرت التجارب أن المناهج المُناسبة، والتعليم المُناسِب، من الشروط الضرورية لرفع الوعي الإجتماعي، ولتنشئة مواطنين “صالحين”، يعملون من أجل رُقي المجتمع، وتحسين ظروف العيش للجميع، وحققت نظريات وممارسة “ماكارينكو” نجاحًا اعترفت به منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) ومُعترف به عالميا، مع الشّبان (والشابات) الجانحين، وتمكن فريق العمل التربوي من الجمع بين التعليم (بمفهوم التّدْرِيس) والعمل الجماعي المنتج والإدارة الجماعية للمؤسسة التربوية، واحترام الفرد، مع عدم إهمال اللعب والترفيه، عملاً بمبدأ “إن اكتمال الشخصية لدى الأطفال يتطلب بيئة تعليمة متكاملة”، ويمكن اختتام هذه الورقة بإحدى مقولات “ماكارينكو”: “لا أعتقد أن هناك أشخاص معيبين أخلاقياً. أعتقد أنه يجب فقط أن نهيئ لهم ظروفًا طبيعية للحياة، وأن نُتيح لهم الفرصة، عبر تَقْدِيم بعض المتطلبات، وسوف نُدْرِكُ بذلك أنهم أصبحوا من نُسمِّيهم أشخاصا عاديين، وذوي مبادئ، أو أشخاصًا لهم حُقُوق وواجبات… عندما لا يكون المعلمون مرتبطين بفريق ولا يوجد لدى الفريق خطة عمل واحدة أو لهجة واحدة أو مقاربة دقيقة واحدة، فلا يمكن أن تكون هناك عملية تعليمية… لا ينبغي أن نفرض العقوبة إلا في حالة انتهاك مصالح المجموعة، وفي حال انتهَك المُخالف واعيًا ومُتعمّدًا ومتجاهلا هذه المصالح”.

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.