الراحل سمير أمين كما يراه رفيقه إعجاز احمد

إعجاز أحمد

ترجمة أحمد البلتاجي

ترجمتي للمقالة البانورامية والنقدية العميقة، التي تناول فيها المفكر الماركسي الهندي إعجاز أحمد متبحرًا سيرة ومنجز زميله سمير أمين، مُقدِّمًا بها كتاب أمين القيِّم “وحدهم الناس يصنعون تاريخهم”

«[…] وأن يكون المرء ماركسيًّا يعني استكمال العمل الذي بدأه ماركس، حتى وإن كانت تلك البداية في منتهى القوة، إنه لا يعني التوقف عند ماركس، بل البدء من عنده. وماركس ليس نبيًّا استنتاجاته جميعها “صحيحةٌ” و”نهائيةٌ”، وعمله ليس نظريةً مقفلةً، فماركس “بلا ضفاف”، لأن الانتقاد الذي بدأه بلا ضفاف، يحتاج دومًا للاستكمال والانتقاد (“الماركسية كما تتشكل في لحظة معينة يجب أن تخضع للانتقاد الماركسي”).»

سمير أمين (1931-2018) كان واحدًا من أعظم المفكِّرين في عصرنا . مُنظِّرٌ بارزٌ، أفنى ردحًا تجاوز الستين عامًا من عمره في النضال السياسيِّ على أكمل ما يكون. اشتراكيٌ منذ مقتبَل شبابه، تمرّس كاقتصاديّ، وشدَّد على أنّ قوانين العلم الاقتصاديِّ، متضمِّنةً قانون القيمة، تخضع في عملها لقوانين المادية التاريخية. كرياضيّ متمرِّسٍ كذلك، تجنّب بدرجةٍ كبيرة إغراق مفاهيمِه في الطابع الرياضي واستعمل المعادلات الجبرية في أضيق الحدود حتى ضمن أكثر كتاباته تخصُّصًا. كان شغفه الدائم يتمثَّل في الاحتفاظ بالدقة النظرية، والتواصل في الآنِ ذاته مع أكبر عددِ ممكنٍ من القراء -والمناضلين تحديدًا- عبر العرض النثريِّ الاعتياديِّ والمباشِر نسبيًا. كان جمهور قرائه، كما نشاطه السياسيُّ، يمتد عبر بلدانٍ وقارات.
شبَّ أمين عن الطوق في الخمسينيات، حينما بدى أن موجة الثورات الاشتراكية تتصاعد بوضوحٍ يينما الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة تتفكك بطول آسيا وأفريقيا. نشأت الأحزاب الشيوعية والحركات الاشتراكية في هذه القارات، في آسيا أكثر منها في أفريقيا، حتى قبل الحرب العالمية الثانية. شهدت بداية فترة ما بعد الحرب اتساعًا هائلًا للنشاط الثوريِّ (الثورةالصينية، كوريا، اندلاع حركات التحرر الوطني الثورية في الهند الصينية وغيرها). مع ذلك، وبالاستثناء الجليِّ للصين، فإن معظم الدول في هذه القارات أنتجت قدرًا ضئيلًا نسبيًا من الكتابات الأصيلة في ميدان المعرفة النظرية الماركسية. دراسة الماركسية كانت تعني غالبًا الشرح و/أو الترجمة لنصوصٍ كُتبت في مكانٍ آخر، وهو ما كان بدوره مقتصَرًا على النصوص المختصَرة للغاية أو الاقتباسات من الكلاسيكيات الماركسية أو التخريجات المُعَدَّة في بريطانيا، فرنسا، أو الاتحاد السوڤييتي. لقد بدأ هذا الوضع في التغير، بعِدّة طرقٍ ملحوظة. أولًا، قد شهدنا ظهور جيلٍ جديدٍ من الدارسين-المناضلين الماركسيين في آسيا وأفريقيا طيلة السنوات التي أخذت فيها الإمبراطوريات الاستعمارية بالتفكك. ثانيًا، عددٌ من هؤلاء المفكِّرين الجدد، غالبًا ما ارتبط بأحزابٍ شيوعيةٍ أو حركات تحررٍ وطنيّ، أضافت إلى أعمالهم معرفةً ازدادت تطورًا بأكثر الكلاسيكيات أساسيّةً: الأعمال الكبرى لماركس، لينين، لوكسمبورج، بوخارين، كاوتسكي وآخرون. ثالثًا، توجَّهَ الاهتمام إلى التحليل الشامل والدقيق لـ: 1- التطور التاريخي، أنماط الإنتاج والبِنى الطبقية، ليس في أوروبا بقدر ما في الدول الآسيوية والأفريقية. 2- الآليات المُفصَّلة التي ينطوي عليها استغلال البلدان المضطهَدة إمبرياليًا، أي العملية التي يتم خلالها تخصيص القيم المنتَجة في المستعمرات لتحقيق التراكم في المراكز الإمبريالية.
سيكون إيراد بضعة تواريخٍ كفيلًا يتوضيح هذا. فعلى سبيل المثال، تقدَّم أمين بأطروحته للدكتوراة البالغة 629 صفحة إلى جامعة باريس في عام 1957 ونشرها لاحقًا في كتابٍ من جزئين: التراكم على الصعيد العالمي (الطبعة الفرنسية 1970، الطبعة الإنجليزية 1974). في غضون تلك السنوات تقريبًا، شهدت الهند نشر ثلاثة كتبٍ كانت بمثابة الأساس الذي قام عليه علم التاريخ الماركسي الهندي: كتاب ” د. د. كوسامبي “مقدمة لدراسة تاريخ الهند (1956)، كتاب عرفان حبيب “النظام الزراعي في الهند المغولية” (1963)، كتاب ر. ش. شارما “الإقطاع الهندي” (1965). عبر المحيط، في أمريكا اللاتينية، ظهرت أيضًا كافة النصوص المؤسِسَة لمنظِّري مدرسة التبعيّة -ثيوتونيو دوس سانتوس، سِلسو فورتادو، روي ماورو ماريني، أندري جوندر فرانك وآخرون- في الستينيات وأوائل السبعينيات . نظريًا، كان أمين أقرب إلى بول باران الذي نشر كتابه “الاقتصاد السياسي للتنمية” عام 1957، في الوقت ذاته الذي قدَّم فيه أمين أطروحته الضخمة. سرعان ما تبعهما، العمل الكلاسيكيَّ العظيم في الاقتصاد السياسيِّ الماركسيِّ الذي ألَّفه باران بالتعاون مع سويزي “رأس المال الاحتكاري”، في 1966. أضحى بذا تشريح الإمبريالية نافذًا إلى قلب هذا الفكر الماركسي الجديد حول العالم، وباتت الماركسية أداةً فعَّالةً للفكر والأبحاث التحررية عبر القارات الثلاث (آسيا، أفريقيا، أمريكا اللاتينية). باحتساب هذين الملمحَيْن الهامَّيْن، تظهر أطروحة أمين بين النصوص السبّاقة لإعادة رسم معالم ماركسية ما بعد الحرب بصورةٍ مائزةٍ، كما سنحاجج لاحقًا.
كان أمين يتقن عدَّة لغاتٍ بيد أنه كتب بالفرنسية في المقام الأول. كان كاتبًا غزيرًا بشكلٍ مدهش، أنتج كتبًا ومقالاتٍ بسرعةٍ فائقةٍ إلى أن أسكَت الموت ذاك العقل الخِصب. لا تتوفر كافة أعماله بالإنجليزية. ظهرت بعض الترجمات في مطبوعاتٍ أخرى، لكنه في المجمل، كانت صحيفة مونثلي ريڤيو الناشر الأكثر تفانيًا بالدرجة الأولى لأعماله المنقولة للإنجليزية. هذه المجموعة تضم إحدى عشرة مقالةً تحليليةً لأمين نشرتها الصحيفة منذ عام 2000. هنالك غيرها مما نشرته مونثلي ريڤيو خلال تلك الفترة . الغاية هنا هي تجميع عددٍ من أوراقه التحليلية السَلِسَة والتي بإمكانها الإضاءة على بعضٍ من أهم إحداثيات فِكر أمين الرئيسية في السنوت الأخيرة من حياته. هذه المقدمة مُعَدَّةٌ لا لشرح هذه النصوص بل لوضعها ضمن النسيج الأشمل لحياته الذي تواشج فيه الشخصيُّ مع السياسيِّ والنظريِّ، بحَبكةٍ مُحكَمة.

