
تحت هذا العنوان وقبل أكثر من عقد مضى، وعلى وجه التحديد في العام 2010 صدر كتاب عن غزة، كتبته سيدة سويدية هي لوتا شولركفيست، عملت صحفية في كبرى الصحف السويدية “داجنز نيهيتر”. وخلال سنوات أربع أمضتها كمراسلة للصحيفة المذكورة، في القدس، غالبا ما كانت تكتب تقارير صحفية من غزة متابعة أوضاعها، والتطورات التي وقعت فيها ولها لسنوات عديدة.
تواصلت قبل بضع سنوات مع لوتا وأعربت عن رغبتي في نقل كتابها الى العربية حتى يتمكن الغزيون من قراءة ملامح صورتهم في عين غربية عاشت بينهم وعرفتهم وفهمت أحوالهم ومعاناتهم المرعبة. وأحبت السيدة الفكرة، لكن تعقيدات حقوق النشر التي حازتها الدار التي نشرت كتابها حالت دون ذلك. ومع هذا فلعل ترجمة الكتاب أو أجزاء منه تكون مثيرة أو مسلية لبعض القراء، أو لعلها تساعد في تظهير ملامح حقيقية طمست تحت غبار البارود وتورمت بفعل العنف الوحشي من الخارج والقمع الوحشي أحيانا ومن الداخل أيضا.
تلج المؤلفة إلى كتابها بهذه الأبيات ذات المغزى، من “حالة حصار” للشاعر الراحل محمود درويش:
نخزن أحزاننا في الجرار، لئلا
يراها الجنود فيحتفلوا بالحصار…
نخزنها لمواسم أخرى،
لذكرى
لشيء يفاجئنا في الطريق
فحين تصير الحياة طبيعية
سوف نخزن كالآخرين لأشياء شخصية
خبأتها عناوين كبرى،
فلم ننتبه لنزيف الجروح الصغيرة فينا.
غدا حين يشفى المكان
نحس بأعراضه الجانبية
مقدمة
صبيَّان فوق عربة يجرها حمار. وقد لف كل منهما رأسه بكوفية. وعلى ظهر العربة انطرحت جثة خروف. الطريق مفروشة بالحصى والغبار وسط أرض صحراوية منبسطة. وفوق هذا كله، بدت سماء كانون الثاني زرقاء شاحبة بغيومها الصغيرة الملبدة.
تلك صورة التقطتها وانا في طريق خروجي من غزة بعد حرب يناير كانون الثاني 2009. بقيت الصورة ومنذ فترة طويلة على شاشة حاسوبي الخاص – صورة استمرار الحياة عقب وقوع الكارثة. كما جرت العادة دائما في هذه البقعة من الأرض التي مزقتها الحرب الأبدية.
ذات يوم التقيت رجلا، وكان مدرسا، فسألني لماذا اخترت تلك الصورة من بين كل الصور لتكون صورة شاشة الحاسوب. قائلا إن هذه هي الطريقة التي ترون أنتم في العالم الخارجي غزة من خلالها: متربة، فقيرة وبدائية. هذا صحيح جزئيا، ولكن هناك أكثر من هذا بكثير يمكن أن يروى عنا.
لقد وضع إصبعه على إحساس خامرني منذ فترة طويلة. وبدأ ينمو لدي ويزداد قوة خلال السنوات التي عملت فيها مراسلة إخبارية في غزة.
كانت تقاريري تدور في معظمها حول الأحداث العاصفة والدموية، أما الأشخاص الذين قابلتهم فقلما وجدوا لهم مكانا فيها.
عندما التقيت ريتشارد هيرولد في دار النشر أطلس فهم على الفور ما كنت راغبة في فعله. وكم أشعر بالامتنان له لذلك وإلى الأبد. لقد قدم لي دعما لا نظير له خلال عملي على كتابة هذا الكتاب.
وأنا مدينة أيضا لجميع الغزيين الذين تقاسموا معي وقتهم، وأفكارهم. وإلى جانب الأشخاص الذين سيردون في الكتاب، ثمة شخص يتقدمهم جميعا، هو من جعلني اتعرف على غزة وأحبها: الصحفي محمد عمر، أول مساعد لي ومذلل للمصاعب التي واجهتني. وبعد فهناك صف طويل من الأشخاص الآخرين، لا يمكن نسيانهم حتى ولو أغفل ذكرهم.
لقد كتبت معظم هذا الكتاب تحت شجرة التفاح في منزلي الكائن في روزلاجن. وحاولت أن أستعيد عبير غزة وأحوالها، وأنا جالسة في ظل تفاحتي، ومن حولي أحفادي الذين يعجز خيالهم عن تصور شكل الحياة التي يعيشها أقرانهم من أطفال غزة هناك. لكنني أتمنى أن يقرأوا كتابي عندما يكبرون.
