ملاحظة 1: هذا التحليل محاورة لعقل جمهور العمق العروبي لصد تمظهرات الاستعمار الذي لم يرحل لأنه لم يُخلع، سواء تمظهراته القائمة، أو عودة الاستعمار أو استعادة الاستعمار.
ملاحظة2: حجر الارتكاز في خطاب الرجل عصر هذا اليوم، بأن الدولة اللبنانية مختصرة وممثَّلة في باتت تماما على المحك، فإما أن تُثبت أن هناك دولة، وإما أن مجهولا هائلاً آت. لقد ضرب الخطاب على عصب “الدولة الرخوة” . طبعاً سيقول خصومه….أها إذن سيقوم بخلع السلطة والحلول محلها. لا يعيقهم خلق فزاعات. لكن الرجل كمن يقول: دائما تقولون بأننا نقود الدولة، نؤكد لكم أننا لا، وإذا حصل تلاعب في كشف ملابسات الفاجعة، أقول ها قد بلغت…اللهم فاشهد.
صار قول الفيلسوف الألماني غوتة قولاً مأثوراً:
غوتة: “النظريات كلها رمادية اما شجرة الحياة فخضراء”.
ولكن ما يعطي الحياة معنى وجودها هو نحن، ونحن لكن وبشرط بعد تجاوز مرحلة القطيع في الوجود البشري. ما قيمة الحياة بدوننا كبشر واعين للحياة والوجود؟ لا يمكن سحب قول غوتة على مختلف النظريات، ويمكن سحبه بسهولة على بعضها. مثلاً: “نظريات ما بعد الاستعمار” لأنها رغائبية، وهي نفسها رغم زعمها المابعدية، إلا أنها تابعة وتقليدا لما قامت على اعتقاد زواله ولم يزُل أو يُزَل. هذه نظرية بحتة لا واقعا.
تقوم نظريات ما بعد الاستعمار على توهمات خروج الاستعمار على يد حركات التحرر الوطني من بلدان المحيط. وهي الحركات التي اسميها “الموجة القومية الثانية” التي هدفت اقتلاع الاستعمار. وبالتالي كانت نظريات ما بعد الاستعمار في الأدب والثقافة بل قامت على هذه الفرضية. اسميها فرضية لأنها قامت على ما ليس واقعاً. أي أن الاستعمار لم يخرج حقاً، بل بقي الاستعمار وجوداً وحضوراً مادياً ملموساً إلى درجة التحدي والعنف طبعاً بل وصلت علاقاته مع الأنظمة الجديدة إلى تصالح وتحالف، تحالف غير متوازن، يطلقون على دور كمبرادور المحيط فيه أو حصته Trickle-down Economy اقتصاد التساقُط. إنه التحالف الذي اسميته”تشكيل قطاع عام راسمالي معولم يقوم على تحالف راسمالية المركز المتقدم والمنتجة مع راسمالية المحيط الكمبرادورية في بزل القيمة الزائدة وتقاسم التراكم داخل وخارج حدو الدولة القومية.
إن إشكالية نظريات ما بعد الاستعمار في كونها جزء من الدراسات الثقافية التي تعتبر نظرية ما بعد الاستعمار احدى تشعباتها/تمفصلاتها. والدراسات الثقافية وإن بدت على شكل تقدمي، فهي جوهريا مشروع اختصار مختلف الثقافات في ثقافة واحدة هي ثقافة السوق وتحديدا الراسمالية الغربية وبهذا المعنى فالدراسات الثقافية هي نتاج تقليد نخبة من المحيط لثقافة المركز والتباهي بإنتاجها أدبيات على شاكلة أدبيات المركز الراسمالي.
بيت القصيد الذي نريده هنا هو أن نظريات ما بعد الاستعمار تتحاشى الأرضية المادية الانتاجية للمجتمعات، وتحديدا الاقتصاد السياسي لأنها تكشف التبعية وضآلة التغير عن القديم وتذهب إلى الأدب والثقافة حيث الصدام والصراع هناك ناعما ويحميه التساهل الذ ي وصل بكثير من المابعد حداثيين إلى إنتاج نظريات “التسامح”
إن خروج الاستعمار بثوبه العسكري وبقائه على شكل الشركة والتبادل اللامتكافىء وتمترس سلطة كمبرادرية تابعة وإحلال طربوش سياسي محلي محله لم يعن قط أن هذا البلد أو ذاك انتقل إلى مرحلة ما بعد الاستعمار، اي الاستقلال. فقد بقيت القاعدة المادية بيده أو بيد وكلاء فعلوا بالمجتمع أكثر مما فعل.