1

نشر سمير أمين كتابين يتدبَّر فيهما سيرته الذاتية. في إعادة قراءة مرحلة ما بعد الحرب، قدَّم إعادة صياغته الخاصة لرؤاه السياسية وأفكاره النظرية كما تطورت من عِقدٍ إلى التالي، حتى بداية التسعينيات . حقيقةُ أنه وصل إلى باريس ليبدأ دراسته الجامعية في 1947، وهي السنة التي نالت فيها الهند استقلالها، تذكِّرنا بأن سنوات رُشدِه وافقت بالضبط الفترة التي يستعرضها بالفحص. كان شيوعيًا شابًا وناشطًا طلابيًا في فرنسا، في ظل حروب التحرر العظيمة والمريرة التي خاضتها المستعمَرات الفرنسية: ڤييتنام والجزائر. كان تفكك الإمبرطوريات الاستعمارية البريطانية والفرنسية الحدث التاريخيَّ الأبرز في شبابه. أصبح التداخل بين الاستعمار، إمبريالية ما بعد الاستعمار، وتراكم رأس المال، مُحتلًا للموقع المركزيِّ في عمله الفكري كما في نشاطه السياسيِّ طيلة حياته. في رأس المال والكتابات المتصلة به، صاغ ماركس التصور العلميَّ لنمط الإنتاج الرأسمالي كما تطور في أوروبا، في بريطانيا خصيصًا، حتى عصره. في أعمالٍ أخرى، كالجروندريسة والدفاتر الإثنوجرافية المتأخِرة، تكلَّم ماركس مُطوَّلًا عن العالم خارج أوروبا لكن في الأغلب عن التشكيلات ما قبل الرأسمالية. لقد كتب باستفاضةٍ تفصيليةٍ غلُب عليها التبصُّر البالغ عن الاستعمار، في معظمها تصويرٌ واقعيٌ وإدانةٌ سياسيةٌ، بجانب بضعة تعليقاتٍ متفرِّقةٍ ذات أهميةٍ نظريةٍ راسخة. بالنسبة لماركس، فإن مَيلًا قسريًا للعولمة كان متأصِّلًا في طريقة عمل رأس المال بذاتها. على أيَّةِ حالٍ، بعيدًا عن هذه التنبؤات المتكررة، فالجسم الحقيقيُّ لعمله لا يحيط بالرأسمالية التي في طريقها لتغدو نمطًا تامًا معولَمًا للإنتاج -ليس على صعيد التملك، الانتزاع، والتداول فحسب- على هيئة: أولًا، الإمبريالية الاستعمارية، من ثَمَّ، وبقوةٍ أكبر إثرَ انحلال الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة؛ ولا كان الربع الثالث من القرن التاسع عشر فترةً ملائمةً لإنتاج نظريةٍ كتلك. كان مشروع أمين المتمايز في أطروحته للدكتوراة والتي نُشِرت لاحقًا في كتابه التراكم على الصعيد العالمي، يقوم على تطبيق المقولات النظرية في رأس المال لدراسة النمط الرأسماليِّ بينما يتمدد عالميًا بواسطة الاستعمار، بإدغامه لبِنى الاستغلال والتراكم التي دامت بعيدًا عقب زوال الحقبة الاستعمارية. بالنسبة له، كما لقلَّةٍ من ماركسيين آخرين، شكّلت نهاية الحقبة الاستعمارية نقطة تحولٍ مصيريةٍ في تاريخ الحرية الإنسانية مُشرِّعةً الأبواب لدروبٍ جديدةٍ للنضالات التحررية لشعوب القارات الثلاث، على أنها ليست انقطاعةً جذريةً في تاريخ الرأسمالية أو الإمبريالية بحدِّ ذاتهما. الغموض التاريخيُّ لهذا الظرف نشهده في ظل حقيقة أن فترة ربع القرن، ما بين 1945 إلى 1970، التي اكتنفها تحلل تلك الامبراطوريات الاستعمارية بدرجةٍ كبيرة، هي ذاتها ما اعتُبر تاريخيًا “العصر الذهبي للرأسمالية”. هذا التصميم على قراءة ماركس بشكلٍ إبداعيٍّ على ضوء التطور اللاحق للنمط الرأسمالي ظل خيطًا رئيسيًا في مُنجَز أمين طيلة حياته، حتى كتابه قانون القيمة المُعولَمة (2010) وما تلاه. وهو ما سنلبث أن نعود إليه.
يروي إعادة قراءة مرحلة ما بعد الحرب مراحل تطوره الثقافي في علاقته بالملامح والأحداث الرئيسية لتلك الفترة. الأجزاء المتأخرة في سيرته الذاتية الأخرى، A Life Looking Forward (حياة آمِلة)، تعيد تشكيل ذات الدليل السياسي-الفكري بصورةٍ شخصيةٍ أكثر، لكن في الأجزاء المتقدمة من الكتاب نجد سردًا مفعمًا بالحيوية لنشأته في عائلةٍ فريدةٍ وتوجهه المبكر نحو السياسات الثورية، بذا تبدو حياته، من بدئِها حتى منتهاها، ملتحِمةً في كلٍّ متكامل. تبدأ هذه السيرة ذات الطابع الشخصي بجملةٍ بسيطةٍ: «الأسلاف مُهِمُّون»، ليتبعَها في ذات الفقرة الافتتاحية: «بالتأكيد كانت عائلتي، من جهة والدتي ووالدي، تذكِّرني بين الحين والآخر بأن ما علماني إياه كان “إرثًا” يرتبطان به بشدة». مع أبٍ مصريٍ وأمٍّ فرنسيةٍ، كان لهذا “الإرث” جانبان: «… التقى والداي في ستراسبورج كطالبيّ طب في العشرينيات. كان لقاءً بهيجًا بين خطيّ اليعقوبية الفرنسية والديمقراطية الوطنية المصرية–من وجهة نظري، التقليدان الأفضل في تاريخ البلدين».
كانت عائلة الأب تنتمي للطبقة العليا القبطية، كجزءٍ من عالمٍ كوزموبوليتانيّ مصغَّرٍ يجمع المسيحيين والمسلمين المصريين، واليونانيين، والأرمن، والمالطيين بالإضافة للفرنسيين والبريطانيين الوافدين المستوطِنين والمنتشرين في القاهرة، وبصورةٍ أوسع في الإسكندرية وبورسعيد، وعمومًا في منطقة التقاء دلتا النيل الخصيبة في مصر السفلى بالساحل المصري قبالة البحر الأبيض المتوسط. كانت العائلة، التي ضمت عددًا من الناشرين والكتّاب المعروفين في القرن التاسع عشر، جزءًا من وسطٍ يُثمِّن القناعات الديمقراطية العلمانية، والتعليم العالي، والدرجات الوظيفية، وشكلٍ من التنوير البرجوازي الليبرالي الذي يزدري كافة صنوف الإقطاع والمحافَظة. كان والده، الطبيب والبرجوازي ذو الوجدان الاشتراكي، معارضًا للاستعمار البريطاني والملكية، مفضِّلًا الشيوعيين على القوميين الديماجوجيين، بما فيهم ناصر. على الجانب الآخر من عائلته، يقتبس أمين عن جده لأمه، الماسوني والاشتراكي، حين أوضح له مرةً، «نحن الألزاسيون، ساعدنا على صنع الثورة الفرنسية ونعرف معنى وثمن الحرية.». بالنسبة لجدته لأمه، فقد «ولدت عقب كوميونة باريس في 1874… كانت سليلة الثوري الفرنسي جان بابتيست درويه، الذي شارك في اعتقال لويس السادس عشر عام 1791… كانت جدتي شديدة الفخر بسلفها، الذي كان ناشطًا أيضًا في الحركة البابوفية… بالنسبة لاسم جدتي، زيلي، فقد كان شائعًا في القرن التاسع العشر، لكنها أخبرتني أنها سُمِّيَت تيمنًا بمناضلة الكوميونة زيلي كاميلينا.». كانت هذه الجدة تنفر من الدين وتفضل إحياء الشعار التنويري “لا إله، لا سادة”، الذي تشاركه أناركيو القرن التاسع عشر أمثال باكونين مع ماركس.
الوفدية الديموقرطية، مناهضة الاستعمار اليسارية، والعداء للملكية من جانبٍ؛ الذكريات العائلية لاغتيال الملك في الفترة الجمهورية والثورية، الشيوعية البابوفية وكوميونة باريس على الجانب الآخر: “إرثٌ” رائعٌ وعظيمٌ حقًا!. نشأ أمين في هذه العائلة المُحبَّة، السعيدة، ذات الإرث الممتد والمتكاملة، مع توجهاتٍ سياسيةٍ وروابطَ تاريخيةٍ واضحةٍ لا لبس فيها، وذهب للمدرسة خلال الحرب العالمية الثانية حينما كانت بريطانيا لا تزال تُشكِّل وجودًا استعماريًا وآمرةً للملكية المصرية بينما كان التقدم الألماني عبر المنطقة عندها احتمالًا بعيدًا. لم تكن مدرسته الثانوية، الليسيه الفرنسية، محصَّنةً من مختلف التيارات السياسية في المجتمع المصري: الملكيون ومناهضو الملكية، القوميون من بأنواعهم، وبالطبع الشيوعيون. يكتب أمين عن انتمائه الجِذري لمجموعة الطلاب الشيوعيين. عقب إنهاء دراسته الثانوية التحق رسميًا بالحزب الشيوعي المصري. عندما سأل أندري جوندر فرانك والدة أمين عن الوقت الذي أصبح فيه برأيها شيوعيًا، قصّت الأم بحس فكاهةٍ جيدٍ طرفةً عن طفولته وخمَّنت أن هذا كان في السادسة من عمره.
