أمريكا الجنوبية بين الحركة الشعبية ورُسُوخ الدّكتاتوريات المدعومة أمريكيا (الجزء الأول)، الطاهر المعز

  • تغيير الرّؤساء الأمريكيين واستقرار أهداف الإمبريالية الأمريكية

تُشكّل هذه الفقرات جُزْءًا من مجموعة مقالات عن الوضع في أمريكا الجنوبية، التي تشهد احتجاجات شعبية منذ الرّبع الأخير من سنة 2019، وحققت النقابات والأحزاب التقدمية ومنظمات السّكّان الأصلِيِّين بعض التقدّم، في تشيلي وبوليفيا، حيث فشل الإنقلاب المدعوم أمريكيا، بعد سنة واحدة، وفي بيرو، وغيرها، كما زعزعت الحركة الشعبية نظام كولومبيا الذي قد يخسر مواقع هامة، خلال انتخابات سنة 2022…

تشير هذه الورقة إلى هيمنة الإمبريالية الأمريكية على وَسَط وجنوب القارّة، وفقرة خاصة بما سُمِّيَت “عملية كوندور”، سيئة الصّيت، وتُركّز على الوضع في كولومبيا، مخلب الإمبريالية الأمريكية، والعلاقات المُتنامية للكيان الصهيوني مع الأنظمة اليمينية المتطرفة، وخاصة مع نظام كولومبيا…

توطئة:

يقوم الإقتصاد الرأسمالي، أو ما يُسمّى “اقتصاد السُّوق” على احتكار المواد الأولية والسلع الأساسية  والتحكم في شبكات الإنتاج والتوزيع، والمُضارَبَة، بهدف مراكمة الرّبْح والثّروة ما يزيد من توسيع الفجوة ومن التفاوت بين مُنتجي الثروة ومُحْتَكِريها، وتريد شركات أمريكا الشمالية احتكار ثروات أمريكا الجنوبية، من نفط ونحاس وليثيوم وغيرها.

بَذَلت حكومات الدّول الإمبريالية، التي تُمثّل مصالح الشركات الرأسمالية الإحتكارية (المحروقات والطاقة والمَناجِم والبُنية التحتية، وصناعة الأسلحة…)، ما في وسْعها، في مرحلة ما بعد الإستعمار المباشر، للإستيلاء على ثروات البلدان (في إفريقيا والوطن العربي وآسيا…)، عبر الهيمنة “النّاعمة” أو عبر الحُرُوب العدوانية، وتغليف العدوان، من خلال حملة إعلامية، بدواعي الدّفاع عن حُقُوق البشر (وخاصة حقوق النساء والأقليات العرقية والدّينيّة)، وتقسيم الشعوب إلى مِلَل ونِحل، أو بدواعي مكافحة الإرهاب أو محاربة الدّكتاتوريات التي تُمثل “محور الشّرّ”، وتقول الحقيقة والوقائع إن الولايات المتحدة أنشأت وسلّحت “القاعدة” ثم “النُّصرة” ودعمت ودربت وسلّحت الإخوان المسلمين في اليمن وحزب الدّعوة في العراق، ومعظم التنظيمات الإرهابية في سوريا… عندما لا تُريد الدّول الإمبريالية، أو عندما لا تنجح في شن حَرب عدوانية مباشرة، تختلق نزاعات وحُروبًا داخلية تُقَسِّمُ الشعوب والبُلْدان، كما تعتمد على عُمَلاء مَحلِّيِّين داخل هذه البلدان (الإخوان المُجْرِمون في سوريا وليبيا، والمليشيات المُسَلّحة أو أحزاب المُعارضة اليمينية في أمريكا الجنوبية) وتعتمد أيضًا على حكومات بعض الدّول المُجاورة للبلد المُسْتَهْدَف، كحكومة تركيا، ودُوَيْلات الخليج، في الوطن العربي، وتشاد في إفريقيا، ويُؤَدِّي نظام كولومبيا، المُجاورة لفنزويلا والبرازيل، هذا الدّور في أمريكا الوُسطى والجنوبية، ولكن نظام كولومبيا يواجه اليوم احتجاجات شعبية، منذ أكثر من ستة أسابيع، عند كتابة هذه الورقة، التي تتطرق بإيجاز إلى الوضع في أمريكا الجنوبية، وتتطرّق بشيء من التفْصِيل للوضع في  كولومبيا، كنموذج للأنظمة العميلة التي طاولتها الإحتجاجات في أمريكا الجنوبية، منذ سنة 2019…

