15 نوفمبر 2022
توفي البروفيسور الأمريكي جين شارب العام الماضي عن 90 عاماً في بيته المتواضع في بوسطن بين رفوف الكتب وزهرات الأوركيد التي كان يرعاها. لكن الرجل الذي يوصف بأنه واضع دليل عمل الثورات الملونة في صربيا وأوكرانيا وغواتيمالا وإيران وتونس ومصر وسوريا والعراق، يبعث حيّاً بأفكاره الملهمة عن اسقاط الحكومات التي تستهدفها الولايات المتحدة من خلال الأنشطة اللاعنفيّة المنظمة كلما اندلعت “ثورة” جديدة في مكان ما من العالم. “كيف تصنع ثورة” وثائقيّ بريطانيّ نادر (2011) متخم بتبجيل ومديح للبروفيسور الرّاحل، لكنه سجل تاريخي مهم لكل من يريد أن يفهم الحاضر.

“بالكلمات، وليس بالسّلاح”.
جين شارب (1928 -2018)
مثلت الحرب الأمريكيّة على فيتنام بكل نتائجها الكارثيّة وتكاليفها الباهظة مادياً وبشرياً وسياسياً نقطة تحوّل كبرى في العقل الإمبراطوريّ الأمريكي. لقد أقنعت تلك الحرب نخبة واشنطن بالحاجة إلى طريقة أخرى غير قتل الناس لإسقاط الأنظمة التي تستهدفها الولايات المتحدة. عند تلك اللحظة اكتشف روبرت هارفي – الحائز على تكريم الجيش الأمريكي لبطولاته المأثورة في قتل الفيتناميين وكان بعد تقاعده يعمل مستشاراً متعاقداً مع المخابرات الأمريكيّة توفده لتوجيه الثوريين حول العالم – أستاذاً في جامعة هارفارد كان يدّرس للمبعوثين من أوروبا الشرقيّة ودول العالم الثالث أساليب اسقاط الحكومات من خلال اللاعنف والمقاومة السلبيّة وأسلحة سايكولوجيّة واجتماعيّة واقتصاديّة. كان ذلك جين شارب.
أرسل هارفي وراء شارب للالتحاق به في بورما عام 1992 حيث كان يقدّم التوجيه للثوار الذين كانوا يقاتلون منذ عشرين عام لإسقاط النظام هناك. جاء شارب بالقارب من تايلاند إلى الأدغال البورميّة، وأعطى نصائحه للثوار ولخصها لهم في 198 تكتيكاً طبعت كمناشير بالإنجليزيّة والبورميّة قبل أن تجمع لاحقاً في كتيّب عنون ب(من الديكتاتوريّة إلى الديمقراطيّة) ما لبثت أن تحول بفضل المخابرات الأمريكيّة إلى دليل عمل الثورات الملونة، فترجم إلى عشرات اللغات، وطبعت منه ملايين النسخ، ويتوفر للتحميل مجاناً على الإنترنت. كانت ردة فعل قائد المتمردين البورميين الأوليّة على محاضرات شارب. “اللعنة، أين كان هذا الأمريكي قبل عشرين عاماً؟”.

قصة شارب مع اللاعنف قديمة. فهو عندما كان شاباً في مقتبل العمر وشن الأمريكيّون حربهم على كوريا بداية الخمسينيات، رفض الالتحاق بالخدمة العسكريّة، ولذا فقد سجن وقتها لعدّة أشهر. وقد كتب من سجنه لألبرت آينشتاين – عالم الفيزياء المعروف – مستفتياً عن رأيه في موقفه ذاك، فأجابه بلطف متفهماً ومؤيداً. وقد أطلق شارب لاحقاً اسم اينشتاين على المعهد الواجهة الذي مارس من خلاله أنشطته، ونشر عنه أعماله الكثيرة.
درس شارب علوم السياسة في جامعة أكسفورد ببريطانيا معقل الفكر الإمبراطوري الأنجلو ساكسونيّ، وهناك انتهى إلى نتيجة لوّنت حياته كلّها مفادها بأن الأنظمة الحاكمة تستند مع قوّة السلاح واحتكار العنف المشروع إلى مصادر قوّة محددة ترتبط أساساً بطاعة الجمهور، وأنّه عبر أنشطة سلميّة موصوفة يمكن إضعاف تلك الأنظمة لدرجة التهاوي دون تدمير مقدرات الدولة بالكامل. إذ من الضروري للثوار المنتصرين أن يجدوا شيئاً لحكمه.