السنوات العشر التي انقضت بين 1947 حينما وصل أمين إلى باريس ليبدأ دراسته الجامعية -ملتحِقًا بالحزب الشيوعي الفرنسي سريعًا، بعدما التحق بالحزب الشيوعي المصري عقب إنهاء دراسته الثانوية- و1957 حينما تقدم بأطروحته للدكتوراة، كانت بالطبع سنوات الحروب العظمى للتحرر في المستعمرات الفرنسية: الهند الصينية والجزائر، كما تقدَّم، التي أدَّت إلى استقطاباتٍ مريرةٍ داخل المجتمع الفرنسي بين قطاعات أنصار الحرب ومناهضيها من الناشطين، المفكِّرين، الكليات الجامعية والطلاب، وعموم السكَّان. كان هذا أيضًا العِقد الأخير للدور الهائل الذي لعبه الحزب الشيوعي الفرنسي في الحياة السياسية الفرنسية، قبل بداية الانحدار، وللماركسية باعتبارها المسألة الرئيسية في الحياة الثقافية الفرنسية (ما يظهر، على سبيل المثال، في انتقال سارتر من الوجودية إلى الماركسية ، وعلى النقيض تخلي ميرلو بونتي عن الماركسية لصالح موقفٍ ليبراليٍّ-يساريٍّ). كانت فرنسا أيضًا موطنًا لجيوبٍ صلبةٍ من الطبقة العاملة المهاجرة المجلوبة من مستعمراتها في شمال أفريقيا، خصوصًا الجزائر. باريس ذاتها كانت مركزًا ثقافيًا رئيسيًا للطلاب، المناضلين، الأدباء والمفكِّرين مناهضي الاستعمار من المستعمرات الأفريقية والكاريبية منذ الثلاثينيات، حينما كان اللامعون أمثال سينجور والزوجين سيزير (إيمي وسوزان) ضمن المجموعة التي ابتكرت تيار الزنوجة، كحركةٍ أدبيةٍ تميزت بمواقفَ سياسيةٍ وفلسفيةٍ يساريةٍ وغالبًا ما مزجت بين أيديولوجيا الوحدة الأفريقية والشعرية السوريالية. فانون (أحد تلامذة إيمي سيزير) وصل عام 1946 من مستعمرةٍ فرنسيةٍ أخرى، المارتينيك، لدراسة علم النفس في ليون، في معهدٍ حيث كان ميرلو بونتي -صاحب التأثير الرئيسي على فانون- يدرِّس الفلسفة. وصل أمين إلى فرنسا بعدها بعامٍ، في 1947، وأسس أليون ديوب المجلة الأسطورية Présence Africaine (حضور أفريقي) في العام ذاته، ليعمل بعدها على تأسيس دار النشر الأسطورية بالمثل Présence Africaine Editions (إصدارات الحضور الأفريقي)، بعدها بعامين في 1949. في 1956، قبل عامٍ من إكمال أمين لأطروحته للدكتوراة، نظَّمت دار النشر -التي باتت أهمَّ ناشرٍ في العالم للكتَّاب من أصولٍ أفريقية (أو كما يمكننا القول الآن، الكتاب من أصولٍ أطلسيةٍ سوداء)- المؤتمر الأول للأدباء والفنانين السود (الذي صمم بيكاسو منشوره الدعائي). شهدت فترة السنوات العشر نشر أربعة أعمالٍ كلاسيكيةٍ من الأدب المناهض للاستعمار التي ركزت بشكلٍ كبيرٍ للغاية على التجربة الأفريقية الأوسع: كتابيّ فانون: “جلد أسود، أقنعة بيضاء”(1952) و”معذبو الأرض”(1961)؛ كتاب إيمي سيزير “خطاب عن الاستعمار” (1961) وكتاب ألبير ميمي “المستعمِر والمستعمَر” (1957). هذه ليست كتبًا في الاقتصاد السياسي لكن ما يجمعها بأطروحة أمين التي قدمها وسطَ هذا الفوَران الثقافي المناهض للاستعمار هو القناعة المشتركة، المعروضة والموثَّقة باستفاضةٍ، بأن الاستعمار أنتج عالمًا ثنائيَّا -عالمًا بالمعنى الحرفي- يستحيل تقويمه بواسطة أي نوعٍ من الإصلاح أو التسوية بل ينبغي تدميره وإعادة بنائه على أسسٍ ثوريةٍ مغايرةٍ بالكُليَّة. أمين وسيزير كانا شيوعيين بالطبع عند هذه النقطة من حياتهما. تنقّل فانون بين الحلقات الشيوعية في سنين دراسته، فدرس الماركسية بدَأبٍ مثلما قرأ الوجودية ونيتشه، وتم ضمُّه إلى حركة التحرر الجزائرية من قِبَل قائد جناحها اليساري عبان رمضان، وقرب نهاية حياته سيحاضر مجموعاتٍ منتقاةٍ من تلك الحركة عن كتاب سارتر نقد العقل الجدلي، كونَهُ فعليًا آخر الأعمال الفلسفية العظيمة (وغير المنتهية) في الماركسية الغربية. كان سمير أمين بدرجةٍ كبيرةٍ ابن هذا الفوَران وجزءًا منه. مع ذلك، تجلَّى اختلافه ومُنجَزه المائز، بأنه على خلاف آخرينَ قدموا أعمالًا بارزةً في الأدب والجماليات (الاستاطيقا)، النظرية السياسية، الأنثربولوجيا النفس-جنسية أو الديالكتيك الفلسفي المادي؛ كان يصبو إلى نظريةٍ ماركسيةٍ صارمةٍ في الاقتصاد السياسي لهذا الانقسام الجِذري بين المستعمِر والمستعمَر، مُعبَّرًا عنه في بنيةٍ للرأسمالية العالمية قائمةٍ على علاقة المركز-الأطراف التي يستحيل تقويمها سوى بالانقلاب التام على الرأسمالية ذاتها.
قمنا باستعراض هذه التفاصيل المعدودة، للإشارة إلى تركيبة واتجاهات العالم الاجتماعي الذي تأسس عليه بِنيان أمين الثقافي والسياسي. في حياته الشخصية، ربما كان أكثر انجذابًا إلى عائلة أمه دون عائلة أبيه، كما نظر إلى الثورة الفرنسية باعتبارها الحدث الأوحدَ الأكثرَ إبداعًا في التاريخ الحديث. مع هذا، كان تجانسُه قويًّا بالهوية المصرية والإفريقية عمومًا. بعدما قدَّم أطروحته، رحل إلى مصر وقتما كان ناصر في ذروة شعبيته عقب تأميم قناة السويس في يوليو 1956 وقيادة مصر إلى بر الأمان خلال العدوان الثلاثي لاحقًا في ذات السنة (شنَّته المملكة المتحدة، إسرائيل وفرنسا سويًّا). تولى أمين منصبًا في إدارة التنمية الاقتصادية الناصرية، التي استقال منها عقب ثلاث سنواتٍ في 1960، نظرًا للمعوِّقات التي واجهها في عمله وقمع ناصر المتزايد للشيوعيين. انتقل بعدها إلى مالي المستقِلة حديثًا حيث عمل في وزارة التخطيط للسنوات الثلاث التالية. عقب تعيينه أستاذًا للاقتصاد في فرنسا اختار التدريس في جامعات بواتييه، ڤانسِن وداكار. منذ 1970 فصاعدًا عمل كمديرٍ للمعهد الأفريقي للتخطيط الاقتصادي التابع للأمم المتحدة بالسنغال. لاحقًا، تولّى عددًا من المناصب الأخرى التي تضمَّنت: مدير المكتب الأفريقي لمنتدى العالم الثالث ورئيس المنتدى العالمي للبدائل، بينما ظلَّت داكار قاعدةً رئيسيةً لعمله رغم ارتحاله حول العالم وبقاءه مقيمًا في باريس. بين تقدُّمِه بأطروحة الدكتوراة عام 1957 وإعادة كتابتها للنشر في كتابٍ من جزئين: التراكم على الصعيد العالمي عام 1970، قام بنشر سبعة كتبٍ -جميعُها، بشكلٍ ملحوظٍ- عن دولٍ ومناطقَ مختلفةٍ في أفريقيا: مالي، غينيا، غانا، ساحل العاج، والسنغال؛ كتابين عن المغرب؛ وكتاب الصراع الطبقي في أفريقيا (1969) الغني بالإحالات عبر القارة الأفريقية. هذا كله بالإضافة إلى مشاركته العملية في عددٍ من الحركات السياسية في عدة دولٍ أفريقية. لا عجب أنه في أفريقيا كان يُنظَر إلى أمين كمفكِّرٍ أفريقيّ أكثر مما هو عربيٌّ.