استنتج صندوق النقد الدّولي في تقريره نصف السنوي، الذي أصدَرَهُ في بداية شهر نيسان/ابريل 2021، أن تعافى اقتصاد أمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي، بطيء، ويدّعي مُعِدُّو التّقرير أنهم مُتفائلون بتوقعات سنة 2022، فارتفاع أسعار النحاس ينقذ اقتصاد تشيلى، واقتصاد المكسيك في طريقه إلى التعافي، أما في كولومبيا فإن الإحتجاجات تعوق الانتعاش،بحسب صندوق النقد الدّولي، بالإضافة إلى الوضع في فنزويلا المُجاورة…

 مكانة أمريكا الجنوبية في سياسات الولايات المتحدة:

تكمن أهمية أمريكا الجنوبية، ومتابعة ما يجري بها، بالنسبة لنا كتقدّميين عرب، في تزامن غَزْوِها وإخضاعها للإستعمار الإستيطاني الأوروبي، مع نهاية حُكْم العرب في الأندلس، ومع صُعود القُوّة البحرية لممالك صغيرة بإيطاليا وهولندا وإسبانيا والبرتغال، وعانى السُّكّان الأصليون بأمريكا الجنوبية (كما الشمالية) من عمليات الإبادة ونهب الأراضي والموارد، واستمدّت الحركة الصّهيونية بعض أساليبها من الحركة الإستعمارية الإستيطانية بقارة أمريكا، مع مراعاة الفوارق، ورغم المجازر والإبادة والنهب، وهيمنة السّكّان المنحدرين من أوروبا، لا تزال جذوة مُقاومة الشُّعُوب الأصلية حَيّة ببعض البلدان.

من جهة أخرى، لم تتمكّن الأنظمة الدّكتاتورية العسكرية من القضاء على المُقاومة الشعبية في تشيلي وفي البرازيل وفي بوليفيا والأرجنتين وغيرها، وتنفرد شعوب أمريكا الجنوبية بالنشاط الحَثِيث للجمعيات المَحَلِّية في أحياء المُدُن وفي القُرى وفي تجمُّعات الشعوب الأصلية، وهي منظمات شعبية وجماهيرية تُدافع عن حق السّكّان في تحسين ظروف العيش اليومي، ولم تتمكّن الدّكتاتوريات العسكرية من تفكيكها، ومن الضّروري دراسة نشأة ونشاط هذه الجمعيات، التي تتشابه بعض جوانبها مع نشاط المجموعات المحلية الفلسطينية خلال انتفاضة 1987، التي ساعدت الفلسطينيين على الصّمود واستبدال السلع الصهيونية بإنتاج محلي…

حاولتُ متابعة ما يحصل بأمريكا الجنوبية –التي استوعبت عشرات الآلاف من المُهاجِرِين “الشّامِيِّين”، منذ القرن التاسع عشر- منذ عُقُود، رغم ضُعْف العلاقات بين المنظمات التقدمية والثورية العربية ومنظمات أمريكا الجنوبية، ويندرج هذا المقال ضمن متابعة ما يحدث من انتفاضات، خاصة في كولومبيا، وهي قاعدة أمريكية وصهيونية مُتقدّمة، التي قد تفقد الإمبريالية الأمريكية، بانهيار نظامها، أحَدَ ركائزها في جنوب القارة…    

لم تعد الإمبريالية الأمريكية تعتمد على الإنقلابات العسكرية فقط أو تمويل منظمات مُسلّحة، للإطاحة بالحكومات أو الأنظمة التي تُعارض سياساتها، وبالأخص في أمريكا الجنوبية، بل أضافت للأساليب القديمة، تكتيكًا جديدًا يتمثل في تنظيم انقلابات “دستورية”، وتشريعية، وقضائية، ومهما كان الأسلوب، تظلّ الحملات الإعلامية سابقة ومُرافقة ولاحقة لأي شكل من أشكال الإنقلابات…