الفصل الأول
كانت البناية الصغيرة بأدوارها الثلاثة مستغرقة في رقادها وكأنها الجميلة النائمة، تتوارى وراء شجرة شبيهة جدا بشجر المطاط الهندي. وكان تاج الشجرة يعرش بظلاله فوق الفناء الرملي بنباتاته المتفرقة التي أصابها الجفاف. الحديقة مسورة بجدار يعلو بمقدار قامة عن الأرض، متوج بقطع زجاجية غليظة، وكانت بضعة سيارات متهالكة وعربة جيب تحمل لوحة أرقام دبلوماسية مركونة في الفناء.
بدا ممر النزل شبيها بمعبد إغريقي أثري بما فيه من أعمدة على الجانبين. وفي داخل ركن الاستقبال الخالي في معظم الأحيان من موظفيه، علق صف من المفاتيح بشرائح جميلة من خشب الزيتون. وعلى طول الجدران كانت رفوف الكتب مليئة بالمؤلفات المكتوبة بلغات أوربية: أغلبها في وصف الرحلات، وقلة منها في التاريخ وبضعة روايات مرتبة بعناية.
كان يهيمن في الداخل أيضاً، جو من الخمول، كأن الزمن توقف عن الحركة منذ عقود طويلة. الأثاث كان متداعيا، والسجاجيد التي تغطي الأرضية كلها، كانت مهترئة، والجدران قذرة. وغرف النزلاء مقترة في أثاثها، وكانت ستائر الحمامات المصفرة متقصفة والأسرة شديدة الانخفاض.
مارنا هاوس هو أقدم فنادق غزة، لكنه ليس أكثرها أناقة. وقد أصبح هذا النزل بيتي في غزة. باسل ونورما الشوا هما من يدير شؤون النزل وتمتد عنايتهما إلى حدود أبعد بكثير مما يتوقع المرء الحصول عليه في أي نزل – فقد كانا يدبران إلى حد بعيد كل ما يحتاجه النزيل، ولا ينحصر ذلك في توفير شريحة الهاتف المحلية أو أدوية المغص، بل وفي تدبير النقود كلما افرغت الصرافات الآلية من محتوياتها. علاوة على ذلك، تهيئة التواصل مع الشخصيات المثيرة للاهتمام، والمبادرة بتقديم الإرشادات حول الأحداث وسياقاتها التي يعجز الزائر العابر عن فهمها بصورة مباشرة.
صحفيون وصانعو أفلام وكتاب وموظفون في مجال تقديم المعونة جعلوا من هذا النزل مثابة لهم في غزة، على مدار عقود من السنوات.
أحداث كثيرة جرت داخل أسوار مارنا هاوس، منذ أن وطأت قدماي أرضه لأول مرة سنة 2003. الفناء الرملي استحال إلى مقهى حدائقي هو الأكثر حظوة بالزائرين بين كل مقاهي غزة، بممراته المبلطة بالحجارة وحانته التي امتدت منضدتها تحت شجرة المطاط الهندي الكبيرة تلك. كان الغزيون صغارا وكبارا يلتقون كل مساء هنا ليأكلوا ويشربوا ويدخنوا النارجيلة التي كانت واحدة من اختصاصات هذا المكان. وبعد بضعة ساعات كان الهواء يمتلئ بالدخان العطر الذي يتحلق في غيمات رقيقة تحت المظلات الصفراء التي تتعامد فوق موائد المقهى.
كان باسل الشوا قد بدأ بتشغيل المقهى في ربيع 2004، حيث خسر النزل وقتها قسما كبيرا من نزلائه الأجانب، نتيجة للقيود المتشددة التي فرضتها إسرائيل على الأجانب الراغبين في زيارة غزة. وقد جاءت السياسة الإسرائيلية المتشددة مسبوقة بحادثتين. ففي نيسان/أبريل 2004 وقعت عملية انتحارية في تل أبيب، وقد تكشف فورا، أن من قام بالعملية باكستانيان يحملان جوازي سفر بريطانيين، وكانا قد أقاما قبل ذلك في غزة لفترة من الوقت. وبعد ذلك بستة شهور قتل ثلاثة أمريكيين بسيارة مفخخة على اثر زيارة قاموا بها لجامعة في غزة.
والآن بات المقهى الحدائقي يشكل مصدر الدخل الرئيسي للنزل، غير أن باسل الشوا قام أيضا، ببناء صالتين كبيرتين للمؤتمرات، كانتا محجوزتين دوما من قبل جميع المنظمات العاملة داخل غزة.
