قد يقول البعض: شو حكايتك يا نواف، تحكي لنا عن مؤتمر بلتيمور الذي عقد قبل تسعة وسبعين عامًا؟! ألا يكفينا ما نحن فيه من مؤتمرات وهموم وأعباء؟!
وأقول بدوري: قضيتنا الفلسطينية تحتاج دائمًا إلى فتح كل الملفات الصهيونية والاستعمارية وغيرها، وتحتاج إلى بناء الوعي الحقيقي والحر والشامل، ويأتي هذا المقال في هذا السياق المعرفي-التوعوي.
فوفق الأدبيات السياسية الصهيونية، فإن ما أطلق عليه “برنامج مؤتمر بلتيمور” الذي عقد في التاسع من أيار/1942 في فندق بلتيمور في نيويورك، هو الأخطر بعد وعد بلفور، فهو الذي تقرر فيه تنفيذ الوعد البلفوري، وهو الأهم للحركة الصهيونية؛ إذ شكل نقطة تحول تاريخية في علاقات الحركة الدولية؛ فتحول مركزها من لندن إلى واشنطن، وأصبحت الولايات المتحدة الحاضنة الاستعمارية للمشروع الصهيوني بدلًا من بريطانيا، وقد ربط يوسي بيلين في صحيفة “إسرائيل اليوم-05 /5 /2012″ بلتيمور ب” قصة النهوض اليهودي”، وكان من العوامل التي سرّعت في عملية التحول إلى الإمبريالية الأمريكية ازدياد نفوذ الطائفة اليهودية الأمريكية بوصفها أضخم وأغنى طائفة في الحركة الصهيونية، بعد أن تدهور وضع الطوائف اليهودية في أوروبا في عهد النازية…!
وحضر المؤتمر مندوبون عن المنظمات اليهودية في العالم، بالإضافة إلى هاري ترومان (نائب الرئيس الأمريكي آنذاك) الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للولايات المتحدة بمساعدة اليهود له.
وكان من الأسباب الرئيسية لعقد المؤتمر هناك في بلتيمور: إلتقاء المصالح الأمريكية مع المصالح الصهيونية، وتقديم الصهيونية خدمات واسعة لأمريكا لتحطيم ألمانيا النازية، ودعم الصهيونية لمصالح أمريكا فى الشرق الأوسط.
وأصدر المؤتمر جملة قرارات لصالح المشروع الصهيوني كما يلي:
1- إنشاء دولة يهودية.
2- إلغاء الكتاب الأبيض عام 1939.
3- فتح فلسطين أمام الهجرة اليهودية .
4-منح الوكالة اليهودية حقوقا إدارية وتنظيمية في فلسطين.
5- تشكيل قوة يهودية تحارب تحت علمها الخاص بجانب الحلفاء تأكيدًا بأن الشعب اليهودي له قوميته ومن حقه الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة المزمع تكوينها بعد الحرب.
وكان لهم ذلك، فقد رفرف لأول مرة علم الفرقة اليهودية (هو علم إسرائيل اليوم) في 31 أكتوبر 1944م، وكان ذلك من أهم مكتسباته.
وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1942 أقر المجلس الصهيوني الضيق؛ برنامج بلتيمور كما أقرته الوكالة اليهودية وأكثرية الأحزاب في فلسطين بما فيها الحزب الإصلاحي، ودخلت المنظمة الصهيونية- بعد فترة من الحذر- المعركة الجوهرية تحت شعارها الأصيل- شعار الدولة اليهودية، وحظيت المنظمة الصهيونية بتأييد متعاظم في الولايات المتحدة ونشط الشيوخ والنواب في الكونغرس الأمريكي من أجل إقرار برنامج بيلتمور الداعي إلى إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وما أن جاء عام 1944 حتى قدم عدد كبير من الشيوخ والنواب إلى الكونغرس الأمريكي مشروع قرار يدعو إلى هجرة غير محدودة إلى فلسطين وإلى إقامة الدولة اليهودية.