تاريخيًّا، نقلت الولايات المتحدة المئات من وُجهاء وعُلماء وباحثي ألمانيا النازية إلى أمريكا الشمالية، وساهموا في تطوير برامج التّسلح الأمريكي وغزو الفضاء، ونُقل العديد منهم إلى أمريكا الجنوبية (باراغواي والأرجنتين والبرازيل وتشيلي…)، ويتكامل دور الكيان الصهيوني مع الدّور الأمريكي، فدعم الصهاينة دكتاتوريات أمريكا الجنوبية، وزوّدها الكيان بالأسلحة وبخبرات القمع، بل وافقت حكومة دكتاتور باراغواي، “ألفريدو ستروسنر” (نازي سابق، حكم باراغواي لمدة 35 سنة ) اتفاقًا، سنة 1969، أي بعد عدوان 1967، لنقل ستين ألف فلسطيني غير شيوعي، من الضفة الغربية المُحتلّة حديثًا، إلى باراغواي، لكي يستولي المستوطنون الصهاينة على أراضيهم، مقابل دعم حُكمه وإرسال الأسلحة وأدوات القمع، ومنحة بقيمة 12 مليون دولار، لتغطية مصاريف الرسوم، ومنحة أوّلية بمائة دولار عن كل شخص، حال وُصُوله إلى باراغواي، تُضاف إليها 33 دولارا عن كل فلسطيني يتم قبوله في باراغواي، وأفشل الفلسطينيون الإتفاق، سنة 1970، باغتيال المُوظفة المسؤولة عن تنفيذ المُخَطّط الإقتلاعي بسفارة الكيان الصهيوني ب”أسنسيون”، عاصمة براغواي، وعمومًا يمكن تفسير التقارب بين دكتاتوريات أمريكا الجنوبية والكيان الصهيوني، بتطابق وجهات النّظر، بشأن السّكّان الأصليين، وشَكّل الكيان الصهيوني أكبر مصْدَر للسلاح المُستخدم لأغراض قَمعية بتشيلي خلال حكم الديكتاتورية العسكرية (1973 – 1990) والأرجنتين (1976 – 1983) وغواتيمالا (1978 – 2018) بحسب تقرير وكالة “مِرْكُو برس” ( Saouth Atlantic News Agency ) الذي نشرَتْه يوم 18 آب/أغسطس 2020…

استخدمت الولايات المتحدة (مهما كان اسم حزب الرئيس وأغلبية الكونغرس) المنظومة الإعلامية والقضائية للإطاحة بقادةٍ مُنتَخَبِين ديمقراطيًّا، يقودون حكومات شعبية في هندوراس والبرازيل والأرجنتين وإكوادور وبوليفيا، خلال عقد واحد، ولم تنجح المحاولات في فنزويلا أو كوبا، فلجأت إلى تشديد الحصار الإقتصادي، وسرقة الممتلكات والأُصُول، مع مواصلة العمليات السّرّيّة المُسَلَّحة…

نظّمت الإمبريالية الأمريكية أربعة انقلابات عسكرية في أمريكا الجنوبية، خلال ثلاثة عشر عامًا، ضد الحكومات التقدمية في هندوراس وباراغواي والبرازيل وبوليفيا، رافقها نَشْر القوات المُسلّحة بالشوارع والساحات واعتقال واضطهاد الآلاف من المواطنين…

أما بالنسبة للتمدد الصهيوني في أمريكا الجنوبية (الذي تزامن أيضًا مع التّمدّد في إفريقيا، ما يُشير إلى مُخطّط مُحكم)، خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فقد شكّل جُزْءًا من خطّة صهيونية أشْمَلَ لمواجهة تزايد نشاط الحركات التقدّمية المُناصِرَة لحقوق الشعب الفلسطيني في أمريكا الجنوبية، ووَصَف الزعماء التقدّميون، في فنزويلا وبوليفيا وغيرها، دولة الكيان الصهيوني بالإرهابية، لكن تغيّر الوضع، وقام رئيس حكومة العَدو “بنيامين نتن ياهو”، سنة 2018،بأول جولة لرئيس حكومة صهيونية في أميركا الجنوبية شملت الأرجنتين وكولومبيا والمكسيك، وبذل جُهْدًا لزيادة الصادرات العسكرية والتكنولوجية بأسعار مدعومة أمريكيا، مقابل التصويت لمصلحة كيان الإحتلال في الأمم المتحدة، كما حضَرَ حفل تنصيب الرئيس البرازيلي “جاير بولسونارو” (الذي التقط أبناؤه صورًا لهما في فلسطين المحتلة، بقمصان تحمل دعاية للإستخبارات العسكرية الصهيونية) في أول زيارة يقوم بها رئيس حكومة صهيونية إلى البرازيل، التي يبلغ حجم التبادل التجاري المُعلَن معها، سنة 2018، نحو 1,2 مليار دولارا، وأعلنت وزارة خارجية كيان الإحتلال، سنة 2019، وجود نحو 200 شركة صهيونية في البرازيل، ونحو 150 شركة صهيونية في المكسيك، وأكثر من 100 شركة في كل من كولومبيا والأرجنتين، وتنتج هذه الشركات معدات تكنولوجية متقدمة، وأنظمة ومعدات أمنية، وأجهزة طبية…