2

تفككت الإمبراطوريات الاستعمارية العظمى السابقة خلال الثلاثين عامًا التي تلت الحرب العالمية الثانية. مع بلوغ هذه العملية خاتمتَها الكبرى بتحرير ڤييتنام في 1975 وانتهاء السيادة البرتغالية التي دامت 470 عامًا على المستعمرات الأفريقية في العام ذاته. كان ذلك، للأسف، جانبًا واحدًا فقط للتركيب التاريخي لتلك الحِقبة. لأن هذه السنوات ذاتها قد شهدت ولادة إمبراطوريةٍ أشدّ بأسًا غيرَ مسبوقةٍ تاريخيًا على المقياس العالمي؛ لقد كتبت في موضعٍ آخر أن حربين عالميتين قد خيضتا لتحديد ما إذا كانت ألمانيا أم الولايات المتحدة من سيرث الأرض عندما تذوي الإمبراطوريات الاستعمارية الأقدم. في الواقع، حققت الولايات المتحدة ما لم يتعدّى مخيِّلة النازيين: الهيمنة العالمية، اقتصاديًا، عسكريًا، سياسيًا؛ وحتى ثقافيًا. وحدها الدول الاشتراكية ظلت بمنأىً عن تلك السطوة لبعض الوقت لكن تحت حالةٍ من الحصار الدائم، حتى تفسّخت بدورها أنظمة تلك الدول مع نهاية ما أسماه إريك هوبزباوم القرن العشرين الوجيز (1914-1991). نجحت الليبرالية بذا فيما فشلت فيه الفاشية؛ في الثمانينيات، حينما كان مصطلح “نيوليبرالية” غير شائعٍ بعد، كان بعض الدراسين يصفون طراز الولايات المتحدة من الليبرالية بـ “الفاشية الصديقة”.
امتلك المشروع الأمريكي لإقامة إمبراطوريةٍ عالميةٍ الذي انطلق مباشرةً عقب الحرب العالمية الثانية أربعةَ عناصرٍ رئيسيةٍ. أولًا، تقدير الأهمية الفائقة لأخذ الولايات المتحدة بزمام القيادة الاقتصادية والعسكرية من المراكز السابقة للرأسمال العالمي في أوروبا الغربية واليابان: خطة مارشال (1947)، حلف الناتو (1949)، معاهدة سان فرانسيسكو (1951). هذا يعني أيضًا، بشكلٍ جوهريّ، أن كافة القوى السياسية المهيمِنة في أوروبا واليابان -من الاشتراكيين الديمقراطييين إلى الفاشيين- أضحوا جزءًا من حملةٍ عالميةٍ معاديةٍ للشيوعية بقيادة الولايات المتحدة . ثانيًا، كان هناك جهدٌ جماعيٌّ لتأسيس منظومةٍ متقَنةٍ لما يمكن تسميته بتعبيرٍ حديثٍ “الحوكمة العالمية”، في قلبها مؤسساتٍ كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي للإدارة الاقتصادية والمالية والأمم المتحدة للإدارة السياسية. الأدبيات عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إلخ؛ وعن سُلطة الولايات المتحدة للتحكم في هذه المؤسسات تملأ مجلداتٍ. البِنية المؤسساتية ثنائية التمثيل للأمم المتحدة لعبت دورًا هامًا. جميع الدول-الأمم، كبيرها وصغيرها، والتي كانت تعتبر ذات سيادةٍ على أقاليمها مُنِحَت عضوية الجمعية العامة التي امتلكت بالأحرى قدراتٍ محدودةً على صناعة القرار. قدرات صناعة القرار الحقيقية كانت مُستبقاةً بشكلٍ رئيسيّ لمجلس الأمن الذي تمتلك الولايات المتحدة وحلفائها فقط عضويته الدائمة، بالإضافة للاتحاد السوڤييتي منفردًا؛ واحتفظت تايوان بالمقعد الصيني حتى 1971. ثالثًا، القارات الثلاث بأكملها كان من المقرَرِ احتجازها ضمن منظومةٍ من التحالفات المتشابكة التي تقودها الولايات المتحدة، ممثلةً بتأسيس منظمة الدول الأمريكية (OAS) في أبريل 1948، حلف جنوب وشرق آسيا (SEATO) في سبتمبر 1954، ومنظمة حلف الشرق الأوسط (سُمِّيَ فيما بعد منظمة الحلف المركزي-CENTO) في 1955. عندما رفض عددٌ كبيرٌ من البلدان الانضمام إلى تلك المنظمات تم إعلانها “لا أخلاقية”. أخيرًا، حربٌ عالميةٌ دائمةٌ (ساخنةٌ كانت أم باردةً) كانت تُشنُّ ضد الشيوعية إضافةً إلى قومية العالم الثالث الاقتصادية. أيّة حكومةٍ في أيّة بقعةٍ من القارات الثلاث حاولت السعي إلى ما أسماه أمين لاحقًا “المشروع السِيادي” كان يتم التخلص منها بأي وسيلةٍ يقتضيها الأمر، من لومومبا ونكروما في أفريقيا إلى جولارت وأييندي في أمريكا اللاتينية.
عمَل سمير أمين عن الإمبريالية يمكن تقسيمه بصورةٍ تقريبيةٍ إلى مرحلتين. هنالك المرحلة المبكرة القصيرة، 1957-1970، حينما كان مشغولًا بالنظرية العامة للتراكم الرأسمالي عبر الحقبة الكولونيالية الطويلة والحقبة النيوكولونيالية المنبثِقة، وبتأثير هاتين العمليتين على البلدان الأفريقية. هذا النوع من العمل النظري استمر في السنوات التالية أيضًا، ليبلغ أوجَه عام 2010 في كتابه الصغير عن قانون القيمة المُعولَمة، المُشار إليه آنفًا. مع هذا، وعقب بداية السبعينيات، بدأ في الكتابة بصورةٍ مفصّلَةٍ عن التاريخ السياسي للإمبريالية، الشيوعية وحركات التحرر الوطني في زمنه، وعن التغيّرات البنيوية التي مرّ بها النظام الرأسمالي المعاصر على عدة مستوياتٍ مع بداية ما صوّره مفاهيميًا بأنه الأزمة الطويلة اللامنتهية للرأسمالية التي بدأت في حوالي 1971 وباتت منذ وقتها تقود النظام في السنوات الراهنة إلى حافة “الانهيار الداخلي”. تلا هذا تيارٌ دفّاقُ من الكتب والمقالات، بعضها يغطي تقريبًا ذات المواضيع مع الفارق أن الكتابات المتأخرة ستتخلى دائمًا عن بعضٍ من الجهاز المفاهيمي والمواقف التحليلية السابقة ليتم استبدالها بمفاهيمَ ورؤىً أخرى تم إعادة التفكير فيها، صقلِها، أو تجديدِها؛ إما لأنه قد غيّر رأيه، أو -في أغلب الأحيان- لأن موضوع الفكر اعتراه التحوّل بصورةٍ جوهريةٍ ما. لقد سعى أيضًا نحو مساراتٍ -متصلةً رغم تباينِها النسبي- للبحث ووضْع التصورات المفاهيمية، واثنين من كُتبِه يمكن الإشارة لهما هنا فيما يتعلق بهذا الشأن.
