تسببت سُرعة وتيرة “العولمة”، خلال العقود الماضية (بعد انهيار الإتحاد السُّوفييتي) في ربط اقتصاد جميع الدّول ببعضها، تحت هيمنة دول امبريالية قليلة، ليس بفضل الإنتاج، وإنما بفضل احتكار القوة العسكرية والتكنولوجية، ما يمكّن الإمبريالية الأمريكية، بفضل الدّولار، وبفضل الهيمنة على منظومة التحويلات المالية العالمية، وعلى مراقبة الشبكة الإلكترونية، من الهيمنة على العالم، على الأقل في الوقت الحالي وفي أمدٍ قصير، بموازاة زيادة مصاعب دول “الجنوب” التي تنهب الشركات العابرة للقارات ثرواتها المادّيّة والبشرية، وهذه عَيِّنَة من نتائج إلغاء تعديل الدّولة للأجور والأسعار.
توقّعت منظمة العمل الدولية أن يبلغ عدد المُعطّلين عن العمل، نحو 200 مليون شخص سنة 2022، أو ما يُعادل 5% من إجمالي سُكّان العالم، وأدّت الكوارث والتغييرات المناخية إلى زيادة البطالة في البلدان الفقيرة، لترتفع نسبة من يعيشون في فقر مدقع إلى نحو 10% من سكان العالم، بحسب منظمة “أوكسفام” التي طلبت من البنك العالمي وصندوق النقد الدولي “تعزيز الانتعاش الاقتصادي العالمي الهش والناشئ ، وتعزيز القدرة الإنتاجية المتنوعة…”
يُبَسِّطُ دُعاة النيوليبرالية أمْرَ “تحرير السّوق” (أي تَحَكُّم رأس المال بمفرده )، ويَدّعون أنه مُفيد للبلاد والعِباد، فمن وجهة نظر من وجهة النظر النظريات النيوليبرالية السائدة، يؤدي “تحرير سوق العمل” إلى زيادة العمالة، ما يُؤدّي بدوره إلى السماح بتوزيع أوسع للدخل، وإلى توسيع القاعدة الضريبية لزيادة موارد ميزانية الدّولة التي تنفق جزءًا من إيراداتها للحد من الفقر، وادّعت الحكومات، التي تمثّل رأس المال، عبر دعايتها الرسمية، أن تغْيِير قوانين العمل، الموروثة من فترة نهاية الحرب العالمية الثانية، وإقرار “المُرُونة” (أي الضّغط على العُمال وزيادة ساعات العمل، وخفض الرواتب، وإلغاء الحوافز…) سوف يُؤدِّي إلى التوفيق بين العرض والطلب ( أُسْطُورة “اليد الخَفِيّة” التي تُعدّل السّوق دون حاجة لتدخّل الدّولة) وإلى تَيْسِير وضمان وصول الشباب إلى سوق العمل، كما سوف يُؤَدِّي إلى دعم التنافُسِيّة دُوليا، وزيادة التّصدير، في ظل الإقتصاد المُعَوْلَم، وكانت أزمة 2008/2009، فُرْصَةً للشركات وأرباب العمل والحكومات، للضّغْط على العُمّال، عبر إلغاء ما تَبَقّى من قوانين مُنظّمة لعلاقة رأس المال بقوى العمل… لكن حدثَ العكس، وفق دراسة نشرها قسم الدّراسات الإقتصادية بجامعة نابولي الإيطالية (شباط/فبراير 2019) بعنوان “العاملين الفُقراء، نتائج المُرُونة الإقتصادية” بخمسة عشر دولة أوروبية، من سنة 2005 إلى سنة 2016، وتمكّنت الدّراسة من إبْراز العلاقة بين “التحرير المُتزايد لسوق العمل” (أي إلغاء تدخّل الدّولة لتنظيم العمل ) وارتفاع عدد العمال الذين يعيشون في فقر مدقع في 15 دولة من دول الاتحاد الأوروبي، فقد أدّى “تحرير سوق العمل” إلى خفض التكاليف للشركات الرّأسمالية، وإلى ضَرْب النقابات التي لم تعد قادرة على فَرْض ظروف عمل “مقبولة” وتحسين الرواتب، واضطرّ العُمّال إلى قبول الوظائف غير المستقرة والرواتب المنخفضة، وأدّى انخفاض مستوى حماية العُمّال إلى قُبُول العقود الوقتية وبدوام جُزئي، وإلى عجزهم عن مُجابهة التّسريح، والوقوع في حالة بطالة، سرعان ما تُؤدّي إلى الإنزلاق في الفقر، بسبب خَفْض مستوى حماية العاطلين وخفض فترة حصولهم على “بدل البطالة” وعلى المساعدات الاجتماعية التي أصبحت محدودة للغاية.