في بوليفيا، ومباشرة بعد الإنقلاب الذي دعمته وأشرفت عليه الولايات المتحدة، سنة 2019، أعادت الحكومة اليمينية المتطرفة العلاقات مع الكيان الصهيوني، واستنجدت بالجيش الصهيوني لِقَمع الإحتجاجات الشعبية ضد الانقلاب، باعتراف وزير داخلية حكومة الإنقلاب (أرتورو مُوريللو)، وبعد قرار الإمبريالية الأمريكية نقل سفارتها من تل أبيب إلى القُدس، أعلنت دول أخرى من جنوب القارة الأمريكية اعتزامها السير على خُطاها، وللتذكير فإن الكيان الصهيوني دعم الدكتاتوريات العسكرية بأمريكا الجنوبية، ودعم الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا، سنة 2021، لقمع  الاحتجاجات، كما فعل مع بينوشيه قبل أكثر من أربعة عُقُود، من خلال بيع الأسلحة ومعدات “مكافحة الشغب”، وتدريب جيش وشرطة تشيلي…

مخطط  أو عملية “كُوندور”

بدأت الولايات المتحدة تنفيذ خطط الهيمنة على أمريكا الجنوبية مُبَكِّرًا، قبل منتصف القرن التاسع عشر، حيث استحوذت، بالقوة المُسلّحة على أكثر من نصف أراضي المكسيك، وفي سنة 1905، تمكّنت من إطلاق برنامج لتنسيق عمل الشرطة الأمريكية مع دول أمريكا الجنوبية، ودعم مؤتمر “بيونس آيرس” (عاصمة الأرجنتين)، حيث اتّخذ المُؤتمرون من مختلف دول أمريكا الجنوبية “تعزيز الروابط القوية بين أجهزة الشرطة في دول أمريكا الجنوبية، لضمان الأمن القومي ولمكافحة عصابات الجريمة والإرهاب…”، وشكّلت هذه القرارات، وكذلك قرارات مؤتمر سنة 1920، ركيزة للقوانين الإستثنائية وحالة الطوارئ التي فرضتها دكتاتوريات جنوب القارة الأمريكية، منذ العقد الأول من القرن العشرين، بدعم من الولايات المتحدة التي كثّفت من تدخُّلاتها العسكرية والإستخباراتية، بالتوازي مع هيمنة الشركات العابرة للقارات، ذات المَنْشَأ الأمريكي، على ثروات هذه البلدان، من مواد أولية ومعادن وإنتاج زراعي… 

أطلقت الإستخبارات العسكرية الأمريكية إسم “عملية كوندور” على برنامج تخريبي عسكري وتجسُّسي (استخباراتي) ودبلوماسي، عابر للحدود، بأمريكا الجنوبية، اشترك بتصميمه وقيادتها دبلوماسيون مثل “هنري كيسنغر” (وزير خارجية وعضو مجلس الأمن القومي، سابقًا) وإدارة الإستخبارات الأمريكية، بالتّوازي مع تطبيق تكتيكات السياسة الدولية المعروفة باسم “الخطوات الصغيرة”، التي حَدّدها “هنري كيسنغر”، ونفذها في المشرق العربي، حيث نجح في سَلْخِ مصر عن فلسطين وعن مصير الأمة العربية. انطلقت العملية في “سانتياغو”، عاصمة تشيلي، بعد الانقلاب العسكري في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1973، وافتتحت رسميا، في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1975، من قِبَلِ دكتاتور تشيلي، الجنرال “أوغوستو بينوشيه”، ثم تم “تحسين” أساليب القمع ضدّ خُصُوم الدّكتاتورية، والتنسيق بين قوات الشرطة والجيش والاستخبارات في كل من تشيلي وباراغواي والبرازيل والأرجنتين وأوروغواي وبوليفيا بشكل مشترك بين الأنظمة الدّكتاتورية القائمة، إضافة إلى الإجراءات السرية الأخرى ضد المُعارضين…  