في الطبقة والأمة، قدّم أمين ضمن المنهجية الماركسية الأشمل مقترحاتٍ تخصّ مسألتيّ الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية وتَشكُّل الأمم. على عكس الأجماع العام، اقترح أمين أن العالم ما قبل الرأسمالي في أراضي أوراسيا كان يشتمل على مجموعةٍ من أنماط الإنتاج الخراجي والذي يعَدُّ الإقطاع بسُلطته السيادية المفتَّتة واحدًا من أشكاله، تواجدَ في المقام الأول على تخوم النظام، في أطرافه الأوروبية الغربية واليابانية، بينما كانت التشكيلات المركزية كالصين والهند على درجةٍ أكبر من الازدهار وأكثر تقدمًا بالمقارنة في عدة جوانب تقنيةٍ، مع وجود أنظمةٍ معقدةٍ للتتجير ومَركَزة الفائض وثبات السلطة السيادية. لقد رفض المفهوم الشائع بين الماركسيين بأن الأمة لا تنهض سوى في أعقاب صعود وإرساء الرأسمالية. ورفض بصرامةٍ أكبر المفهوم الميتافيزيقي، الذي نال رواجًا واسعًا بواسطة الأوروبيين المعادين للتنوير والثورة الفرنسية، بأن كل أمةٍ هي جماعةٌ أزليةٌ تجد جذورها في التاريخ المتفرِّد للأصل العِرقي والتكوين اللغوي والمِزاج الديني-الثقافي. بالنسبة لأمين، فإن مركزة الفائض وثبات السُلطة السيادية على أقاليم ممتدةٍ، والتي تؤدي بالضرورة إلى اتحادٍ لغويّ وثقافيّ، هي الشروط اللازمة لبزوغ الكيانات القومية، التي جادل بأنها تنهض ضمن نُظمٍ خراجيةٍ ماقبل حديثةٍ متنوعةٍ -كالصين، الهند، بلاد فارس والعالم العربي- تسبق التأسيس القومي للعهد الرأسمالي.
بعد عِقدٍ تقريبًا من نشر الطبقة والأمة، عاد أمين إلى التمركز الأوروبي، إلى هذا المفهوم الخاص بتعدد أنماط الإنتاج الخراجي في العالم ما قبل الرأسمالي، الذي كانت المواقع المركزية والمتقدِمة فيه محكومةً بتشكيلاتٍ خارج نطاق أوروبا، ليَطرح سؤالًا من نوعٍ مختلفٍ تمامًا: ما الذي يفسر النشأة والانتشار العالمي بالغ الأثر لفكرة التفوق الأوروبي الجوهراني، التي كان يُزعَم وجود أساسين مزدوَجين لها: ظهور المنطق في الثقافات الكلاسيكية الهيلينية والرومانية، وصعود روما كمنبعٍ لحضارةٍ مسيحيةٍ أوروبيةٍ مترامية الأطراف؟
في محاججةٍ تتلاقى مع ما طرحه مارتِن بيرنال، طرحَ أمين أنه عبر تاريخ الحضارات ما قبل الرأسمالية كانت أوروبا وآسيا منقسمتين ومرتبطتين من خلال وحدةٍ ثقافيةٍ بارزةٍ تطوِّق المناطق المُطِلَّة على البحر الأبيض المتوسط من كافة الجهات، والتي تتضمن الكلاسيكية الهيلينية والمصرية بالإضافة إلى مِهاد الديانات الإبراهيمية (حتى الإسلام الذي وُلِد في الجزيرة العربية، لم يبلغ أشُدَّه إلا بوصوله إلى مصر، بلاد الشام وتركيا من جهةٍ؛ وبلاد فارس من جهةٍ أخرى). في ذاك العالم، لم يكن ممكنًا وجود أيديولوجيا للتفوق الأوروبي الجوهراني أو فكرة اعتبار العالم الهيليني جزءًا من أوروبا التي كانت وحدتُها وهويتُها المتميِّزة، مع ضمِّ اليونان وروما لها، مما تم اختلاقه إلى حدٍّ كبيرٍ أثناء عصر النهضة. هذه الأيديولوجيا لتفوقٍ أوروبيّ جوهرانيّ -فكريّ، دينيِّ، ثقافيِّ، تقنيِّ، بل وتفوقٍ عِرقيّ- ظهرت أولًا وحسب عندما امتلك النظام الرأسمالي الناشئ في الأطراف الغربية البعيدة للنظام العالمي حينها، تقنيةً مكَّنَته من تجاوز المناطق المركزية في حوض البحر الأبيض المتوسط ليشرع في مشروعٍ لغزو العالم عبر المحيطات والقارات. باختصارٍ، كما بينَّ أمين في مقدمة كتابه، فالتمركز الأوروبي «يشكِّل جانبًا من ثقافة وأيديولوجيا نمط الإنتاج الرأسمالي.». بتأكيده لتوافقٍ بين الأيديولوجي والمادي، يحدد هذا النص الموجَز والمركَّز بدقَّةٍ ما يدعوه أمين “تأسيس ثقافةٍ متمَركِزةٍ أوروبيًّا” في تاريخ الاقتصاد، الاستعمار، ورأس المال؛ بتناقضِ حادٍّ، على سبيل المثال، مع استشراق إدوارد سعيد الأرحب والأكثر أناقةً في تأليفه، كبناءٍ أدبيِّ-نقديٍ وثقافيّ عمومًا لتاريخٍ يظهر فيه ما وصفه بـ “احتقار” الشرق كشيءٍ تأسيسيّ ومستَبطَنٍ في تكوين وعيّ أوروبيّ، متواجدٍ مسبَقًا بالفعل في دراما الإغريق التراجيدية.