في زيارتي لجنوب إفريقيا عام 1994 اي بعد استلام السود السلطة، كان واضحا إلى حد فاقع أن البرجوازية البيضاء هي التي تملك وإن كانت شكليا لا تحكم. لذا كتبت مقالتي في كنعان ” جنوب افريقيا واقع ابيض بوشاح اسود”.(كنعان، العدد 54 تموز 1994 ص ص 17-20)
ولكي توضح الأمور، لا نقصد بأن الاستعمار لم يخرج لأن الأنظمة التي تلت مارست الاستغلال والقمع والتشبه بالاستعمار، دون تببي ديمقراطية برجوازية لبرالية غربية، بل لأن جزءا واسعا من المجتمع بقيت في بنيته ثقافة التبعية بل حتى الترحُّم على الاستعمار وصولا إلى مناداته. قد نتجاوز بالقول إن ظاهرة الحراكيين الجزائريين هي ظاهرة معممة في العديد من بلدان المحيط!
كتب كثيرون دراسات مضمونها بل عنوانها “عودة الاستعمار” أو استدعاء الاستعمار، ولكننا نعتقد ، بل يُعلِّمنا الواقع بأنه لم يخرج.
لا يمكننا تجاهل حقيقة أن ممارسات أنظمة كثيرة في المحيط دفعت كثيرين إلى القول، لو بقي الاستعمار افضل.
ولكن هذا لا يعدو كونه استدخالا للهزيمة لأن “الثورات” نفسها لم تكن ثورات حقيقية.
إن شرط الثورة واقتلاع الاستعمار قديمه أو حديثه لا تأتى إلا بشروط اجتماعية اقتصادية ثقافية طبقية سياسية بوابتها الوحيدة هي قدرة الشعب على ممارسة التنمية بالحماية الشعبية بدءا بالانسحاب إلى الداخل إنتاجيا وإستهلاكيا بوعي ، ومقاطعة منتجات الاستعمار، والضغط على السلطة بأن تلحق باقتصاد الحماية الشعبية ومغادرة اقتصاد السوق المحكوم بقانون القيمة المعولم.
ولذا، فإن تبني دولة ما سلطة ما حكومة ما مشروعا تنمويا من الأعلى، مثلا فك الارتباط او الدعوة للاشتراكية ، لن ينجح ما لم تكن القاعدة الشعبية هي التي افرزت السلطة ومشروعها.
لذا، سقطت اشتراكيات العديد من بلدان المحيط، وحتى بلدان المعسكر الاشتراكي، ولم يبق سوى كوبا وإلى حد ما كوريا الديمقراطية وتوكؤنا على النموذج الصيني الخليط الذي لم يُحسم بعد.
إن بوابة الحماية الشعبية هي الممر الوحيد الذي يمكن أن يؤسس للتنمية ومغادرة السوق العالمية ومن ثم فك الارتباط. كل هذا لا علاقة لنظريات ما بعد الاستعمار به حيث تهرب بعيدا عنه تماماً.
