“ماريغيلا”: حكاية نهاية فيلسوف حرب المدن الذي أشعل العالم، سعيد محمّد

بعد نجاحه الأسطوريّ في تقديم شخصيّة إمبراطور المخدرات الكولومبي بابلو اسكوبار، اختار الممثل البرازيلي فاغنر مورا اقتحام عالم الإخراج بفيلم مثير للجدل عن مواطنه كارلوس ماريغيلا القائد الماركسي اللينيني الذي قاد حرب مدن مسلحة ضد الحكم الفاشستي في البرازيل قبل يستشهد في 1969. وعلى الرّغم من أن الفيلم يتجنّب إظهار الجانب الشيوعيّ في تجربة ماريغيلا لمصلحة تصوير نضاله في نطاق قوميّة برازيلية أقرب للديمقراطيّة البرجوازية إلا أنّه تعرّض لحصار خانق، فتأخر عرضه لعامين في دور السينما البرازيلية، ونظمت له عروض محدودة في الولايات المتحدة بينما بقي إلى اليوم خارج متناول المشاهد في أوروبا والشرق الأوسط.

سعيد محمّد – لندن

لم يثر فيلم سينمائي جدلاً سياسياً في تاريخ البرازيل كما فعل “ماريغيلا”، باكورة إخراج الممثل البرازيلي فاغنر مورا والذي يسرد جانباً من حياة كارلوس ماريغيلا، الزعيم الماركسي اللينيني (1911- 1969) وقائد الثورة المسلحة ضد نظام الانقلاب العسكري المدعوم من الولايات المتحدة (استمر في السلطة لواحد وعشرين عاماً ما بين 1964 – 1985). إذ ترافق إطلاقه على هامش مهرجان برلين السينمائي 2019 – في الذكرى الخمسين لاغتيال ماريغيلا – مع تولي الفاشي اليميني المتطرّف جايير بولسونارو منصب رئاسة الجمهوريّة البرازيلية، ليصبح الفيلم من فوره هدف حملة شرسة من قبل اليمين المتطرف تتهمه بتمجيد الإرهاب والشيوعيّة، وتحدث ضده علناً بولسونارو ومسؤولون حكوميون دعوا إلى ضرورة تحرير ثقافة البلاد مما أسموه “بالتفكير الديكتاتوري اليساري المعادي للديمقراطيّة”، بينما ماطلت وكالة الأفلام البرازيلية طوال عامين كاملين في إجراءات التصريح له للعرض لدى دور السينما العامّة، ليتأخر تقديمه إلى جمهوره حتى الرابع من نوفمبر 2021 (بعد 52 عاماً تماماً على استشهاد ماريغيلا). لكن كل ذلك لم يمنع الفيلم من أن يقفز من فوره إلى موقع الأكثر مبيعاً على شباك التذاكر بالبرازيل متقدماً على كافة الانتاجات الأمريكيّة – وهذا انجاز نادر لفيلم برازيلي -، لا بل وشهدت بعض المناطق الفقيرة بساو باولو وريو دي جانيرو ومدن أخرى احتجاجات لعدم توفر عروض كافية لتغطية الطلب، ما حدا بوكالة الأفلام بالنهاية إلى السماح بتوفير الشريط لدى دور سينما اضافيّة. 