توسّعت “خطة كوندور”، لتُصْبِحَ “منظومة قمعية عابرة للقارات”، بدعم قوي من الحكومة الأمريكية وأجهزة مخابراتها وجيشها، ومن “الفاتيكان” والسلطات الدينية ورأس المال في أمريكا الشمالية والجنوبية، وأوروبا التي دعمت أجهزة مخابراتها هذا البرنامج منذ البداية، ومنذ 1956، تكفّل الجيش الفرنسي وأجهزة المخابرات بتدريب الجيش في الأرجنتين على تطبيق أساليب مكافحة التمرد المستخدمة خلال احتلال الجزائر، ومُحاربة ومطاردة “العدو الداخلي”، كما صَدَّرَتْ فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة أساليب القمع إلى أوروبا (البرتغال وإسبانيا وإيطاليا واليونان …) وإلى أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا، وساهمت في سجن أو إعدام مُعارِضين سياسيين محليين وطرد اللاجئين السياسيين إلى بلدانهم الأصلية، حتى لو تعرضوا لخطر السجن أو الموت، مثلما حصل لمُعارضي الدّكتاتورية في البرتغال (1932 – 1975) واليونان (1967 – 1974) والبرازيل (1964 – 1985)، وما “قانون باتريوت” (باسم مكافحة الإرهاب) الأمريكي الذي وقّعه الرئيس بوش الإبن يوم 26 تشرين الأول/اكتوبر 2001، سوى مُقدّمة لإقرار قوانين استثنائية مُماثلة في العديد من دُول العالم، وجميعها مُتْتوحاة من  رؤية “العدو الداخلي” الفرنسية، لتوسيع مجالات المراقبة وتدخّل الاستخبارات في الحياة اليومية للمواطنين وللتّخلّص من القوانين الضّامنة لبعض الحُرّيات، وما “مُخطّط كوندور” الأمريكي سوى  نموذج لخطط ولاتفاقات وقع تنفيذها في أمريكا الجنوبية، لتوسيع دائرة قمع الحريات الفردية والجماعية وعرقلة ممارسة الديمقراطية، وتكثيف استغلال العاملين والمَوارد المَحَلّيّة من قِبَل الشركات العابرة للقارات، في غياب العمل النقابي والسياسي، السّلْمي أو الثّوري، ولم يكن قَمْعًا مَحلّيّا فحسب، بل أصبح إرهاب دولة منظم، وعابرًا للحُدُود، ولئن بدأ تطبيق “مخطّط كوندور”، رسميا سنة 1975، فإنه يُشكّل امتدادًا لعمليات إبادة المُعارضين، في أمريكا الجنوبية وأماكن أخرى، قبل سنة 1975 بوقت طويل (إندونيسيا وماليزيا 1965/1966 ، على سبيل المثال). إن إرهاب الدولة هذا هو جزء من استمرار سلسلة من الاتفاقيات المبرمة بين أجهزة الشرطة والإستخبارات (وبالتالي بين الدول) منذ بداية القرن العشرين، بين أمريكا الجنوبية والشّمالية…

