قراءات في الراهن العربي من النظري إلى التطبيقي، حلقة 5، عادل سماره

  • بين القومية والشعبوية: إشكالية الخلط وحتمية الفرز

ربما يمكننا اعتبار مصطلح الشعبوية من المصطلحات التي قلما يغامر أحداً بتقديم تعريف محدد لها. فغالباً لا يحظى اي تعريف محدد لها حتى بإجماع أقلية! ولكن، لأن هناك استخدام شائع وموسع لهذا المصطلح وإسقاطه على المسألة القومية وخاصة في تعليقات محللي الإعلام، وجدنا من المفيد بعض التناول له.

تٌرد بداية ظهور الحركات الشعبوية ومن ثم صياغة المصطلح، إلى وجود الحركة الاشتراكية الزراعية النارودنية في روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

 ان حاجة الراسمالية لأسواق خارجية كي تحافظ على التراكم كان مرتكز رئيسي لنقد الشعبويين الروس  على الراسمالية  بما هي نبتة  غريبة عن التربة الروسية, وهي الحركات التي تابعها ماركس  حيث كتب في فترة متأخرة من حياته بأن الثورة المستندة إلى التشكيلة التشاركية الفلاحية الروسية قد تشكل نقطة انطلاق لتطور الشيوعية في أوروبا.

يرى مُعدُّو كتاب قاموس الفكر الماركسي:

The Dictionary of Marxist Thought, edited by Tome Bottomore 1983

“…أن الشعبوية مفهوم متنوع تم استخدامه لوصف الحركات الاجتماعية والسياسية المتنوعة وسياسات الدولة والأيديولوجيات وبأن محاولات استخلاص مفهوم عام عن الشعبوية هو إلى حد كبير غير كافٍ. لكن يمكننا الإشارة إلى سياقات رئيسية تم استخدام المصطلح فيها. تشير الشعبوية إلى الحركات الراديكالية في أمريكا الشمالية في المناطق الريفية الجنوبية والغربية التي نشأت خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، والتي تعبر بشكل أساسي عن مطالب المزارعين المستقلين المهيمن عليهم في الريف الأمريكي (الذين لم يكونوا فلاحين) “لإسماع شكوكهم وشكواهم من تركز القوة الاقتصادية، لا سيما في البنوك والمؤسسات المالية، وكبار المضاربين على الأراضي وشركات السكك الحديدية.

كان هؤلاء مهتمين أيضًا بقضايا السياسة المالية، وخاصة الإصلاح النقدي والمطالبة بحرية صك العملة الفضية كترياق ضد هبوط الأسعار الزراعية…. ثم هناك الشعبوية الروسية inarodnichestva) التي تعد أهم مثال على الشعبوية في السياق الحالي، لأنها شاركت عن كثب في نقاش مع ماركس والماركسية والحركات الماركسية. استلهمت الحركات الشعبوية الروسية إلهامها من فكر هيرزن وكيميشفسكي واستراتيجياتهما من أفكار لافروف وباكونين وتكاتشيف.

لقد شهدوا أول ظهور كامل لهم في حركة “الذهاب إلى الشعب” والحركة الثانية Zemlya i Volya (الأرض والحرية) في سبعينيات القرن التاسع عشر، ووفقًا لفنتوري فقد وصلوا إلى ذروتهم في الإرهاب (النخبوي) لنارودنايا فوليا (تحرك إرادة الشعوب) في ثمانينيات القرن التاسع عشر. لكن بليخانوف ومن اقتفوا اثره مثل واليكي اعتبروا أن … في الشعبوية الروسية  تيار واسع من الأفكار لا تزال موضع اهتمام – تيار كان يعاني من تفارقات داخله هو نفسه  وقد أثر على الأفراد والحركات الثورية والشعبية  غير الثوريين. كانت مفاهيمها المركزية هي نظرية التطور غير الرأسمالي، والفكرة القائلة بأن روسيا يمكنها وينبغي عليها تجاوز المرحلة الرأسمالية وبناء مجتمع اشتراكي قائم على المساواة والديمقراطية على أساس قوة المجتمع الفلاحي والإنتاج السلعي الصغير. كانت معادية لتنظيم الإنتاج على نطاق واسع… تشكل الفكر الشعبوي الروسي تحت تأثير قوي لتحليل ماركس للتطور الرأسمالي. تمت ترجمة رأس المال الأول إلى الروسية من قبل الشعبوي، نيكولاي دانيلسون، ودرس المثقفون الشعبويون أعمال ماركس والماركسيين عن كثب. ولكن على عكس ماركس نفسه، لم يقرأ الشعبويون في أعماله سوى نقدًا مدمرًا للتطور الرأسمالي وآثاره المنفردة، واعتبروها عملية اجتماعية رجعية وليست تقدمية. يمكن لروسيا أن تتجنب المرور بهذه المرحلة بسبب وجود جماعة الفلاحين (انظر المجتمع الروسي) كأساس محتمل لبناء الاشتراكية.