بالطبع فإن شعبيّة هذا الفيلم الجارفة لم تكن مفاجئة: فكارلوس ماريغيلا شخصيّة اكتسبت مكانة أسطوريّة في تاريخ البرازيل ويسار أمريكا اللاتينية معاً، ومخرج الفيلم مورا أصبح نجماً عالمياً بعدما تألّق في لعب دور تاجر المخدرات الكولومبي الشهير بابلو إسكوبار في مسلسل ناركوس (منصة نيتفليكس)، كما أنّ أبطال الفيلم الذين تولوا لعب أدوار الشخصيات الأساسيّة فيه فنانون وممثلون مشهورون للغاية في البرازيل وعلى رأسهم سيو خورخي أحد أشهر المغنيين البرازيليين المعاصرين (مثّل شخصية ماريغيلا). لكن الفيلم اكتسب أيضاً دوراً استثنائيّاً كمساحة للجدل في إطار السياق السياسي المعاصر في البرازيل حيث الاستقطاب السافر بين اليمين (المتطرّف)، ويسار (الوسط)، فيما لا يزال الفيلم غير متوفر للعموم خارج البرازيل والولايات المتحدة – حيث عرض في قاعات السينما على نطاق ضيّق فيما يتوفر الآن هناك عبر خدمة منصة أمازون برايم -، ولا يمكن مشاهدته بالطرق المعتادة في كل أوروبا.

هذا الحصار غير المعلن، والذي حرم الفيلم من تحقيق عوائد مالية ضخمة يستحقها دون شك، ليس إلا استمراراً لعداء تاريخيّ لماريغيلا وفكر ماريغيلا وما يمثله ماريغيلا في تجربة النضال ضد الهيمنة الأمريكيّة واستبداد الحكام الفاسدين خدم المخابرات الأمريكيّة، وهو عداء اشتركت فيه الأنظمة الغربيّة واليمين واليسار على حد سواء، لدرجة أن السّلطات الفرنسيّة مثلاً منعت رسمياً تداول الترجمة الفرنسيّة لكتاب ماريغيلا “من أجل تحرر البرازيل” (ونشر ذلك المنع في الجريدة الرسميّة)، وكان وجود نسخة من الدليل الموجز الذي وضعه عن حرب المدن لدى أي من الشبان كافياً لإضافته على قوائم التتبع الأمني.

الفيلم فنّياً جيّد على العموم، لكنّه مع ذلك يقصر عن تقديم صورة كافية تستحقها حياة ماريغيلا ومناخات نضاله العنيد، ناهيك عن فشله في طرح أيّة روابط لفكره الثوري بالتحديات التي تواجهها الجماهير المعاصرة في وقتنا الراهن، لا سيّما وإن مورا اختار التركيز على العامين الأخيرين من حياة ماريغيلا فقط، ولذلك فإن متابعة الفيلم دون قراءة مسبقة عن سيرة القائد الشهيد ومرحلة الحكم الفاشيستي المتأمرك في البرازيل ستظهر جوانب ضعف العمل الكثيرة، والتي مع ذلك يتوارى معظمها لدى إلمام المشاهد ببعض الخلفيات التاريخيّة للأحداث التي يتابعها في الشريط.

 فمن هو هذا ال”ماريغيلا” الذي يستمر بإثارة كل هذه المتاعب للجميع؟

يعتمد الفيلم على كتاب “ماريغيلا: مقاتل حرب العصابات الذي أشعل العالم – 2012” الذي يروي سيرة القائد الشهيد بقلم الصحافي ماريو ماغالهايس (بالبرتغاليّة ولم يترجم بعد إلى الإنجليزية أو الفرنسيّة!) مستنداً إلى كميّة ضخمة من الوثائق و276 مقابلة أجراها المؤلف مع العديد ممن عاصروا نضال ماريغيلا وعرفوه شخصياً – بمن فيهم أحد المتعاونين معه والذي كان تسبب بوقوعه في كمين للشرطة السريّة ومقتله غدراً بعدما خانه (تحت التهديد) -.

ينحدر ماريغيلا من أب إيطاليّ كاثوليكي عامل وأم ذات أصول سودانيّة مسلمة (قبائل الهوسا) من الرقيق الذين ثاروا على مالكيهم في برازيل القرن التاسع عشر. وقد أكسبته هذه الأصول وسامة كاريزميّة وطولاً فارعاً (استدعى اعتراض كثيرين على لعب ممثل من أصل أفريقيّ أسود دور ماريغيلا في الفيلم بحكم أنّه كان مختلط العرق وأقرب لسمرة العرب منه إلى سواد الأفارقة)، وكرّست نهائياً تموضعه الطبقي.