في وقت الغداء يعج المقهى بالزائرين، ولكن في فترات قبل الظهر وبعده يسود الحديقة جو من الصفاء والسكون، لاسيما وقد أصبحت زاخرة بالنباتات الزاهرة. وعلى الممر، قبالة المدخل تنتصب نافورة مصنوعة من ثلاثة أطباق مختلفة الحجم من الهوائيات اللاقطة المكسوة بقطع الفسيفساء، وهو مثال نموذجي على روح الابتكار الغزية. وقد بقيت الأسماك الذهبية سابحة في مياه النافورة على مدار سنوات، ولكنها اختفت الآن بسبب شح الماء.
غرف النزلاء جرى تحديثها أيضاً، وزودت بمكيفات هواء وأجهزة تلفاز ومراتب جديدة للأسرَّة وستائر للحمامات. أما الأمر الذي يعلو في أهميته كل شيء فكان بالنسبة لنا نحن الصحفيين وجود خدمة الإنترنت اللاسلكية في الغرف وفي الحديقة على حد سواء. كان الاتصال الهاتفي هنا، في السنوات الأولى شبه مستحيل ما لم يصعد المرء فوق السطوح. كنا نلجأ الى مكتب باسل الشوا ونستعير حاسوبه وخطه الهاتفي حتى نتمكن من إرسال النص والصور الى بلادنا.
الآن أستطيع الجلوس والكتابة في الحديقة، بينما يتبادل زوار وقت العصر حديثهم الهادئ ويقرقرون بنارجيلتهم، وسعف نخيل الجيران يخشخش في نسيم البحر. في بعض الأحيان كنا نجتمع على طاولة واحدة، صحفيون عديدون، نجلس هناك إلى حواسيبنا، وكل واحد منا مشغول بقصته.
كان مارنا هاوس قد فتح أبوابه، في العام 1946، في عهد الانتداب البريطاني، بيد الفلسطينية مارغريت نصار، سيدة مسيحية نصراوية، جاءت إلى غزة في الثلاثينيات بصحبة زوجها البريطاني. وبعد وفاة زوجها قررت السيدة نصار، من أجل الاستمرار في إعالة نفسها بنفسها، أن تفتح بيت ضيافة صغير للضباط البريطانيين والموظفين الحكوميين الذين اعتادوا زيارة غزة في ذلك العهد.
كان مارنا هو الاسم الذي حمله النزل، وهو اسم الإله مارنا، رب أرباب غزة قبل المسيحية، وما يعتقد بأنه المعادل الهيليني للإله السامي القديم داجون. وقد اختارت السيدة نصار هذا الاسم تذكرة منها بتاريخ غزة الطويل والثري. وجاء تصميم مدخل النزل نقلا عن صورة معبد الإله مارنا، موجودة على قطعة عملة محلية تعود إلى العام300 قبل ميلاد المسيح.
لم يشأ أبناء السيدة نصار الثلاثة العودة إلى غزة وتولي إدارة النزل، بعد أن غادروها في سن مبكرة، وكانت قد شعرت بتراجع قدراتها، ولهذا باعته في 1982 لعمة باسل الشوا مليكة الشوا التي تولت إدارة النزل مع ابنة عمها عليا. ولما كانت مليكة تقيم في بيروت بين فترة وأخرى بسبب زواجها من رجل لبناني، فقد أدارت عليا العمل وحدها.
هاتان السيدتان المتحدرتان من واحدة من أعرق وأبرز العائلات في غزة، اصبحتا اسطورتان صغيرتان، خصوصا بين الصحفيين الأجانب الذين تدفقوا على إثر انتقال غزة إلى بؤرة الأخبار خلال الانتفاضة الأولى، الهبة الفلسطينية التي اندلعت سنة 1987.
في ذلك الوقت كان مارنا هاوس ملتقى الإعلاميين ذلك أن عليا الشوا تمكنت من جعل حركة المقاومة الفلسطينية تقيم مركز معلوماتها هنا.
آنذاك، كما يروي باسل الشوا، لم يكن لدى مارنا هاوس سوى هاتف واحد، كان على جميع النزلاء تقاسم استعماله. كان هذا قبل ظهور الموبيلات وهواتف الساتلايت إلى الوجود، لذا كان على روبرت فيسك وغيره من الصحفيين العالميين ان ينتظروا دورهم لكي يرسلوا تقاريرهم إلى بلادهم.