3

عمِل أمين عبر كثيرٍ من الحقول الاستقصائية؛ إن أعماله الكاملة جليلةٌ بأيّة حالٍ، رغم كونها حافلةٌ بالتكرار خاصةً في سنواته الأخيرة. قد رسمنا مخطَّطًا بسيطًا لهذا المُنجَز، رغم أننا لم نتوقف عند بعضٍ من أكثر أعماله أهميةً، كالكتاب المُتمَعِّن والتحريضي عن روسيا، بتصوراته الأصيلة، الذي قام بنشره قرب نهاية حياته . ما يتبقى لنا الآن هو التركيز على بعضٍ من المواضيع التي تمثِّل المفاهيم التأسيسية اللازمةَ للتحليلات المُجمَّعة في هذا الكتاب.
بالنسبة لأمين، كانت اللحظة التأسيسية للنظام العالمي بعد الحرب هي تشكيل ما أسماه “إمبريالية الثالوث” (الولايات المتحدة، أوروبا الغربية واليابان). بمواظبته على الكتابة عن هيمنة الولايات المتحدة وأوروبا (المُحرَّضة غالبًا) لإظهار حدود “المشروع السيادي لذاته”، فقد أوضح أن العلاقات بين المكوِّنات الثلاثة لهذا الثالوث غير متكافئةٍ. في العلاقة مع بقية العالم، فما يهم مع ذلك، ليس التفاوت المشترَك بين الحلفاء بل وحدتهم. حتى في العلاقات المشترَكة، على أية حالٍ، لم يكن واضحًا دومًا من صياغات أمين المدى المنظور أو العواقب المُمكنة مستقبلًا لهذا التفاوت. هل هذه العلاقات غير متكافئةٍ بالدرجة الكافية لتصبح عدائيةً في المستقبل، فتؤدي إلى “خصومةٍ بين الإمبرياليين” بالكيفية التي صاغها لينين عشيَّة الحرب العالمية الأولى، لتتسبب لا بالضرورة في احتدامٍ عسكريّ بل في حربٍ اقتصاديةٍ جامحةٍ بشدةٍ تطرح معها إمكانية تصدُّع النظام العالمي؟ تكتسب تلك المسألةً أهميةً على ضوء حقيقة أنه رفض الفكرة الشائعة عن طبقةٍ رأسماليةٍ عالميةٍ مندمِجةٍ تألف الطبقة الحاكمة للنظام الرأسمالي العالمي كوحدةٍ واحدة. جادل أيضًا بأن الشركات العابرة للقارات المستقلة قد تتحصَّل على رأسمالها من أي عددٍ من البلدان لكنَّ كلًّ منها يتأصَّل في دولةٍ بعينها؛ بمعنى أنّ، هنالك شركاتٌ عابرةٌ للقارات هي في التحليل الأخير أمريكيةٌ، ألمانيةٌ، يابانيةٌ، إلخ. إن كان الوضع هكذا، أفلا يمكن لهذا أن يُرجِّح فرضية الاحتراب عندما تظهر الشروخ العميقة والميول التنافسية في بِنيان إمبريالية الثالوث الجماعية؟ لا يبدو تحليل أمين واضحًا تمامًا بشأن هذه النقطة. إننا نعيش لحظةً تاريخيةً حيث يسعى الصينيون، على السبيل المثال، إلى تشييد بِنيةٍ ماليةٍ مستقِلةٍ عن هيمنة الدولار الأمريكي، بينما لا يقوم الألمانيون كما يبدو بشئٍ عمليّ في هذا الصدد بل بدأوا الآن في الحديث عن حاجتهم إلى هذا الشكل بالضبط من البِنى المؤسسية المالية المستقِلة في الاتحاد الأوروبي؛ بلدانٌ أخرى عدةٌ قد تتجاوب مع مشروعٍ كهذا. ألا يمكن لميولٍ كهذه أن تغدو أقوى ولا رجعةَ عنها في حالة انحدارٍ بعيد المدى للسلطة الأمريكية المهيمِنة عالميًّا؟ يَكثُر الحديث عن “تعدد الأقطاب” باعتباره الهدف المنشود للنظام العالمي في العصر البازغ، وأمين يتفق مع هذا بلا شكٍ. ألا يمكن لتعدد الأقطاب هذا أن يصبح بشيرًا لانحسار الطبيعة “الجماعية” للإمبريالية المعاصرة، و بالمقابل، لظهور نوعٍ مختلفٍ من الخصومة بين الإمبرياليين؟
نظرًا لافتقارنا إلى المساحة الكافية للإسهاب، سندع جانبًا تحليل أمين لأنظمة الدول الشيوعية في القرن العشرين. بالتأكيد، فقد كتب بكثافةٍ أكبر عن حركات التحرر الوطني، كومبرادورية برجوازيات القارات الثلاث، وعن الآفاق الممكنة واستراتيجيات النضال ضد الإمبريالية والانتقال في نهاية المطاف إلى الشيوعية. العديد من هذه الكتابات يفترض تناقضًا جوهريًا يكتنف النظام الإمبريالي: بينما نجحت الولايات المتحدة بشكلٍ استثنائيّ في فرض وحدةٍ بِنويةٍ بين دول وشعوب المركز الإمبريالي، فلا وجود لنظامٍ مستقِّرٍ مماثلٍ للحكم أو الإدماجٍ الاجتماعي يمكن ابتكاره لأجل القارات الثلاث. «حتى يومنا هذا»، يكتب، «لم تتوصل الإمبريالية قَطّ إلى بنودٍ للتسوية الاجتماعية والسياسية تُمَكِّن نظامًا حاكمًا من الاستقرار بما يخدم مصالحه في بلدان المحيط الرأسمالي. إنني أفسر هذا الفشل كدليلٍ… ]على[ ظرفٍ موضوعيّ في الأطراف ذا إمكانياتٍ ثوريةٍ ومُعرَّضٌ للانفجار وغير مستقِّرٍ على الدوام.». مَن، إذن، سيصنع الثورة؟ وماذا ستكون طبيعة تلك الثورة؟ . للإجابة على هذه المعضلات، قدّم أمين مِرارًا المكوِّنات لنظريةٍ لا تحدد مسارًا مباشرًا للسير عليه بأكثر مما كان عليه مَيل ماركس وإنجلس في أي وقتٍ مضى إلى وضع مخططٍ لتنفيذ ثورةٍ شيوعيةٍ. على المستوى الفكريِّ الأشمل، قدم أمين مقترَحَيْن: أن الثورة ستكون وطنيةً واشتراكيةً، أو أنها لن تكون، فالبرجوازية قد أصبحت كومبرادوريةً ورجعيةً؛ وأن بداية هذه العملية الثورية ستتطلب مرحلةً أوليّةً تسبق ما ميَّزَته الماركسية الكلاسيكية باعتباره المرحلة ما قبل الشيوعية من “الاشتراكية”. هذه الفكرة عن مرحلةٍ ما قبل اشتراكيةٍ ضروريةٍ تبدو ذات مصادرَ ثلاثة. أولًا، تبدو الفكرة مستوحاةً من مفهوم ماو المُستحدَث عن الديمقراطية الجديدة التي كان من المتوقَّع إعلانُها بواسطة جبهةٍ عريضةٍ من الطبقات باستثناء القطاعات الكومبرادورية من البرجوازية. يمكن المجادلة بأن ماو تخلى عن هذا المفهوم وعجَّل بالانتقال إلى الاشتراكية نتيجةً للدروس التي تعلمها من تجربة الحرب الكورية التي عزمت فيها الإمبريالية الأمريكية بالتأكيد على تدمير الجمهورية الشعبية بحد ذاتها؛ الجنرال ماك آرثر، في مركز قيادة القوات الأمريكية في كوريا، اقترح استعمال القنبلة النووية لهزيمة الصين، على شاكلة الاستسلام الياباني. مع ذلك، لم يجازف ماو بتحطيم تحالف العمال والفلاحين مثلما تمّ تحطيمه عمليَّا خلال موجة التجميع في الاتحاد السوڤييتي. لكن، ما يطرح إشكاليةً أكبر، بشأن التماس أمين لهذا النموذج، أن ماو دائمًا ما نظر إلى الكومبرادور كفصيلٍ يمكن عزله بينما سيغدو إجمالي الطبقة، البرجوازية الوطنية، جزءًا من تحالفٍ متعدد الطبقات.