…لم يرفض ماركس نفسه هذه الفكرة تمامًا، كما يتضح من رسالته إلى فيرا زاسوليتش ​​حول هذا الموضوع (8 مارس 1881) ومقدمة للطبعة الروسية من البيان الشيوعي حيث اعترف بإمكانية أن تكون البلدية بمثابة نقطة الانطلاق لتطور شيوعي شريطة أن يكون  ب”إشارة لثورة بروليتارية في الغرب”.

 حدد لينين أيديولوجية الشعبوية، تاريخيًا واجتماعيًا، على أنها احتجاج على الرأسمالية من وجهة نظر صغار المنتجين، وخاصة الفلاحين الذين تقوض وضعهم بسبب التطور الرأسمالي ولكنهم، مع ذلك، أرادوا حل النظام الاجتماعي الإقطاعي. بينما وصف لينين الأيديولوجية الشعبوية بأنها رومانسية اقتصادية، وهي مدينة فاضلة برجوازية صغيرة متخلفة.

لقد عارض لينين الإدانة أحادية الجانب للشعبوية، كما يظهر في جداله ضد الماركسي القانوني ستروف حول هذا الموضوع. كما ميز بين الأيديولوجية الأكثر راديكالية والمعادية للعيش والديمقراطية للحركات الشعبوية السابقة، وبين الميول اليمينية للمثقفين الشعبويين اللاحقين مثل ميخائيلوفسكي الذين مثلوا في المقام الأول رد فعل ضد التطور الرأسمالي. ولكن حتى فيما يتعلق بالشعبوية المعاصرة، فقد كتب: “ من الغريب أنه سيكون من الخطأ تمامًا رفض برنامج النارودني بأكمله دون تمييز في مجمله.

يجب أن نميز بوضوح بين جوانبها الرجعية والتقدمية (“المحتوى الاقتصادي للنارودنية”). وهناك سياق آخر انتشر فيه مصطلح الشعبوية هو سياق أيديولوجيات الدولة في بلدان أمريكا اللاتينية، حيث إنها استراتيجية سياسية تستخدمها البرجوازية الأصلية الضعيفة لتشكيل تحالف مع الطبقات التابعة ضد الأوليغارشية الزراعية، بشروط لا تعطي وزناً مستقلاً للطبقات التابعة التي يتم جلبها من أجل تعزيز التصنيع. هذا نقيض للشعبوية كأيديولوجية للحركات القائمة على الريف في صراع مع القوى المهيمنة في الدولة.

إن الحالات النموذجية للشعبوية في أمريكا اللاتينية، بهذا المعنى، هي تلك الخاصة بالبرازيل تحت حكم فارغاس وورثته والبيرونية في الأرجنتين. لكن، يجب أن نضيف، أن المصطلح قد استخدم بشكل فضفاض بدرجة كافية لجعله قابلاً للتطبيق على مجموعة متنوعة من تكوينات سلطة الدولة وقواعدها بين الناس في كل بلد تقريبًا في أمريكا اللاتينية وفي أي مكان آخر.

من السمات الأساسية للشعبوية بهذا المعنى خطابها الذي يهدف إلى حشد الدعم من الفئات المحرومة وطابعها المتلاعب للسيطرة على المجموعات “الهامشية”. هناك تأكيد قوي على دور الدولة. لكنها، مرة أخرى، تدور أساسًا حول أسلوب سياسي قائم على الجاذبية الشخصية للقائد والولاء الشخصي له مدعومًا بنظام محسوب مفصل. الأيديولوجية الشعبوية أخلاقية وعاطفية ومناهضة للتعمق الفكري والنظري وغير محددة في برنامجها. إنها تصور المجتمع على أنه منقسم بين الجماهير الضعيفة وأرباب أقوياء الذين يقفون ضدهم. لكن فكرة الصراع الطبقي ليست جزءًا من هذا الخطاب الشعبوي. بل إنه يمجد دور القائد كحامي للجماهير. يمكن وصف مثل هذه الإستراتيجية السياسية بشكل أفضل بالشخصية بدلاً من الشعبوية، وفي هذا الشكل لها بعض التقاطع مع الفاشية. أخيرًا، قد نفكر في حالة تشير فيها الشعبوية إلى أيديولوجية الدولة، ولكنها حالة تتبنى رؤية للمجتمع والتنمية الوطنية تشبه رؤية الشعبويين الروس.