راقب شارب تمرّد تيانآن مين في الصين 1989 عن كثب. تحليله للحدث كان بأن اللاعنف التلقائيّ بدون استراتيجيّة متكاملة وصفة تامة للهزيمة أمام الأنظمة المدججة بالسلاح. ولذا أصبحت تعاليمه تتمحور حول التخطيط الاستراتيجي للإطاحة بالأنظمة وفق خطط متدرجة لتنفيذ ال 198 تكتيكاً العتيدة. كانت صربيا المتململة من حكم سلوبودان ميلويسفيتش الساحة الأولى التي طبقت عليها هذه التعاليم بنجاح تام. هارفي الذي كانت أوفدته المخابرات الأمريكيّة إلى بودابست لتنسيق الثورات في أوروبا الشرقيّة سافر إلى بلغراد سراً والتقى زعيم المتمردين. لم يكن ذلك الزّعيم سوى سرخا بوبوفيتش الذي وجد في الطبعة الصربيّة من دليل الثورات الملونة التي جلبها هارفي مع ملايين الدولارات من المخابرات الأمريكية ضالته المنشودة، فوُضعت استراتيجية متكاملة وخطة متدرجة نفذتها بحذافيرها وفق تكتيكات شارب حركة أطلقت نفسها اسم المقاومة (أتوبر باللغة الصربيّة). لقد سقط النّظام بالفعل في العام 2000 بعدما نجحت أتوبر في شق القوى الأمنيّة عبر الضغوط الاجتماعية واللاعنفيّة من استخدام السخريّة كسلاح، وتوجيه الغضب مركزاً نحو شخصية (الطاغية)، وعزل التلاميذ الذين يعمل آباؤهم في الجيش والشرطة، وطرق الأواني في وقت إذاعة نشر الاخبار الرئيسيّة على التلفزيون الحكومي، ودفع الحسناوات والأطفال والعجائز والمتقاعدين العسكريين إلى مقدمّة التظاهرات في الميادين العامة، وإغلاق الطرقات أو القيادة بسرعات بطيئة لخلق أزمات سير خانقة، وتوزيع الورد على الجنود ، وعزف الموسيقى والرّقص الماجن والأغاني البذيئة، إلى اقتحام مبان عالية الرمزيّة واسقاط التماثيل مع توفير نقل مباشر لمحطات التلفزيون العالمية المعروفة بدعمها للثورات المتأمركة (سي ان ان، و بي بي سي وفرانس 24 وسكاي والجزيرة عربيّة وانجليزيّة)، وما إلى ذلك مما ورد في وصفات شارب.
بوبوفيتش ورفاقه اختفوا لاحقاً من المشهد السياسي في صربيا بعد ميلوسيفيتش إذ حصلوا على أقل من 2% من مجموع أصوات الناخبين. لكن المخابرات الامريكيّة حولتهم إلى مدربين عالميين لثوار تعدّهم لمهمات مستقبليّة في دول تجد الاستراتيجية الامريكيّة أنّه من الضروري تغيير أنظمتها وذلك عبر معهد معروف بإسم (كانفيس) يستلهم شارب للقرن الحادي والعشرين، لا سيّما بعد شيوع الإنترنت. وليس سراً أن الثورات الملونة التالية في أوكرانيا وجورجيا وإيران وزيمبابوي وفنزويلا وما عرف بموجة الربيع العربي في تونس ومصر وسوريا ولاحقاً في لبنان والعراق جميعها عبرت عبر هذا المعهد، وتلقى قادتها توجيهات مكثّفة ودعماً مالياً ولوجستياً (ومنها حركة 6 إبريل و”كفاية” في مصر، والثورة المزعومة في سوريا، وحراك “طلعت ريحتكم” في لبنان، والحراك الحالي في العراق).