ترتكز فكرة المرحلة ما قبل الاشتراكية، إضافةً، على إدراك أن قوى الإنتاج في الأطراف كانت أكثر تخلفًا مما يتيح تنظيمها اشتراكيًا بشكلٍ مثمرٍ كتوطئةٍ لبناء المجتمع الشيوعي المتقدم. كان تخلف قوى الإنتاج المتوافرة عنصرًا هامًا رغم كل شيءٍ في التشوُّه الذي أصاب كافة التجارب الاشتراكية في مسار القرن العشرين. ثالثًا، مع ذلك، يبدو أن ما دفع بهذه الفكرة عن المرحلة الانتقالية ما قبل الاشتراكية إلى ذخيرة أمين المفاهيمية كان العملية الجارية في الصين ذاتها. من وجهة نظره، كانت الصين هي البلد الوحيد في القارات الثلاث -وحتمًا في العالم- الذي وضع لنفسه مشروعًا سياديًا ضد هيمنة الولايات المتحدة والذي سعت إليه بصيغةٍ تاريخيةٍ مبتكَرةٍ كليَّةً. كما ارتأى أيضًا أنه لا يمكن النظر إلى الصين كبلدٍ استعادت فيه الرأسمالية سيطرتها كاملةً، طالما أنه لم تجري خصخصة الأرض قانونيًا. بالتزامها التام بالمشروع السيادي المضاد للهيمنة الأمريكية، وترددها بين الرأسمالية والاشتراكية كنمطٍ لإنتاجها، وتقدمها السريع في تطويرها لقوى الإنتاج، لا تزال الصين، كما تصوَّر، تمتلك الفرصة للتراجع عن المنحدر واعتماد اتجاهٍ اشتراكيّ متجدِّدٍ. بذا يمكنها أن تمثِّل نموذجًا لبلدانٍ أخرى في الأطراف. في أقصى درجات تفاؤله، رأى أمين إمكانياتٍ لمشاريع سياديةٍ شبيهةٍ تنشأ أيضًا في عددٍ آخر من الاقتصاديات الكبرى في الأطراف كروسيا، البرازيل، و-للمفاجأة- الهند. مفاهيميًّا، تبدو هذه الإمكانية راسخةً في عملية تطور قوى الإنتاج ذاتها؛ كلما نمى اقتصادٌ طرفيٌّ بدرجةٍ أقوى كلما تاق إلى التحرر من الهيمنة المفروضة عليه من الخارج. هذا التفاؤل كانت تناقضه بالطبع قناعاتٌ أخرى تحتل موقعًا أكثر مركزيةً في تفكير أمين. كان مقتنعًا بأن برجوازيات الأطراف اكتسبت طابعًا كومبرادوريًا كليًّا لدرجةٍ تستبعد معها مشاركتهم في جبهة القوى المرشحة لمجابهة الإمبريالية. طالما أن الوضع كذلك، أفلا يستتبع هذا أنه بغضِّ النظر عن مدى القوة التي وصل إليها اقتصادٌ طرفيٌّ فإن ظهور مشروعٍ سياديّ سوف يتطلب انتقالًا مسبقًا لسلطة الدولة بعيدًا عن السيطرة الكومبرادورية-الإمبريالية؟ بدون هذا التغير الثوري، يبدو مستبعَدًا أن تتبع الهند، مثلًا، خُطى الصين لتسعى نحو مشروعٍ سياديّ مضادٍ للإمبريالية الأمريكية. لا يمكن للدول الأخرى أن تتبع حقًا المثال الصيني تحديدًا لأن الدولة الصينية ليست دولةً برجوازيةً طبيعيةً بل أنها أُسِسَت جرّاء تسويةٍ تاريخيةٍ بين تشكيلتها الماوية الأصلية وبين التشكيلة الدينجية المفرِطة الحالية. أيًّا ما كانت إمكانيات “المشروع السيادي” الصيني، فإن نصيب موجة “المدّ الوردي” الراهنة في أمريكا اللاتينية ينبغي أن يذكِّرَنا بالمخاطر التي يمكن أن يواجهَها أي مشروعٍ ذو توجُّهٍّ اشتراكيّ، إذا ما أبقى على البرجوازية الكومبرادورية، أحزابها السياسية وإمبراطورياتها الإعلامية سليمةً.
لكن حينها يبقى السؤال الأكثر تبرُّمًا وتطلُّبًا عن التمثيل الثوري: من سيقوم بالثورة في عصر “الاحتكارات الرأسمالية المعمَّمة” (بتعبير أمين)، بينما العشوائيات هي الشكل الأكثر انتشارًا وتوسُّعًا من المعيشة الحضَرية، وبينما حشدٌ من التقنيات كالأتمتة الحاسوبية تعمل، من الناحية الأخرى، على التخفيض من مجرد وجود أي عملٍ إنسانيّ مباشرٍ في الإنتاج الرأسمالي الكبير؟. يواصل أمين تفكيره في هذه النقطة عبر خطَّين يميلان إلى الالتقاء في نقاط انعقادٍ محدَّدةٍ فحسب: من ناحيةٍ، هناك التزامٌ مستمرٌ بالتفكُّر في استراتيجياتٍ مبتكَّرةٍ تناسب زمننا والتي تلتزم في جوهرها درجةً من الإخلاص للمخطَّط اللينيني العام للحزب البروليتاري، منظمات جماهير الكادحين، تحالف العمال والفلاحين، والجبهة المتحِّدة العريضة للجماهير الشعبية. لذا، على سبيل المثال، بعكس هوبزباوم الذي قدَّر”نهاية طبقة الفلاحين” كأمرٍ واقعٍ ، أصرّ أمين على أن الفلاحين يشكِّلون تقريبًا نصف سكان العالم وأنهم سيكونون قاعدةً اجتماعيةً لا غنى عنها للثورة في عدَّة بلدانٍ في آسيا وأفريقيا، بل وفي جيوبٍ من أمريكا اللاتينية. التزامًا بهذ الخط الفكري، وجزئيًا كاستجابةٍ لانهيار مشاريع أخرى تحمّس لها كالمنتدى الاجتماعي العالمي، أصرّ في السنوات الأخيرة من عمره على إمكانية تحقيق تمثيلٍ ثوريِّ في هيئة ما وصفهُ بالتحالف العالمي بين البروليتاريا وشعوب العالم تحت قيادة الأحزاب (الوطنية كما يُفترض) خاصتِها.
بجانب هذا المنطق كان هناك خطٌّ فكريٌّ آخرٌ أخذ يتبلوَر ضمن ما كتبه في دراسة “الحركات الاجتماعية في الأطراف: نهاية التحرر الوطني؟”، التي ساهم بها في كتابٍ تَشارك تأليفَه مع رفاقه في حقل نظريات التبعية والنظام العالمي. ظهرت الدراسة في 1990، بينما كان نظام الدولة الشيوعية يتحلل في الاتحاد السوڤييتي وجنوب شرق أوروبا؛ الوهم القائل بأن البرجوازيات الوطنية في بلدان آسيا وأفريقيا المستقلة حديثًا ستتحدى الإمبريالية قد سقط بالفعل، مع هذا ظل أمين متعلِّـقًا ببديلٍ لمشروع باندونج. ربما تفسر هذه اللحظة المأزومة تبدُّلَ تركيز أمين على السياسة الطبقية إلى “شعوب الأطراف” كممثلٍ جماعيّ للثورة في عصرنا، وانبهاره وتقبُّـلَه غير النقدي إلى حدٍّ ما لمصطلح “الحركة الاجتماعية”. فأيديولوجيا “الحركة الاجتماعية” صعدت تحديدًا في مواجهة “الحزب السياسي”؛ التركيز على “الاجتماعي” كمهربٍ من “السياسي”؛ مع الافتراض المُصاحِب بأن حركات التغيير الاجتماعي والثقافي الجزيئية، المتعدِّدة، والمحلية غالبًا (“شبكةٌ من الشبكات”، في شكلها الأعقد تنظيميًا) ضروريةٌ لاستبدال السياسة، خاصةً السياسة الماركسية، التي حاربت من أجل سلطة الدولة لإلغاء الاقتصاد السياسي الرأسمالي في حد ذاته. قضى أمين عدّة سنواتٍ، مع آخرين كُثُر، سعيًّا وراء بناء شبكاتٍ عالميةٍ لهكذا حركاتٍ، لكن نظرًا لنزوعه الماركسي والماوي الراسخ، جاهد أيضًا لجذب الحركات الاجتماعية عميقًا إلى فَلَك أشكالٍ أكثر أُلفةً من السياسات اليسارية. الكثير من أفكاره إضافةً إلى نشاطه العملي توجَّه في العقود الأخيرة من حياته إلى محاولة صياغة نموذجٍ مناسبٍ للتمفصل بين الطبقة والجماهير، بين الحركات الاجتماعية والسياسة الطبقية، بين المدى القومي والعابر للقارات الرئيسيين معًا للتعبئة السياسية. مع هذا، خلال كل تلكم التجارب الفكرية والعملية لم ينجرف بعيدًا عن جذوره الشيوعية. في حدَثٍ متأخِّرٍ كانتفاضة ميدان التحرير المصرية في 2011 تواجد مجددًا في صفوف تنظيمٍ شيوعيّ آخرٍ.
كتب أنطونيو جرامشي أنه بالرغم من أن العناصر الرئيسية لممارسةٍ اشتراكيةٍ ثوريةٍ قد تم اكتشافها في كوميونة باريس، إلا أنَّ فترةً خاويةً طويلةً بلغت نصف قرنٍ تقريبًا مرّت قبل بروز الصيغة الثورية المناسبة التي تجلَّت في كافة دقائق الممارسة البُلشفية بالغة الإتقان والتعقيد. لقد بدا لي لبضعة سنواتٍ الآن أننا أيضًا نمُرُّ في عصرنا بذات الفترة الخاوية والآثار، مُذْ أن بلغت الثورة الروسية والصينية أقصى حدودِهما وأضحيَتا غير قادرتين على التقدم لخطوةٍ أبعد. هنالك ميراثٌ غنيٌّ من الأفكار والممارسات الثورية للإفادة منه، لكننا لا نزال غير قادرين على تصوُّر صيَغٍ جديدةٍ من الممارسة الثورية تتلائم بالشكل الأنسب مع الظروف التاريخية الراهنة المتغيِّرة كليًّا للمُضِيِّ قُـدُمًا بروح أكتوبر إلى طّورِها المنطقي التالي، مثلما كانت الثورة البلشفية بحدِّ ذاتها هي الشكل العينيَّ لتقدُّم وكذا تجاوُز المضامين المنطقية للثورة الفرنسية. كان سمير أمين مفكِّرا رئيسيًّا لهذه الفترة الخاوية، عاملًا على حلِّ العديد من الألغاز، متأمِّلًا في اتجاهاتٍ شتّى، طارحًا الأسئلة الصحيحة والمعقَّدة حيث لم يملك جوابًا.