وفي الوقت الحالي تقيم مليكة الشوا في بيروت، ولم يسمح لها بالعودة إلى غزة منذ عشرة أعوام. وتولى باسل الشوا مسؤولية النزل من عليا التي رحلت قبل بضعة أعوام.
وكنت قد حصلت على لمحة عن ابنتي العم هاتين وعن أصالتهما، من خلال فيلم وثائقي سجلته البي بي سي هنا قبل عشرين عاما بعنوان “نزل مليكة”. كانت الانتفاضة الأولى قد اندلعت وكانت الشوارع تعج بالإطارات المشتعلة، وقاذفي الحجارة من الشباب، وبقنابل الغاز المسيل للدموع الإسرائيلية. “هذا ليس نزل هيلتون، لكنه واحة للحياة الطبيعية وسط الفوضى” هكذا استهل صوت راوية الفيلم حديثه. مجموعة أميركية من منظمة مرسي كوربز حطت رحالها للتو، تهتف مأخوذة “يبدو هذا المكان كما لو كان منتزعا من إحدى روايات همنغواي”.
مليكة سيدة في منتصف العمر، لا تتوقف عن التدخين، يطوق عنقها عقد من اللؤلؤ، تقف في مطبخ النزل وتحرك القدور وهي تتحدث عن عائلتها وعن نزلها، بإنجليزية سليمة يعود أصلها إلى سنوات اليفاعة التي أمضتها في إحدى مدارس إنجلترا الداخلية. وخلال استراحاتها القصيرة من أعمال الطبخ، كانت تجلس الى البيانو الهائل الذي تملكه وتعزف عليه قليلا.
أخذت مليكة تشرح السياسة المتشددة المتبعة في مارنا هاوس:
- نحن لا نستقبل نزلاء غير معروفين لدينا إلّا إذا جاءوا بتوصية من منظمة أو شخصية نعرفها. وفي فترات مضطربة كهذه، لا يأتينا تقريبا سوى الصحفيون. فهم أناس ليس من السهل أن تخيفهم – كلما اشتد وطيس القتال، زاد عدد نزلائنا.
في نهاية الفيلم تظهر مجموعة من الصحفيين تجمعوا عند المساء في قاعة النزل لإرسال ما تمكنوا من الحصول عليه في نهاية يوم مليء بالمصاعب. كان من بينهم شاب أميركي، يتبجح مباهيا بما يشعر به من نشوة أثناء وجوده وسط العنف الدائر في شوارع المدينة. وهو يعلن عن حاجته الآن إلى كأس حقيقية، بل عدة كؤوس حتى لو أصابه الدوار في صبيحة اليوم التالي.
صارت الكحول الآن ممنوعة في غزة من قبل النظام الإسلامي الذي بات يحكمها. وفي السنوات الأولى التي عشتها هنا، كانت الكحول تقدم في محل وحيد هو نادي الأمم المتحدة القريب من الشاطئ. وقد تعود ارتياد هذا المكان في المساء، مجموعة متنافرة من الأجانب، مقيمين وزوار عابرين.
وذات ليلة جرى تفجير النادي على يد مجهولين، ومن يومها أصبحت غزة منطقة خالية في الأساس من الكحول، اللهم إلا بضعة الزجاجات القليلة التي تشق طريقها خلسة، عبر التفتيش الدقيق للأمتعة الذي تقوم به شرطة حماس على نقاط العبور.
وعلى الرغم من أن مارنا هاوس لا يبدو مثل ما كان عليه في عهد مليكة وعليا، إلا أنه مازال ثمة فيه ما يجعلك تشعر بأنك في بيتك، ويعزز فيك هذا الشعور، كالفطور مثلا الذي بقي على حاله منذ ان فتح النزل ابوابه الى الان. وهو مكون من الشاي أو القهوة السريعة، خبز عربي، زبدة وجبنة بيضاء مملحة ومربى البرتقال المحضر منزليا على الطريقة الإنجليزية والمشوب بشيء من المرارة. وفضلا عن ذلك يقدم البيض المعد وفقا لرغبة النزيل: مسلوقا، مقليا، اومليت، مخفوقا أو نصف مسلوق وهو ما أفضله.
الشخص الذي يقدم الفطور، أبو منير، وهو معلم أساسي من معالم النزل.
عدا ذلك، كان مارنا هاوس يقدم مفاجأة مجانية مختلفة كل مرة، خلال فترة إقامتي هناك. ذات يوم دخلت الى مكتب باسل الشوا وكانت بندقية من طراز كلاشنكوف موضوعة على أحد الرفوف. دهشت كثيرا لأن وجود السلاح ممنوع منعا باتا هنا، تماما كما هو الحال مع بقية الفنادق في غزة. سألته إذا كان قد تخلى عن مبادئ اللاعنف التي أعلن عنها سابقا.