والمثال الأكثر بروزًا وثباتًا (حتى الآن) لهذا النهج في التنمية الوطنية هو مثال تنزانيا، الذي يهدف إلى استراتيجية تنمية صغيرة النطاق قائمة على الريف، وتجنب الصناعة واسعة النطاق والانخراط في اخطاب على الأقل مغاير – لمسار التنمية الرأسمالية”

يمكن للمرء الاطلاع على ويكيبيديا لتفاصيل أكثر ولكن بشكل غير دقيق معلوماتيا، ولا علمي ولا تقدمي طبعاً.

من المهم طبعاً الانتباه إلى قدرة الإمبريالية على استغلال الحركات الشعبوية في المحيط وتضخيم الشرائح الكمبرادورية فيها كي تنشق عن الدولة الأم وبهذا تتحول إلى أداة لصالح الإمبريالية كما هو في أوروبا الشرقية و كانتونات العراق، أو محاولات إضعاف حكومة موراليس في بوليفيا من خلال الدعم السري لمزاعم “الحكم الذاتي” للأوليغارشية البيضاء (شبه تكرار لأزمة الكونغو الأولى). إذا كان هدف الإمبريالية في الماضي بشكل عام هو إنكار الدولة المنفصلة عن الدول المضطهدة، فإن الهدف اليوم هو تشجيعها بشكل انتهازي. وهذه النماذج هي التي أسميتها “الموجه القومية الثالثة” بما هي تصنيع إمبريالي.

“…الشعبوية ليست ظاهرة “ ريفية ” ولا “ برجوازية صغيرة ”، ولا نوعًا محددًا من “ الحركة ” أو “ الحكومة ”، ولا هي في الأساس خطابًا “ مناهضًا للنخبوية ”، ولا تتوافق مع “ البونابرتية ”، وهي من أعلى إلى أسفل، شكل شخصي من السياسة. إن الفكرة الليبرالية عن “الشعب” كـ “ناخب” فردي هي في حد ذاتها أداة أيديولوجية شعبوية ادعت تاريخياً أنها معادية للنخبوية والتي، علاوة على ذلك، أصبحت مؤسسية في أنظمة برلمانية متعددة الأحزاب. وبالتالي، قد نتفق مع Laclau (1977 ؛ انظر أيضًا 2005)، على أن الشعبوية هي مبدأ التعبير في المجتمعات الطبقية الحديثة، التي تجمع طبقات مختلفة، وبالتالي، تفتقر إلى محتوى طبقي محدد أو “نقي”. يقدم Boratav (الفصل الخامس، هذا المجلد بوتومور) حالة مماثلة فيما يتعلق بالشعبوية في سنوات ما بعد الحرب، والتي كانت، في الواقع، طريقة لتنظيم ديناميكيات التوزيع. “

يمكن رؤية مثال على هذا الفهم الشعبوي للإرادة العامة في خطاب تنصيب شافيز عام 2007، عندما ذكر أن “جميع الأفراد عرضة للخطأ والإغواء، ولكن ليس الأشخاص الذين يمتلكون درجة عالية من الوعي مصلحته الخاصة ومقياس استقلاليته. وبسبب أن حكمه نقي، وإرادته قوية، ولا يمكن لأحد أن يفسدها أو حتى يهددها “. لعل مقارنة نظام فنزويلا في فترة شافيز مع النظام الكوبي مناسِبة لفهم الفارق بين الشعبوية والنظام الاشتراكي وعلى الأقل من باب التنمية لا سيما وأن فنزويلا بلد غني مقارنة مع كوبا لكن الخلاف او الاختلال كان في إدارة الموارد وعلمية توزيعها. لذا صمدت كوبا أمام حصار الأطول والأقسى في العالم بينما كادت تنهار فنزويلا من حصار أقصر زمناً واقل شدة.

العلاقة التناقضية بين القومية في بلدان المحيط وبين الإمبريالية دفعت الأخيرة، وخاصة مع عودة ظهور القومية لاتهام القومية بشدة، من قبل اليسار واليمين على حد سواء.

 أصبح مصطلح الشعبوية شائعًا بشكل متزايد بين علماء الاجتماع في الدول الغربية، وفي وقت لاحق في القرن العشرين تم تطبيقه على مختلف الأحزاب السياسية النشطة حتى في الديمقراطيات الليبرالية. وفي القرن الحادي والعشرين، أصبح المصطلح شائعًا بشكل متزايد في الخطاب السياسي، لا سيما في الأمريكتين وأوروبا، لوصف مجموعة من الجماعات اليسارية واليمينية والوسطية التي تحدت الأحزاب القائمة.