تفتح وعيه السياسي مبكراً، فالتحق بالحزب الشيوعي البرازيلي بينما كان يدرس الهندسة بالجامعة، وانتخب على قوائمه عضواً في الكونغرس البرازيلي (البرلمان) خلال فترة عامين (1946 – 1947) كان خلالها الحزب علنياً، كما عرف كاتباً وشاعراً ومناضلاً صلباً شارك في النّضال ضد الأنظمة الحاكمة المتعاقبة فسجن وعذّب عدة مرات، وكان أحد قادة ما يعرف بإضراب ال 300000 التاريخي في ساو باولو عام 1953 الذي نجح في انتزاع زيادة 32 بالمائة لأجور عمال خمس صناعات رئيسيّة.

تغيّر مصير ماريغيلا في العام 1964، حينما كثف رئيس البرازيل المنتخب جواو غولارت جهوده لتنفيذ ما يسمى ب “الإصلاحات الأساسية”، بما في ذلك إعادة النظر في ملكيّة الأراضي، وفرض القيود على المضاربين بالممتلكات الحضرية وعلى أرباح الشركات الأمريكية ومتعددة الجنسيات، وتوسيع الاستثمار في التعليم والصحة، وإضفاء الشرعية على الحزب الشيوعي البرازيلي للمشاركة في الحياة السياسيّة. وعلى الرغم من أن إصلاحات غولارت ظلت ذات طابع برجوازي قومي بالكامل إلا أنها اعتبرت وبشكل متزايد غير محتملة من قبل الإمبريالية الأمريكية والطبقة الحاكمة البرازيلية. لكن القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت رفضه الانخراط في سياسات واشنطن المناهضة للشيوعية وشكوك السفارة الأمريكيّة بقدرته على كبح جماح الطبقة العاملة إن هي اعتنقت الأفكار الماركسيّة الثوريّة التي كانت ثورة كوبا نموذجها الأقرب. فتآمرت المخابرات الأمريكيّة مع ضباط بالجيش البرازيلي (في أبريل1964) للإطاحة بحكومته، وشرع الانقلابيون من فورهم بتفكيك الحياة السياسيّة في البلاد، فسجنوا وقتلوا ونفوا كل الشخصيات الحزبية، والأكاديمية، والمثقفة التي عارضتهم – بمن فيهم ماريغيلا الذي أصيب بالرصاص وسجن لسنة كاملة قبل أن تقرر محكمة إطلاق سراحه -، وتخلصوا من قادة الاحتجاجات الطلابيّة بالإخفاء، وحلّوا الكونغرس – الموالي لهم – (في 1968)، وضيقوا على الصحافة غير الموالية، ومنعوا نشر المعلومات حتى تعذّر على البرازيليين في مدينة ما أن يلموا بما قد جرى في مدينة أخرى، وبدا جليّاً أنّ الطغمة العسكريّة، وبمساعدات سخيّة تسليحيّة وتقنيّة وماليّة من حكومة الولايات المتحدة، عازمة على البقاء في السلطة إلى الأبد كجمهوريّة فاشستيّة تستلهم نهج إيطاليا أيّام الدوتشي موسوليني.