كنت كتبت المفارقة التالية في هذا الصد: “…فإذا كانت نظريات ما بعد الاستعمار، تدرس كيف تقوم قيادات دول ما بعد الاستعمار بخلق نفسها على شاكلة سادتها ، فإن الامبريالية الأمريكية تخلق علانية هذه القيادات على غير شاكلتها- هي اي امريكا-” (أنظر كتاب حدود البعد الثقافي: نقد أطروحات إدوارد سعيد، إعداد عادل سمارة، 2000، ص 5)
ولكي نقرب المسالة من الواقع العربي ومنظِّري ما بعد الاستعمار من العرب،
كتب ألان والد:
“…ولكونه طلعيا في اطلاعه على الأدب اليساري في الفلبين ، ومدافعا منذ زمن طويل عن الممارسات الماركسية الثورية ، فإن ل سان خوان نظرة متشائمة وحذرة تجاه المسار العام لنظرية ما بعد الاستعمار. ومن ناحية عملية، فانه يشارك اعجاز احمد صاحب الكتاب المعروف جدا “في النظرية” 1992، الذي اخذ وجهة نظر نقدية جدا ضد دور المدرسي من جامعة كولمبيا البروفيسور الناشط الفلسطيني ادوارد سعيد في محاولته تكييف مفكرين ماركسيين من طراز انطونيو غرامشي ليضعهم ضمن اجندة ما بعد الحداثة ، وفي تذرعه بالخدمة كوسيط ثقافي بين اهداف الامبريالية والاكاديمية الغربية. ” (ما هي نظرية ما بعد الاستعمار، في كتاب حدود البعد الثقافي: نقد أطروحات إدوارد سعيد، إعداد عادل سمارة، 2000،ص 8).
بدوره كتب سان خوان: “
” انني اعتبر ان ما بعد الاستعمار هو المنطق الثقافي لخليط متعدد الاشكال اعتبره مثابة المزاج الاساسي للحداثة المتاخرة / وهو منطق مفصول جدا عن ارضيتة واساسه الممثل في التفاعل غير المتزامن بين القوى الكولنيالية والتوابع المخضعة لها. ( حدود النقد المابعد كولونيالي:خطاب إدوارد سعيد، في: حدود البعد الثقافي: نقد أطروحات إدوارد سعيد، إعداد عادل سمارة، 2000،ص 10)
هنا يقوم سان خوان بتحديد اكثر حيث أن معظم من كتبوا في نظرية ما بعد الاستعمار هم من مثقفي الشتات من بلدان المحيط الذين انتقلوا إلى المركز ويتفاخرون بانهم تمكنوا من تحصيل قبول ثقافوية وأكاديميا المركز لهم، . بقول آخر، سعداء هم حيث تمكنوا من تحصيل “الإعتراف” . نظرية الاعتراف هي طموح النخبة العالمالثية بأن يقبلها أو تقبلها أكاديميا وثقافوية المركز .
لقد وضعت ماري لويز برات إصبعها على غياب اي نقد من قبل إدوارد سعيد للاستعمار الجديد. ” … هذا الفارق الزمني بين تتابع الاحداث فيما يخص الاستعمار وتراجع الاستعمار يبدو انها احدى الاسباب الاساسية التي ابقت على الامريكيين كليا خارج خريطة حركة الاستعمار والدراسات الاستعمارية بشكل عام” (1994 ص 40 و ص 18 في كتاب حدود البعد الثقافي: نقد أطروحات إدوارد سعيد، إعداد عادل سمارة، 2000).
بهذا التقط سان خوان مساومة إدوارد سعيد للإمبريالية الأمريكية، وكأنه في كتابه “الثقافة والإمبرالية” قد عالج حقبة تاريخية سابقة على حقبة عصر أمريكا، هذا مع أن الاستعمار الأمريكي هو قديم وجديد. فإذا كان التأريخ للإستعمار الأمريكي يبدأ بعد الحرب الإمبريالية الثانية، فإن استعمار واحتلالها الفلبين كان سابقا على هذه الحرب بعقود وهو احتلال راح ضحيته مليون فلبيني. وليست الفلبين سوى مثالا على أسبقية الاستعمار الأمريكي على الحرب العالمية الثانية وتكفي الإشارة إلى مبدأ مونرو.