وفي 10 ديسمبر 1945 أعلنت أمريكا عن تأليف لجنة مشتركة مع بريطانيا لدراسة أحوال اليهود من ضحايا النازية في أوروبا، بهدف تقدير عدد أولئك الذين تضطرهم أحوالهم أن يهاجروا إلى فلسطين، وتقديم التوصيات اللازمة لمعالجة هذه القضية، وفي 30 أبريل 1946م أصدرت اللجنة تقريرها كما يلي:
بالنسبة للهجرة: جاء في توصية اللجنة بأن تصدر في الحال إجازة تخول دخول فلسطين لليهود الذين كانوا ضحية النازية وعسف الفاشية.
بالنسبة للأراضي: فقد طالبت اللجنة بإلغاء القوانين المتعلقة بانتقال ملكية الأراضي الصادرة سنة 1940م واستبدالها بقوانين تسمح بحرية البيع والتملك.
بالنسبة لقضية الحكم: فقد أوصت اللجنة بأن لا تكون فلسطين دولة يهودية ولا دولة عربية، وأن الشكل النهائي للحكم يجب أن يضمن بضمانات دولية.
وكانت الحرب فرصة الصهيونية لتثبيت جميع طلباتها وتحقيق كل أحلامها وتنفيذ جميع خططها.. ففي الحرب استطاعت أن تفرض شروطها، وهي:
تشكيل جيشهم (الهاغاناه) في فلسطين، وإقامة مصانع سلاح خاصة بهم، والإسراع في إنشاء دولة إسرائيل في فلسطين، وحددوا حدودها كما يلي:
تمتد حدود الدولة اليهودية المزمع إنشاؤها من ميناء صيدا شمالًا إلى العريش جنوبًا على ساحل البحر الأبيض، إلى ميناء العقبة وخليجها على البحر الأحمر، وليس نهر الأردن حدًا للدولة اليهودية، بل هو عمودها الفقري، فهي تمتد إلى ما وراءه بحيث تضم المقاطعة المعروفة بشرق الأردن، وحتى الجبال المشرفة على باديتي الشام والحجاز.
إن المناطق المتاخمة لهذه الحدود، يجب أن تدخل في أي حال من الأحوال في دائرة نفوذ الدولة اليهودية بعد إنشائها وتثبيت دعائمها، بحيث تبسط نفوذها اقتصاديًا وسياسيًا على بيداء الشام حتى نهر الفرات شمالًا وشرقًا، وحتى أطراف سيناء وجبل السويس جنوبًا، فهذه المناطق هي المجال الحيوي الذي لا بد منه للدولة اليهودية المقبلة.
وبعد بلتيمور أصدرت الحركة الصهيونية منشورًا باسم الجمعية العسكرية اليهودية؛ تعلن فيه فتح أبواب فلسطين لليهود، كما أعلنت أن غاية اليهود هي إنشاء مملكة اليهود الكبرى في وطنهم التاريخي وإجبار بريطانيا على التخلي والرحيل عن فلسطين، وقرنت القول بالفعل بسلسلة من العمليات الإرهابية.
وإذا كان وعد بلفور يمثل قاعدة انطلاق اليهود في تحقيق أحلامهم مع بريطانيا، فإن مؤتمر بلتيمور مثل فرصة لتثبيت دعائم دولة اليهود في فلسطين، ولقد انتزعوا تصريحًا رسميًا (بهذه المطالب) من فرانلكين روزفلت رئيس الجمهورية الأمريكية بتاريخ 16 مارس 1944م، وبقدر ما كان موقف الصهاينة أثناء الحرب واضحًا؛ مدركًا لأبعاد الصراع الدولي؛ مستفيدًا من المعطيات الجديدة، كان موقف العرب سلبيًا؛ متخاذلًا متواطئًا…!
:::::
بوابة الهدف
_________
الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.