في مواجهة كل ذلك، بدت المعارضة بكل أطيافها الأيديولوجية – بما فيها الحزب الشيوعيّ البرازيلي – عاجزة عن التصدي للانقلابيين، ونظّر بعضها لضرورة الانتظار لحين نضوج ظروف موضوعية مواتية أو تأملوا بقيام ضباط تقدميين وطنيين من داخل الجيش بانقلاب مضاد، فيما انعزل كثيرون بحياتهم الشخصيّة، واكتفوا بزراعة الخضروات في حدائق منازلهم الخلفيّة. في قلب لحظة اليأس تلك، قرر كارلوس ماريغيلا أن الوقت قد حان للوقوف في وجه الانقلاب، ومواجهته بالثورة المسلحة، وشرع حثيثاً في بناء تنظيم ماركسيّ لينيني الفلسفة لخوض الحرب. هذا التوجه اصطدم حينها بالقيادة التقليديّة للحزب الشيوعي البرازيلي التي حاولت في 1967 منع ماريغيلا من حضور مؤتمر هافانا للتضامن مع أمريكا اللاتينية، لكنه استقال من الحزب (بعد عضوية استمرت لأكثر من ثلاثين عاماً)، ومثّل بلاده في المناقشات التي توصلت إلى ضرورة إطلاق ثورة مسلحة في البرازيل. وقد أسس فور عودته – مع رفيقه ماريو ألفيس -حزباً ثوريّاً يستلهم التجربة الكوبيّة (الحزب الشيوعي الثوري البرازيلي)، ما لبث أن تحوّل بعد عمليّات تأسيسية ناجحة ضد مصالح النظام البرازيليّ في ساو باولو (عاصمة الرأسماليّة البرازيلية) إلى ما سمي بالحركة من أجل التحرير الوطني التي نفذت تجربة رائدة في حرب المدن والمناطق الحضريّة، وألهمت عدة مجموعات ثورية أخرى للانتقال إلى العمل العسكري. طوّر ماريغيلا فلسفة هذه الحرب ووضع قواعدها الأساسيّة لتكون بمثابة استكمال لاستراتيجية حرب العصابات في الأرياف كما وضعها تشي غيفارا وريجيس ديبريه وتطوير لجوانب ضعفها – بعد أن انتهت في بوليفيا إلى كارثة تامة فقتل غيفارا واعتقل ديبريه وأخمدت الثورة -. لم يكن ماريغيلا متوهماً بأن حربه داخل المدن كافية لتحقيق الانتصار، لكنّه اعتبرها ضرورة لإنهاك قوات النظام، وإتلاف أعصابه، ودعاية سيكولوجيّة هامّة تلهم الجماهير وتكمل جهد حرب العصابات في الأرياف.

شنّ مقاتلو الحزب الثوريّ طوال العام 1969عمليات جريئة خطط لأغلبها وشارك بها ماريغيلا استهدفت الاستيلاء على الأسلحة، وسطوا على البنوك لتوفير التمويل للعمل العسكريّ، وأطلقوا النار على المصالح الأمريكيّة – فاغتيل الملحق العسكري الأمريكي تشارلز تشاندلر ونسفت مكاتب لعدة شركات -، ولاحقوا رجال الشرطة المتورطين بتعذيب المعارضين، كما ونشروا بيانات كتبها ماريغيلا بصفاء نادر ولغة شاعريّة لحث الجماهير البرازيلية على النهوض والثورة، فصنفته الحكومة ك”عدو البرازيل رقم 1″. لكن العمل الذي جلب انتباه العالم برمته فكان اختطاف تشارلز بورك إلبريك السفير الأمريكيّ إلى البرازيل، والذي لأجْل إطلاق سراحه حيّاً اشترط الحزب إذاعة بيان ثوريّ له على الإذاعة والتلفزيون الرسميين، كما إطلاق سراح 15 من قادة العمل الثوري الذين كانوا يتعرضون لتعذيب بشع في سجون النظام (من فصائل مختلفة) وإرسالهم بطائرة خاصة إلى المكسيك أو الجزائر أو تشيلي (أرسلوا في النهاية إلى المكسيك). أصابت هذه العمليّات العسكر الفاشيستيّ بالجنون – وإن لم تكن كافية لإقناع قيادات الحزب الشيوعيّ بخوض المعركة -، كما تعرضوا لضغوط هائلة من قبل الولايات المتحدة لقمع العمل الثوريّ في ساو باولو قبل انتشاره إلى مدن أخرى، فنظّمت عمليّات سريّة واسعة النطاق لتعّقب الثائرين وتصفيتهم، ونجحت – عبر تهديد اثنين من الرهبان الدومينيكان ممن كانوا يتعاونون مع الثوار في تقديم الخدمات اللوجستيّة – بإيقاع ماريغيلا نفسه في كمين غادر بينما كان وحيداً وبلا سلاح، فأطلقت عليه وابلاً من الرصاص، ليستشهد على الفور – وقد دفن لاحقاً في مسقط رأسه غي منطقة باهيا، وصمم شاهد قبره من قبل المهندس المعماري الشهير أوسكار نيماير ضمّنه عبارة نقلت عن الشهيد “لم يكن لدي ثمة من وقت للخوف” -.