وضّحت الدّراسة مُؤَشِّرات “تحرير سوق العمل”، وتدخُّل مؤسسات الدّولة في فَرْضها، بواسطة التشريعات الخاصة بالتوظيف بالحد الأدنى للأجو ، وما يُرافقها من القواعد المتعلقة بالتوظيف والفصل من العمل، في ظل تهميش النقابات والمٌفاوضات الجماعية، على مستوى وطني وعلى مستوى قطاعي، وأطلقت التشريعات العنان لأرباب العمل لنسف التشريعات السابقة والمتعلقة بشروط التّوظيف وبتنظيم عدد ساعات العمل، وبتكلفة تسريح العُمّال، كما وضّحت الدّراسة مراحل “الفقر المُدقع” (نتيجة تدابير المرونة المتزايدة في العمل ) بتجاوز مرحلة عدم المُساواة، وبُلوغ مرحلة الحرمان المادّي الشّديد، بمقاييس أوروبا كمنطقة اقتصاد رأسمالي متقدّم، أي العجز عن دفع الإيجار أو الرهون العقارية أو الفواتير، والمصاريف الطارئة، وصعوبة تسديد نفقات الطاقة والتدفئة، وبلغ الأمر حدّ خفض استهلاك اللحوم والفواكه، فضلاً عن حرمان أفراد العائلة من وسائل التّرفيه ومن الإجازات، وما إلى ذلك
ساهمت “المُرُونة” في زيادة العاملين برواتب منخفضة، وفي زيادة حالات الفقر لدى الأفراد كما لدى الأُسَر، في البلدان الخمسة عشر التي كانت موضوع الدّراسة، وعلى عكس ادّعاء النظرية الراسخة، تؤدي مرونة سوق العمل إلى خفض فاتورة الأُجُور لأرباب العمل، وفي المقابل إلى تهميش ملايين العمال، ما قد يُؤدّي إلى انخرام التّوازن الإقتصادي، وإلى وضع اجتماعي متفجر، بجميع بلدان الإتحاد الأوروبي، على مدى قصير أو متوسّط، ورغم زيادة عدد العمال الذين يعيشون في فقر مدقع في أوروبا، تُصِرُّ المؤسسات الأوروبية على اعتبار “تحرير سوق العمل” عامِلاً لتعزيز النمو…
الإستخلاصات:
ابتدعت حكومات أوروبا، سواء كانت من اليمين التّقليدي أو اليمين المُسْتَتِر (الديمقراطية الإجتماعية التي تُسمي نفسها “اشتراكية”)، كما في ألمانيا (غيرهارت شرودر) أو فرنسا (ليونيل جوسبان وفرنسوا هولند) أو بريطانيا (طوني بلير)، وغيرها، إعفاء الشركات وأرباب العمل من الرسوم ومن تسديد مُستحقّات الحماية الإجتماعية، فضلاً عن الإعفاء الضّرِيبِي ودعم الصّادرات، أي خَفْض تكلفة حصة العمل، وزيادة حصة رأس المال، بذريعة خلق وظائف للفئات غير المُؤَهّلة من العمال، أي من هم في أسفل السّلّم الوظيفي، ما أدّى إلى خفض رواتب فئات عديدة من العاملين، ورفض أرباب العمل زيادة قيمة الرواتب، والحوافز والتّرقيات المهنية، وهي من “التأثيرات الجانبية” أو من مَضارّ قرار إعفاء أرباب العمل من تسديد رسوم الحماية الإجتماعية على الرواتب المنخفضة، وضخ المال العام في خزائن الشركات والأثرياء.
قُدّرت قيمة ضرائب الشركات التي استفادت من هذا الإجراء، بنحو تريليون يورو، في بلدان الإتحاد الأوروبي، خلال السنوات من 2013 إلى 2016، بينما بلغت قيمة الإعفاء نحو 1,8 تريليون يورو، ما أدّى إلى خسارة نحو خمسمائة ألف وظيفة، خلال تلك السنوات، بالتوازي مع ارتفاع عدد الوظائف ذات الرواتب المنخفضة التي تتمتع بالإعفاء، بنسبة 50% تقريبًا، لتُمثِّلَ نحو 13% من العدد الإجمالي للوظائف بالإتحاد الأوروبي، خلال نفس الفترة، وارتفعت تلك النسبة بكثير، خلال السنوات اللاحقة، لكن لم ينشر مكتب الإحصاء الأوروبي بيانات تفصيلية.
أدّى هذا الإبتكار الرأسمالي الخبيث إلى تقويض مؤسسات الحماية الإجتماعية وإلى انخفاض إيرادات ميزانية الدّولة وإلى خفض معدّل الرواتب وإلى اتساع رقعة العمل الوقتي والهش…
أدّت سياسات تحرير سوق العمل والتقشف التي تنفذها الحكومات الحالية والسابقة إلى كارثة، ووجب استبدالها (ضمن النظام الرأسمالي نفسه) بسياسات مالية توسعية وإعادة توزيع حاسمة. وغير مباشر ، نحو الدخل المنخفض. بشكل مباشر ، من خلال الزيادات في الأجور والزيادات في حماية العمال التي تعدل ميزان القوى غير المتكافئ تمامًا الآن لصالح الموظفين. مع ذلك ، عكس مسار تدابير التقشف بشكل غير مباشر.
إن الزيادة في الإنفاق العام بنسبة 10% تؤدّي إلى زيادة في مُعدّلات التوظيف بنسبة 3,5%، ويؤدّي انخفاض الإنفاق العام إلى نتائج عكْسِيّة بنفس النّسبة تقريبًا. إن المنطق الرّأسمالي لا يهتم بالجانب “الإنساني”، بل بحجم الأرباح، وبزيادة إنتاجية العمل، حيث تؤدي الزيادة في الإنتاجية إلى تقليل حجم العمل الضروري لزيادة الإنتاج، ولتحسين جَوْدَتِهِ…
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.