لا، أبدا، هذا فقط لإخافة الدخلاء المحتملين، أوضح الأمر لي، ثم روى بعد ذلك أن بعض الفنادق الأخرى تعرضت لزيارة بعض الرجال المسلحين الذين سألوا عن وجود نزلاء أجانب. حدث ذلك في فترة تكررت فيها حوادث الخطف، خلال فوضى السلاح التي سادت قبل تولي حماس السلطة في صائفة 2007. ولكي يحمي نزلاءه، قام بتعيين حارس ليلي كان يجلس في مدخل النزل وإلى جانبه بندقية كلاشنكوف.
والآن يجلس مسلحان من شرطة حماس عند مدخل النزل من الصباح الباكر إلى ساعة متأخرة من المساء. وقد جاءوا تلبية لطلب موظفي الأمم المتحدة، الذين يعقدون اجتماعاتهم ودوراتهم هنا.
وفي إحدى المرات، وكنت قد نزلت في مارنا هاوس، خريف 2008، وجدت المدخل مغلق بعشرات من رجال شرطة حماس، بزيهم الأسود. وفي الخارج كانت حافلة سياحية مركونة على جانب الطريق. عندما ولجت إلى صالة الاستقبال وجدت تفسيرا لوجود ذلك الحشد الشرطي الكبير- وهو أن مجموعة من النشطاء الأجانب كانت قد وصلت لتوها قادمة من جزيرة قبرص على ظهر زورق نجح في اختراق الحصار الحدودي الذي فرضته إسرائيل برا وبحرا.
بدا أن هذا الاهتمام الهائل من قبل الشرطة مدفوع بالفضول وبمسؤولية القيام بالحراسة على حد سواء. وكان من بين من وصل من النشطاء جدعون سبيرو، العضو العريق في حركة السلام الإسرائيلية. وعندما بات واضحا للشرطة من هو ذلك الشخص، تجمعوا عليه كما يتجمع الذباب على قطعة من الحلوى- وحاول كل واحد منهم أن يتحدث معه بالعبرية التي يجيدها قسم كبير من الرجال البالغين في غزة، نظرا لكونهم عملوا في إسرائيل أو اعتقلوا في سجونها أو كلا الأمرين معا.
في صباح أحد الأيام حط في صالة الاستقبال واحد من نزلاء النزل الدائمين، محدثا جلبة وضوضاء ومعه حمولة ضخمة من الأمتعة. سلم بشوق على العاملين، ثم قدم نفسه الي -بول مارتن، صحفي بريطاني. جلس إلى طاولتي وطلب شوربة العدس المعدة بصورة خاصة له – إنهم يعلمون تماما كيف أريدها، أوضح لي ذلك بحماسة مؤكدة.
انطلق بعدها في الحديث عن مارنا هاوس زمن مليكة وعليا، مفتونا بصورة واضحة، إن لديه الآن مستمعا مهتما بذلك:
- لم يكن يكفي أن تأتي وتسأل عن وجود غرفة شاغرة. إن لم يكن المرء معروفا سلفا لديهم، فإنه يدعى لتناول فنجان شاي مع إحدى السيدتين، حتى تتكون لديها صورة مفهومة عن ماهية الشخص. وبعد أن ينتهي الاختبار، إما أن يحصل الشخص على غرفة، أو على جواب مفاده أن جميع الغرف، مع الأسف، مشغولة.
ومن الواضح أن بول مارتن قد اجتاز اختبار الشاي بنجاح، ومن وقتها تحول مارنا هاوس إلى نقطة ارتكازه في غزة، حيث يشرع الآن في تصوير فيلم وثائقي لصالح إحدى شركات التلفزيون البريطانية. وهو مشروع أدى إلى اعتقاله مؤخرا من قبل شرطة حماس، بتهمة التجسس لصالح إسرائيل. وبقي معتقلا لثلاثة أسابيع حتى نجحت السفارة البريطانية في إقناع حماس بإطلاق سراحه وتسفيره من غزة.
لقد كان بول مارتن هو من حكى لي عن السر الكامن في مارنا هاوس، والذي لم أرَ منه حتى الآن سوى بضعة شظايا. أما ما هو مضمونه، فإنني لا أستطيع أن أجزم، لكنني أتصور أنه يمكن أن يكون له مغزى كبير يوما ما، في المستقبل، فقط إذا ما قيض لمن يريد اكتشافه، أن يواصل التنقيب عنه.
- يمكن له أن يصبح قصة جيدة، قال بول مارتن وهو ينتهي من تناول الشوربة.
_________
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.