ترأسَ الجنرال “أوغوستو بينوشيه” بسنتياغو (عاصمة تشيلي)، اجتماع 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1975، بمُشاركة العديد من أنظمة الديكتاتورية العسكرية وأجهزة المخابرات في تشيلي وباراغواي والبرازيل وأوروغواي والأرجنتين وبوليفيا، في اجتماع الإطلاق الرسمي لهذا القمع متعدد الجنسيات والذي أطلق عليه اسم “خطة كوندور”، ما يتيح جمع وتبادل المعلومات التي يجمعها الجيش والشرطة، بشأن أشخاص يعتبرون (من قبل الشرطة والجيش) “خطرين على المجتمع، وهم مناضلون سياسيون ونقابيون، أو مدافعون عن حقوق الإنسان، واستخدمت الشرطة والمخابرات العسكرية مصطلح “الجاني المُخَرّب”، أو “الجانح الإرهابي” (Terrorist offender ) منذ سنة 1905 ، لكن الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين (1976-1983) حدّثت هذا المفهوم، وأوكلت إلى ضباط الجيش مهمة تنظيم القمع، سياسيًا واجتماعيًا، على نطاق واسع، ومهمّة السيطرة على مجالات التعبير والنشر والنشاط الثقافي، انطلاقًا من الخبرة القَمْعية الواسعة للضّبّاط الفرنسيين في الجزائر، زيادة على خبرة الجيش والشرطة المحلية الأرجنتينية، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في القمع وعسكرة الحياة السياسية، خلال عملية استعمار المناطق الصحراوية والريفية حوالي 1870.

تُعتَبَرُ الأرجنتين الدولة الأكثر أوروبية في أمريكا الجنوبية، والأكثر إبادة للشعوب الأصلية التي لم يَنْجُ سوى عدد قليل من أفرادها، كما استقبلت الأرجنتين وتشيلي ودول أخرى بأمريكا الجنوبية، بعد الحرب العالمية الثانية، عددًا كبيرًا من قادة الحركات، أو الميليشيات النازية، من ألمانيا والنمسا وكرواتيا وأوكرانيا وبولندا والدول الاسكندنافية. أما ضباط الجيش الفرنسي الذين خططوا لجرائم الاستعمار في آسيا والجزائر وأفريقيا (الكاميرون ومدغشقر والسنغال …)، وأشرفوا على تنفيذها، فقد أصبحوا مدربين في أمريكا الجنوبية لتعليم تقنيات قمع الشعوب وتسليط العقاب الجماعي…

أيدت الأنظمة الديمقراطية، الممارسات غير الديمقراطية التي تم تطبيقها في الأرجنتين (على سبيل المثال) منذ العام 1902، بحجة حماية الأمن القومي، وتم تحديث هذه الممارسات وتعزيزها في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية (تشيلي والأرجنتين والبرازيل وأورغواي ، إلخ) خلال اجتماعات أجهزة الشرطة في لقاءات سنتَيْ 1905 و 1920، في العديد من البلدان (الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وتشيلي وكولومبيا وباراغواي وأورغواي …) وتتمثل في قمع الجيش لحركة المطالب الإقتصادية الاجتماعية، للموظفين والعمال والفقراء، واستخدَمت الأنظمة الحاكمة بأمريكا الجنوبية التقدم العلمي والتكنولوجي لتعزيز الرقابة والقمع، منها بيانات الحالة المَدَنية ونشرة السّجل الجنائي وبصمات الأصابع وكاميرات التّصوير وقاعدة البيانات الإلكترونية الضخمة، والتّجسّس على المُكالمات والمُراسلات الخاصة، وتسجيلها بالحاسوب والإنسان الآلي (روبوت)، كما طورت تلك الأنظمة تقنيات “مكافحة التمرد” التي صَدَّرَتْها فرنسا الاستعمارية، والتي تعتبر أي مقاتل يُدافع عن استقلال بلاده، ليس خصمًا أو عدوّا سياسيا، أو مُحاربًا عسكريا، وإنما مُجْرِمًا وإرهابيا، يَجُوز، بل يجب هَدْرُ دَمِه، ودم أُسْرته وكل من اختلط به…

إن ما يحدث بأمريكا الجنوبية، القريبة جدًا من الولايات المتحدة، مهم للعالم بأسره، فهي ساحة اختبار للجيش الأمريكي والجيش الصهيوني، خاصة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، و “قانون باتريوت”، وسطْوة الأجهزة العسكرية على الدبلوماسية الأمريكية، في محاولة لإخْضاع العالم لإرادة الإمبريالية الأمريكية (والقوات المسلحة لحلف شمال الأطلسي)، باسم “حماية الأمن القومي الأمريكي”. لقد ضاعفت الولايات المتحدة وحلفاؤها عدد بؤر الحرب وزعزعة الاستقرار ، لإعادة تشكيل العالم، وخلق “شرق أوسط كبير” يخضع للإملاء الأمريكي ويمتد من أفغانستان إلى المحيط الأطلسي، وعابر للوطن العربي وللصّحراء الكُبرى، الواقعة جنوب المغرب العربي…  