يُعيدنا مقال الراحل الفيلسوف والشاعر احمد حسين مجدداً إلى تجاوز البعد الثقافي دخولا في العمق إلى الجوهر المادي في علاقات الاستعمار:
“… هذا الوعي الدنيء بالمعنى التطوري، ظل مسلَّمة التاريخ المعرفية حتى ظهور الماركسية. وهو وعي يشكل الاطار المعرفي لذاته، أي انه وعي يدارس الثقافة بالثقافة، ويعتبر ما يسفر ذلك عنه معرفة. وبالتماهي الناقد – البالغ الحدة احيانا- يحاول ادوارد سعيد تنقية ” التجربة الامبريالية العظيمة” من شوائبها وهي شوائب متاتية عن احتدامات شخصية المصدر في السرد والتمثيل – في سبيل تبني تلك التجربة العظيمة كمصدر معرفي ثقافي ، او ثقافي معرفي لبداية جديدة للتاريخ . وهذا التاريخ الجديد هو تاريخ اعجازي سوف يسفر عن عولمة الثقافة بدون عولمة مستويات الدخل القومي او الفردي ، وعن الغاء الحدود الثقافية بدءا بجوازات السفر وانتهاء بالرسوم الجمركية ، بدون المس بنظام النقد الدولي. سيكون هناك عالم من الناس الموحَّدي الثقافة يهمشون الاقتصاد والسياسة والتراتب الاجتماعي لأنهم سينتجون ثقافتهم بانفسهم انتاجا ثقافيا خالصا مثل ادوارد سعيد، ومحمود درويش –على سبيل المثال- وأبي الطاهر الجنابي (الاسم المستعار لأحد القوميين الثقافيين الإسرائيليين العرب- أي عزمي بشارة –ع.س) ( احمد حسين، تداعيات حول ظاهرة ادوارد حدود النقد المابعد كولونيالي:خطاب إدوارد سعيد، في حدود البعد الثقافي: نقد أطروحات إدوارد سعيد، إعداد عادل سمارة، 2000 ،ص 45).
بقي أن نُشير في حالة إدوارد سعيد إلى تمثُّله التام حد التطابق مع الثقافوية والذي عبر عنه في حديثه لطلبة جامعة بير زيت في الأرض المحتلة حيث دعى للنضال الثقافي لأن النضال التقليدي (برأيه) غير ممكن لأننا لا نملك الطائرات والقنابل النووية (17 -1-1998).
والنضال الثقافي لدى إدوارد سعيد هو حافزه للدعوة إلى ما اسماه “التفكير الجديد” الذي على الفلسطينيين أن يبحثوا عنه أو يقوموا به، اي بدل المقاومة المسلحة والتحرير…الخ.
عودٌ إلى لبنان، فربما لا نتجاوز إذا ما اشرنا إلى أن تيار الفرانكفونية في لبنان هو عابر للطوائف هناك بدل أن يكون تيار المقاومة. لذا، دُهشت الفرانكفونية اللبنانية بزيارة ماكرون وألقت بنفسها في حضنه عارية تماما في حركة أقرب إلى الإسقاط الجنسي.
لذا، لم يتردد ماكرون في انتضاء سيف الاستعمار، فأبلغ المبتهلين له بأن على لبنان إنشاء نظام سياسي جديد ودستور جديد، وخاطب “الجمهور” واستصغر السلطة، وربط المساعدات بحسن سلوك “الطفل اللبناني أو القاصر” وحصر المساعدات بيد المصرف الدولي على أن تُوجه وتسري من وعبر قنوات منظمات الأنجزة. وبذا رد على التوابع بما يليق بهم.
هامش: فوجئت بمحلل محترم وعتيق حيث قال على إحدى الفضائيات: “انا من محبي فرنسا” وطبعا نقد فرنسا في السياق! كيف معاً؟
في الدولة الرخوة فقط يكون كل هذا الفساد، وفي الدولة الرخوة فقط تطغى الثقافوية على الواقع المادي الملموس، ويصبح التناقض ثقافوي لا طبقي اجتماعي اقتصادي، تحل الثقافة محل الاقتصاد السياسي، والتسامح محل مطاردة الاستعمار وتدفيعه “فائض القيمة التاريخي –انور عبد الملك” الذي قشّطه من المستعمرات.
بقي أن نشير إلى أن مؤسس نظرية ما بعد الاستعمار من مدخل نقدي لما يسمى ما بعد الاستعمار وبتحذير من أن الأنظمة التي استقلت سياسياً أبقت على الاستعمار في بَدَنها وعقلها هو فراتز فانون. وهو مختلف تماما عن مختلف مُنظِّري ما بعد الاستعمار.
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.