4

قضاء الوقت بصحبة سمير أمين كان أشبه بتشارك بقعة ضوءٍ وسطَ الغموض والعتمة. كان بُنيانه الجسدي ضئيلًا وفي سنواته الأخيرة أخذ يشي بالوهن، مع ذلك بقيت حركاته رشيقةً، تنضح شغفًا، كأنما الجسد كان مشحونًا للأبد بمدَدٍ لا ينضب من الطاقة السياسية والفكرية. لقد كان حميميًّا على الدوام، دمِثًا، كيِّسًا، متفتِّحًا بصورةٍ استثنائيةٍ عند لقائه بالآخرين، بسلوكٍ مترعٍ بسحر العالم القديم بدى وكأنه ساترٌ للصلابة العنيدة لقناعاته. كانت السِمات المُجتمِعة في ثقافته الذاتية فريدةً كما كانت شخصيته المميَّزَةُ، بخلاف أيِّ ممن عرفتهم، بيد أنه كان أساسًا طيلةَ حياته رجلَ جماعةٍ هي له بمثابة الموئِل الاجتماعي والموطِن السياسي. كان نشِطًا وهانِئًا بين العديد والعديد من جُنُبات العالم، ولذا تنوَّعت منازلُه السياسية، لكن كانت هنالك دومًا وأينما كان جماعةٌ ليعمل ويتواصل معها. كان الانتماء السياسي وحياةٌ من التضامن بمثابة طبيعةٍ ثانويةٍ منضويةٍ فيه، رغم أنها ما كانت لتخلوَ بالطبع من الصراعات كبيرِها وصغيرِها، فلا الحياة السياسية أو الفكرية يمكن لها أن تتحرَّر من الخصومات أو الانحيازات. كان عقله بتَّارًا ومُقاتِلًا، وقد استقرَّ عنده، بثقةٍ شبه طفوليةٍ، أنه تمكَّن من حلِّ بعضٍ من الألغاز الكبرى في عصرنا. مع ذلك، كان يحرص في تعامله مع الآخرين، على التواضع بصدقٍ.

سمير أمين، بكلمةٍ، كان واحدًا من صُيَّاغِ الدُرِّ النادرين في هذا العصر.

:::::

المصدر: “البديل العراقي”

_________

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.