أمريكا الجنوبية بعد انتخاب جوزيف بايدن:

قبل مغادرة البيت الأبيض ببضعة أيام، زادت إدارة دونالد ترامب من القيود على السفر والتحويلات المالية إلى كوبا، وهددت بالتّدخّل العسكري في فنزويلا، إضافة إلى الحصار وحظر التبادل التجاري مع البلدَيْن، وكانت سياسات إدارة دونالد ترامب، خلال أربع سنوات، عدائية أعادت إلى الأذهان “عقيدة مونرو” (التي تُجيز كافة أشكال التدخل الأمريكي في جنوب القارّة) واتسمت بزيادة التهديدات وتشديد العقوبات، منذ 2018، ضد كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا، ودَعْمِ اليمين المتطرف في البرازيل والأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبيرو وغيرها، ودعم الإنقلابات في فنزويلا وبوليفيا…

لا تختلف سياسات جوزيف بايدن وطاقمه سوى في الشّكل، فقد ساهم بايدن في إقرار المخططات العدوانية الأمريكية، عندما كان رئيًسا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، خلال فترة رئاسة “بيل كلينتون” (تمويل خطة  تجهيز وتدريب قوات الجيش والشرطة الكولومبية)، ثم عندما أصبح نائًبا للرئيس باراك أوباما ومُهندس السياسة الخارجية الأمريكية في جنوب القارة، حيث قام بست عشرة زيارة لبلدان أمريكا الجنوبية والبحر الكاريبي…

للتّذكير، بدأ حصار كوبا ومحاولة غزوها ومحاولات اغتيال زعيمها فيدل كاسترو، خلال فترة رئاسة الديمقراطي جون كيندي، كما زادت حدّة القصف الجوي في فيتنام ضد المباني والمَزارع والبشر، خلال فترة الديمقراطي ليندن جونسون (من 1963 إلى 1969)، بعد اغتيال الرئيس كيندي. 

تزامن انتخاب الرئيس جو بايدن، الذي وَعَد بالإنفتاح والمرونة مع أمريكا الجنوبية، مع زيادة تأثير الصين ومع زيادة تأثير قوى اليسار، في البرازيل وبيرو وتشيلي وفنزويلا وبوليفيا، وغيرها وانحسار تأثير قوى اليمين، في جنوب القارة الأمريكية.

لم تتغير السياسات الخارجية الأمريكية في جوهرها، بعد أكثر من نصف سنة من تغيير أركان الحكم (الرئيس ومجلس النواب)، ومن تولّي نائبة الرئيس، الصهيونية “كامالا هاريس”، ملف أمريكا الجنوبية، فيما قَرّر الرئيس “بايدن” التركيز على مُعاداة روسيا والصين، بل كانت إدارة بايدن نسخة من إدارة ترامب، سواء بشأن ملف هجرة الفُقراء من البلدان التي تُهيمن عليها الولايات المتحدة، (سلفادور، غواتيمالا، وهندوراس…)، أو بشأن دعم الأنظمة المُتّهَمة بانتهاك حقوق الإنسان وقمع احتجاجات سلمية، وقتل واعتقال وتعذيب متظاهرين مُسالمين، بإشراف الإستخبارات الأمريكية والصّهيونية، في ظل انهيار الإقتصاد مع انتشار وباء “كوفيد 19″، في مقابل انتصار قوى اليسار في بوليفيا وبيرو، وتقدّم الصين إلى المرتبة الأولى في مجال المبادلات التجارية مع جنوب القارة الأمريكية، ومع مناطق أخرى من العالم، ويُتَوَقّعُ ارتفاع حجم الإستثمارات الصينية والمبادلات التجارية مع مُجمل مناطق العالم، بينها أمريكا الجنوبية، فضلا عن المبادرة الصينية “الحزام والطريق” أو “طريق الحرير الجديدة” التي انطلقت، سنة 2013، بعد إعلان باراك أوباما (ونائبه جو بايدن)، سنة 2012،  مُحاصرة الصين عسكريا واقتصاديًّا…

_________

“كنعان”  غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.