ما وراء النقد….

مازن كم الماز

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1753)

يقول عبد الله القصيمي في مؤلفه الأخير “العرب ظاهرة صوتية”: “أما النقد عندنا أي لو وجد فلا يعني إرادة التخطي أو القدرة عليه أي على التخطي أو دفع تكاليفه وإنما يعني التلذذ بالجهر به”.

هكذا هي المظاهرات اليوم في العالم العربي، إنها عمل “تطهري” يقوم على الصراخ، على اجترار وتكرار ما نعرفه جيدا، ما نخشاه ونشعر بعجزنا عن تغييره، بمجرد أن تتحول شحنة الغضب الطارئ إلى صراخ في الهواء، ينتهي كل شيء ويعود الجميع إلى سيرتهم الأولى، تطأطئ الرؤوس من جديد و تصمت الشفاه وتعود الرتابة الآلية لقهر كل يوم. لقد انتهى الحفل.

يتحدى الليبراليون العرب الجماهير التي تقع أكثر فأكثر تحت سطوة الشعاراتية الأصولية الإسلامية وينتقمون من رفضها السلبي الضمني لراياتهم البيضاء بقذائف طائرات ودبابات باراك، يشتمون ابن تيمية ويمجدون إلهه – الجنرال، الزعيم، شيخ القبيلة، جنكيز خان أو قائد الغزاة، فتحديدا جنكيز خان هو بديلهم المقترح عن خالد بن الوليد أو صلاح الدين الذي أصبح لا يتقن إلا الهزيمة.

هذا ما يقومون به بالتحديد.

إنهم يواجهون مشروع الأصوليين عن صلاح الدين أو عن ابن وليد جديد ولكن ليس الموقف الأصولي من الحقيقة أبدا. فبوش وباراك لا يقلون أصولية عن ابن لادن، لكن أصولية جنكيز خان، كعنفه القاتل، لا يراه هؤلاء. إنهم يشتمون الأصوليين ويمجدون، في نفس الوقت، استهتارهم بالبشر، بل و يتلذذون بالتبشير بعدمية وجود هذه الملايين، أنتم لا شيء، لولا جورج بوش لبقيتم عبيدا طوال حياتكم، أي باختصار كونوا عبيدا جيدين لسادتكم القدامى الجدد، بوش ومن ثم أولمرت وباراك. ولأنهم بالكاد يقنعون أنفسهم فإن الناس اليوم وهي ترى المشهد المضمخ بالدم المكرر للمرة المليون تصبح أكثر أصولية في أيام معدودات مما تمكنت فتاوى القوى الأصولية من إنجازه في سنين بل في عقود طويلة. إنهم يضيقون، أكثر من الأصوليين، بأي خروج على السائد، سائد جنكيز خان وعماله على الأمصار، ويشجعون عملية رجمه الجماعي، هذه العملية التي تجري أساسا لصالح المنطق السائد من الأخلاق والسلطة. لكنها عملية خبيثة تشرك ضحايا السائد في رجم الضحية الذي تجرأ على التمرد ليقتلوا هم بأيديهم هذه الضحية، ليقتلوا هم بأيديهم بذور الحنق على السائد وأي أجنة للثورة داخلهم.

في كلا الموقفين، هناك إصرار على السائد إما السلطوي أو الشعبوي الساذج، إصرار على مرجعية فوق البشر، فوق الناس، هكذا يجري تأليه السذاجة والتخلف والخنوع.

“ألسنا نرى ونعلن أن كل شيء قوي و ذكي وماكر يقع في العالم بل في هذا الكون إنما هو تدبير وتخطيط و إخراج ومكر يهودي ؟ ألسنا نرى أن الله لم يتخلق بالغضب و لم يخلق الجحيم إلا لأن اليهود قد خلقوا ؟ “(العرب ظاهرة صوتية، ص 14 ).

انظر إلى ذات الكلام المكرر في كل مرة تمارس فيها قوة غاشمة كإسرائيل أخيرا وقبلها أمريكا بوش ما تشاء من الموت والقتل والتجويع، ذات الكلام عن القمم العربية العاجزة التي تجمع مجموعة من الطغاة المصابين بالباركنسون أو برهاب إسرائيل وأمريكا، أو عن الجيوش العربية المعدة أساسا لقمعنا ولتنظيم عملية رجم لأي خارج على السائد.

هذا التماهي بالمعتدي بالطاغية العاجز أمام إسرائيل وأمريكا، بالجنرال الذي يمارس القتل والقمع تجاهنا، يمثل ظاهرة عقلية غريبة تصر على التمسك بمصدر القهر الأساسي بل والوحيد وتستطيع خلق أوهام لا تنتهي رغم أنف الواقع عن هؤلاء الطغاة.

هذه الأوهام التي يريد الليبراليون الجدد إيقاظنا منها لنعلن استسلامنا لذات الطغاة من جديد، ذات الغباء الذي يعاد اجتراره مرة تلو أخرى، من هنا نستمر في التفرج على الهزائم. بل إن واقعنا، الذي نحاول تغطيته بصراخنا الساذج، ليس إلا هزيمة في كل شيء.

“وقد تحولنا بذلك إلى شماتة ونشوة لئيمة لكل الشامتين و المعادين والساخرين والمتلذذين بعار وهوان وافتضاح الآخرين” (العرب ظاهرة صوتية، ص 27)، يبقى للغضب دور آخر، كامن أو محتمل، مغيب أو منسي، لكنه ممكن.

“إن النقد القاسي الصحيح لعيوب الذات و ضعفها ليست قيمته في أنه نقد ولكن في أنه رؤية شجاعة وصدق ورغبة في الانتقال إلى الأفضل وتطلع إلى ذلك وشوق إليه” (القصيمي – العرب ظاهرة صوتية ص 23).