“كيف تصنع ثورة” الذي أنجزه روريد أرو مراسل ال بي بي سي في القاهرة إبان حراك يناير 2011 كان ردة فعل شخصيّة منه على ما لمسه من تأثير شارب وتكتيكاته في الثورة المصريّة المزعومة، التي أطاحت بحسني مبارك من منصب الرئاسة. ورغم محدوديّة ميزانية الفيلم، وضعفه التقنيّ الظاهر، ونبرته المبجلّة لشارب بوصفه حكيم الحريّات، فإنّه وثيقة تاريخيّة هامة تؤرّخ لتحوّل هام في منطق الحرب عند الإمبراطوريّة الأمريكيّة. وقد اتفق كثيرون من النقاد على تقريض الفيلم من تلك الناحية رغم كثرة المآخذ الفنيّة عليه وحاز لذلك على عدة جوائز. ولعل مما قد يثير الاهتمام بالنسبة للمشاهدين العرب تحديداً الشهادات التي قدمها منذ 2011 قادة في ربيعات العرب في مصر وسوريا عن علاقاتهم المتقادمة مع شارب قبل سنوات عدّة من انطلاق الحراكات. يتحدث أحمد ماهر من حركة 6 إبريل مثلاً عن تحضير مكثف لثورة لاعنفيّة في مصر تضمنت زيارة لكوادر “كفاية” إلى شارب في مقر عمله ببوسطن عام 2006، ومن ثم استفادة الثوار المصريين بكثافة من الخبرة الصربيّة، وتوجيهات معهد كانفس لا سيما فيما يتعلق بتوظيف مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن الجزء الأكثر اثارة في الفيلم فهو شهادة الثائر السوري أسامة المنجد الذي كان ضمن الطاقم التحضيري للثورة المزعومة في سوريا وهو زار شارب شخصياً في بوسطن عام 2006 بسبب ما أسماه وجود استفسارات استراتيجيّة حول الخطة التي كان يتم العمل عليها حينذاك لإطاحة النظام. وعندما شاهد العالم العربي سقوط مبارك على قناة الجزيرة مباشرة، وجد المخططون بأن تلك كانت اللحظة المناسبة لإطلاق ثورة سوريّة. يقول المنجد بأن فريقه كان قد نشر مبكراً عدداً هائلاً من الكاميرات السريّة المرتبطة بنظام بث عبر الستالايت في أحياء دمشق ومدن أخرى، وهذه كانت جاهزة لمدّ الجزيرة بنسختيها، وبقيّة جوقة الإعلام الثوري المعروفة بأشرطة مصورة عن المظاهرات المفتعلة، والصدامات مع القوى الأمنيّة، إضافة إلى توفير خدمات شهود العيان، والتقارير المصورة لمن يطلبها من المؤسسات الإعلاميّة. “لقد كانت الثورة في شوارع دمشق تطبيقاً عملياً على دروس شارب”.
بالطبع يظهر شارب في الفيلم (صور في 2011) منتشياً بانتصارات ربيعه العربي، لكن مآلات ذلك الرّبيع انتهت إلى فشل في تحقيق التغيير المستهدف، وتحول النزاع في سوريا إلى مواجهة عسكريّة. بوبوفيتش فسّر لاحقاً أسباب فشل ربيعي مصر وسوريا تحديداً في تحقيق أهدافهما. هو يرى في أن المصريين ظنوا أنهم بإسقاط شخص مبارك قد أنجزوا المهمة وعادوا إلى بيوتهم، ليتركوا الأمور بين العسكريين والإخوان لتصارعهم الدائم على السلطة، بينما سرق الإسلاميون حراك سوريا اللاعنفيّ نحو العسكرة بمراهنتهم على دعم الولايات المتحدة، وهما أمران يلقي الآن محاضرات ويكتب مقالات للتعلم منهما للراغبين. الثورة يجب ألا تنتهي باستقالة الطاغيّة يقول في مقابلة صحفيّة معه، بل يجب أن يكون الفرصة السانحة للقفز على الحكم الحكم والسيطرة على مؤسسات الدولة من قبل الثوريين. كما يصرّ على الامتناع عن العسكرة نهائياً بوصفها ستكون لعبة محسومة للأنظمة، واختيار نوع معركة بديل: “بشار الأسد مثل الملاكم الشهير تايسون، لا يمكنك أن تهزمه في حلبة المصارعة، لكنك قد تهزمه في لعبة شطرنج”.
ماذا عن استخدام البذاءة في الحراك الثوري؟ إنه التكنيك رقم 30 في كتيب جين شارب “من الديكتاتوريّة إلى الديمقراطيّة.
نشر هذا المقال بصفحة الثقافة بجريدة الأخبار اللبنانيّة عدد الأربعاء 6 تشرين الثاني 2019
:::::
موقع: الثّقافة المضادّة
_________
ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.