غياب ماريغيلا أضعف الحراك الثوري ضد الفاشيّة الحاكمة، فقضى رفيقه المؤسس تالياً تحت التعذيب، وما لبث أن استشهد الرجل الثاني في القيادة بعد أسره رغم أن رفاقه اختطفوا القنصل الياباني في ساو باولو (مارس 1970) في محاولة متأخرة للمساومة على إطلاق سراحه، وانسحب الباقون إلى مناطق ريفيّة، قبل أن يتم حل الحركة رسمياً في العام 1973. لكن أفكار ماريغيلا أصبحت مصدر إلهام ثوريّ لجيل جديد في قارة بدا أنّها راضية بالهيمنة الأمريكيّة كأنّها حتميّة تاريخيّة كما هي قدر جغرافيّ، فاستعاد للماركسيّة اللينينية وجهها الثوري الحقيقي بعد طول مهادنة ورمادية الأحزاب الشيوعية الكلاسيكية – بسبب توجيهات موسكو وبكين اللتين دفعتا نحو التحالف مع القوى البرجوازية الوطنية وأيضاً تفشي الهرطقات التروتسكيّة بدعم أمريكيّ -، ونبه إلى التشابك الوثيق بين الشعور الوطني القومي والمبادئ الاشتراكيّة للتأسيس لعمل ثوريّ ناجح على غرار تجارب فيتنام وكوبا، وقدّم فوق ذلك – ورفاقه – نموذجاً نادراً للنزاهة، والالتزام الثوري البروليتاري، والعمل والتضحية بلا حسابات مادية.

لكن في بلاده فقد نشأ بعد اندثار الحزب الشيوعي الثوري البرازيلي جيل جديد من قادة النقابات اليساريين البراغماتيين ممن ظهروا على مسرح السياسة البرازيلي في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين وجددوا منهجيّة الحزب الشيوعيّ في تبعية اليسار للبرجوازية، والولاء للديمقراطية الليبراليّة الزائفة. وسيكون ممثل هذا الجيل الأهم الرئيس البرازيلي الحالي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، بيروقراطي نقابة عمال المعادن الذي أنشأ ما يعرف بحزب العمال البرازيلي في عام 1980 على أساس رفض صريح للماركسية اللينينية والثورة الاشتراكية، ما سمح بانتخابه للرئاسة في عام 2002، وليعود مجدداً للمنصب مع نهاية فترة حكم بولسونارو في يناير العام الحالي، وبتسليم أمريكي ظاهر.

بالعودة للفيلم، فإنّه يعد انجازاً شخصيّاً مثيراً للإعجاب لمورا (والكاتب المشترك معه فيليبي براغا) بعدما تحديا كل المعوقات الموضوعية – بما في ذلك التمويل – لتقديم شخصيّة جدليّة مثل ماريغيلا في موقعها الثوريّ النبيل، بينما تستمر الأنظمة الغربيّة واليمين البرازيلي في توصيفه فيلسوفاً مؤسساً للإرهاب في صيغته الحضريّة، ويدرسه الأمريكيّون في جامعاتهم على هذا الأساس، فيما يعتبره شيوعيو المؤتمرات والبيانات والنضال البرلماني مغامراً متهوراً تسبب بخسائر مأساوية لليسار وعزله عن بيئته الحاضنة.  