كما اوضحنا في غير حلقة من هذه السلسلة فإن المسألة القومية هي حالة نهوض ووعي ونضال دفاعي عن الوجود والحقوق وطموح التطور، وعي أمة لوجودها وضرورة تطورها. أما في بلدان المحيط فهي حالة نضالية كثيراً ما تجاوز عنها البعض الأمر الذي كان مؤداه تشويه هذا الحراك النضالي المُحق ضد الراسمالية الإمبريالية الغربية.

صحيح أنه في القومية هناك زعماء لهم شعبية كبيرة، ولكن ليس بمستوى تقديس الزعيم في الشعبوية أو طبعاُ الفاشية وذلك لأن المسألة القومية وخاصة في المحيط هي حالة نضال جماعي ولذا لا يمكن حصره في كفائة أو قيادة فرد مهما كانت شخصيته كارزمية.

كثيراً ما وُسمت القومية، بتشويه مقصود بالشعبوية وطبعاً بالشوفينية بهدف غمط حقوق الأمم المضطَهَدة في التحرير والتحرر والاستقلال والتنمية، وفي التحليل الأخير التحكم بالفائض لديها كتراكم.

صحيح أنه في كل أمة هناك عزة معينة وفخار ايضاً وقد يصل لدى البعض وخاصة في مراحل معينة وأزمات معينة حد تخيل التفوق والتميز وحتى العنصرية، ولكن هذه استثناءات إذا ما قورنت بالهدف السياسي للقومية وهو حق الأمم.

ومع ذلك، فإن سَبْق الغرب الأوروبي بتحقيق موجة القومية الأولى في العصر الحديث ترتبت عليه سلبيات عدة:

يجب أن تتم معالجة العلاقة بين الأمرين اي القومية والشعبوية على ضوء الحقب التاريخية التي يمر بها كل بلد.ولأن الغرب لا يزال متفوق ومتقدم في عديد المجالات فقد تمكن من فرض كيفية التناول والتعاطي مع مختلف الأمور في العالم الأمر الذي يحتاج مقاومة حقيقية. إن عودة الشعبوية إلى الغرب أمر مفهوم وخاصة على ضوء الأزمة الاقتصادية للراسمالية الاحتكارية والتي يُخلق على ضوئها دور لزعيم كاريزمي فردي يجذب الجمهور ضد النخبة الضئيلة الاستغلالية.  وهذا الوضع مقلق وتحشيدي لدرجة قد تعادل غضب شعبي في المحيط ضد وجود الاستعمار.

تقديرنا بأن ما يشغل بلدان المحيط هو النضال القومي وليس الشعبوي باعتبار ظهور الشعبوية غالبا في دول مستقلة أو ما بعد الاستقلال.

فإذا كان لنا أن نعتبر المسألة القومية هي حركة بناء ونهوض عموما وحركة تحرير وتحرر وتنمية في المحيط فإن الشعبوية غالباً هي حركة وظاهرة في المجتمعات بعد استقرارها، وتحديداً حين لا تكون تحت استعمار سواء عسكري أو استيطاني، ومن هنا يكون الفصل بين الظاهرتين مبرراً ومنطقياً.

ومن ناحية ثانية، فإن الشعبوية، وإن بدأت تاريخياً في بلدان الغرب، إلا أن هذا لم يمنع ظهورها في المحيط بعد الاستقلال، أو لنقل ظهورها تبادليا على الصعيد العالمي فقد تزايدت في أوروبا وأمريكا في العقدين الأخيرين مثلاً إيطاليا برلسكوني، والمجر بزعامة اوربان وأمريكا ترامب، وكذلك في الأرجنتين والبرازيل في امريكا اللاتينية.

لعل أهم الفوارق بين القومية والشعبوية أن الشعبوبة حالة أكثر عاطفية لذا استمراريتها محدودة، بينما القومية هي انتماء وتعبير عن وجود موضوعي لأمة تاريخه واقعها وحضورها. القومية تعبير عن أمة ودولة او إقامة دولة ومن هنا ماديتها بينما الشعبوية حالة إيديولوجية عابرة.

ولأنها رومانسية تتلاشى تدريجيا لتنتهي إلى التوزع بين:

  • راديكالية طبقية
  • امتصاص السلطة لجزء
  • اعتقال جزء
  • تلاشي الأكثرية

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….https://kanaanonline.org/2022/10/27/%d9%85%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%b8%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d9%83%d9%86%d8%b9%d8%a7%d9%86-3/