الحكاية في الفيلم – لمن كانت لديه خلفية عن ماريغيلا ومرحلته التاريخيّة – تبدو جذابة وفي بعض المقاطع ملحميّة، مع أداء مؤثر موجع أحياناً، ومرح في أحيان أخرى، ولا يعيبها أن نهايتها محسومة ومعروفة مسبقاً، ولكنّها بشكل عام غير كافية لإعطاء الرّجل الكبير حقّه، لا لتاريخه العريق في النضال (كان في أواخر الخمسينات من عمره عندما قاد الثورة ضد الفاشيست البرازيليين)، ولا لصورته كمفكر وكاتب وشاعر ومثقف رفض الخنوع واختار العمل الثوري على الأرض، ولا لمرجعيته الماركسيّة اللينينية التي منحته العمق النظري لممارسته الثوريّة في وقت العقم الذي أصاب تيارات اليسار بعد الحرب العالمية الثانية. ويبدو أن مورا، رغم تعاطفه الظاهر مع ماريغيلا، يفتقد لثقافة سياسيّة عميقة تمكنه من فهم تجربة الرّجل بكامل عمقها، أو أنّه اختار عند قصد إخفاء الجانب الماركسي لنضاله لمصلحة قوميّة برازيلية ساذجة ودفاع سخيف عن (الديمقراطية الليبرالية) كي يمكن تمرير العمل في الأطر الرأسماليّة للإنتاج السينمائي – ابنة ماريغيلا الحقيقية التي لعبت دور والدته في الفيلم تظهر وهي تصرخ عند الإعلان عن مقتله بأنّه كان “برازيلياً حقيقيّاً”، وكذلك يفعل رفاقه لدى تعذيبهم بوصف أنفسهم ب”البرازيليين الشرفاء”، وكذلك هم يغنون معاً بحماس ظاهر النشيد الوطني البرازيلي لا نشيد الأممية مثلاً-.

خيارات مورا هذه دفعت حكاية الفيلم لتكون أقرب لمواجهة سطحية بين الخير المطلق – المقاتلون الوطنيون “الشجعان”، والشر المطلق – البيروقراطيون والجلادون “الجبناء” وزملائهم الأمريكيين. وحتى عندما حاول إضافة درجة من التعقيد عبر إظهار قائد الشرطة السريّة السادي لوسيو (يلعب دوره برونو غاغلياسو) وطنياً لديه رؤية مختلفة بشأن الأمن وإدارة البلاد وليس بالضرورة عميلاً للمخابرات الأمريكية، فإن تلك المحاولة فشلت لأنّ مورا نفسه لا يصدّقها فلم تُستثمر لآخرها ولم يُبن عليها، وبقيت في إطار التلميح، فضلاً عن تعارضها مع الحقائق التاريخية.

.الممثل البرازيلي خورخي قدّم أداء مميزاً للشخصيّة الرئيسيّة بانفعالاتها الإنسانية المحضة خلال المواقف المختلفة التي تضمنها النصّ، وأبدع الممثلون والممثلات الذين قاموا بأدوار رفاقه المقاتلين في تقديم قراءات عميقة ثلاثية الأبعاد لشخصيات حقيقيّة ذات بطولة نادرة.

“ماريغيلا” (الفيلم)، بما أثاره من جدل، وبقيمته الفنيّة التقنيّة الرفيعة، يحسب دون شكّ لرصيد مورا الذي أراد اقتحام عالم الإخراج بعد نجوميته في دنيا التمثيل، لكن “ماريغيلا” الشخصيّة الشامخة فلم ترو الحكاية الحقيقيّة عنها بعد، وعلى الأغلب أنها حكاية أكبر وأجمل (وأخطر) من أن تختصر في شريط سينمائيّ ينتج تحت منظومة صناعة الثقافة الرأسماليّة المهيمنة على العالم.

التريلر الرسمي للفيلم

موقع “الثقافة المضادة”

http://counterculture1968.com

::::

“الأخبار”

_________

ملاحظة من “كنعان”: “كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم … تابع القراءة ….