ملحمة غزة… و معمعة نيويورك!

عبداللطيف مهنا

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1765)

قطعاً، وحيث هنالك ألف دليل ودليل، هي ليست يقظة ضمير قد تأخرت لأسبوعين كاملين، انتثر فيهما الدم العربي الفلسطيني في وجه العالم اللامبالي، وسال مدراراً على أهداب جفونه… جفون عيونه الزجاجية المحملقة، و هي المصابة بعمى الألوان، في شاشات التلفزة، أو هذه التي اكتحلت بهذا الدم صباح مساء، وعلى مدار ساعات هذين الأسبوعين المحرقة.

ليست يقظة ضمير البتة، أصابت بغتةً وجدان مثل هذه الأمم المتحدة، فحركت غافل إنسانية مجلس أمنها البريء عادةً من مثل هذه التهمة، فيصدر هذا البريء قراره المرقوم 1860… القرار الذي يتم إلحاقه بقافلة من قرارات ذات صلة لم تكن لتعني لإسرائيل يوماً شيئاً، اللهم إلا بمقدار ما أفادها منها، ومن ذلك ذاك القرار الذي بصم فيه هذا المجلس موافقاً على إنشائها مصادقاً على إغتصابها لوطن آخرين فتكت بهم وشردتهم…

كما ليس قرارها هذا هو ما انتزعه منها أو فرضه عليها أولئك الموفودون إليها من العرب، الذين لجأوا إليها هروباً من مستحقات قمة لم يعقدوها، أو هؤلاء المرابطون لأيام الذين هم أشبه بمن اعتصموا في قاعات هذه الهيئة الدولية الملحقة بوزارة الخارجية الأمريكية، و كأنما خشية عاقبة العودة بدونه، وقد تركوا أوطاناً تغلي!

إنما هو… القرار… حصيلة بازارٍ انعقد في كواليس قاعات هيئة هذه الأمم اللامتحدة شهدت عملية استيلاده العسيرة معمعة… خطط حيكت، ومشاريع قرارات أُجهضت، ومحاولات أُسقطت، ومناورات تتابعت، ومبادرات حُبكت، ومساومات طالت، ومواقف تقلّبت، رفضت ثم قبلت…

كان توافقاً بدا بعيداً عن أجواء محرقة غزة اللاهبة، احتاجته برودة مصالح متسوقي البازار الأقوياء النافدين وضعف مستغيثي العرب المتجولين شبه المتسولين… المعتصمين في نيويورك تحت وطأة ثقل هم العودة بخفي حنين، وإلى حيث مستحقات قمةٍ هربوا من عناء حمل مستوجبات ما يترتب على انعقادها من أثقال قومية لا يريدون حملها…

* * *

على ماذا توافقوا؟!

توافقوا على مخرجٍ علّه يعفي أطرافه من حرج كلا العاجز والمتواطئ، وقد يمكن لأي طرفٍ منهما توظيفه مستفيداً من واضحه وغامضه على السواء… توظيفه للنجاة من زاويةٍ ضيقة حشرتهم غزة فيها وحاصرتهم بدمها، وسهّل عليهم ذلك التوافق عجز عدوان “الرصاص المسكوب” عن الإنتقال إلى مرحلته الثالثة، وحينما بدت ضريبته ترتفع وهو يلوب بدباباته على بوابات المدن المستبسلة والمخيمات العنيدة المستشهدة… لأن جميعهم، وحيث تقلّبت المواقف وحارت ودارت، لاحظ بأن هذه المقاومة ذات المفاجآت الأسطورية في غزة قد ثبّتت مواقفها، ورسّخت صمودها، وصعّدت تضحياتها، فتعالى خبر بطولاتها، وذاع لدى شعوب الكون أمر تأييدها، وأرهصت بوادر نصرتها.

لم يتوافقوا، دونما موافقة الأمريكان اللذين استأذنوا موافقة الإسرائيليين الذين همسوا بها ولم يعلنوها، بل و أعلنوا عدم قبولهم القرار المخرج، وعدّه القاتل أولمرت غير واقعي وغير قابل للتطبيق، وهم إذ لم يلتزموا به فهم في كل الحالات سيحاولون الإفادة منه.

وافقت أمريكا، وامتنعت عن التصويت، ربما حتى لا تسجل على نفسها سابقة أنها يوماً صوتت لصالح قرارٍ لا يرضي إسرائيلها، أو قد يشي بأنه ربما يحمّلها و لو معنوياً وزر فعلتها. أما فرنسا التي كان قد خفّ ساركوزيها إلى بلاد العرب لتسويق اشتراطات إسرائيل لوقف المحرقة، وليسهم مع من يسهم في قطع الطريق على أية مواقف عربية جماعية موحدة ذات معنى وقيمة تفضي إلى مبادرات ذات أثر، فقد حاولت باريس تأجيل صدور قرار أسهمت في سبكه، لإعطاء إسرائيل الوقت الكافي لإكمال ما تريد إنجازه محرقتها التي لم تنجز استهدافاتها… كان أن اختلف الجميع وإنقسموا، وأضطروا إلى التوافق لأن الفلسطينيين، ونعني بهم الشعب أرضاً وشتاتاً، والمقاومين على إختلاف المشارب، ونترك السلطة جانباً، قد توحدوا توحّد شلال دمهم. ولأن الأمة العربية، ونعني ناسها وجماهيرها وبسطائها ومن يعبرون عن ضميرها ووجعها و جرحها وغضبتها، قد توحدت شوارعها من محيطها إلى خليجها، أي قالت كلمتها في مشارقها ومغاربها… لا يتوحد الفلسطينيون إلا على فلسطينهم، ولا يوحّد العرب إلا فلسطين، ولا المسلمين يوحّدهم إلا مشاعرهم تجاه ما يدور في أكناف بيت المقدس… هذا ما قالته لنا غزة، وهذا ما أمسى موافقاً عليه من قبل الجميع، أو من قبل من يعنيهم الأمر من هؤلاء… كانت فلسطين كما كانت وستظل هي البوصلة!

* * *

والآن وقد صدر القرار العتيد، الحل الوسط، المَخرَج من المُحْرِج، فلن نناقش حرصاً على الوقت واحتراماً للمنطق فرص نجاح احتمالات تطبيقه… لماذا؟!

لأنه، فوق عدم الإلتزام الإسرائيلي به وحتى لو إلتزم المعتدون به، قد بدأ بدايةً مطلوبة لكنه أثقلها فيما يتبع بصياغاتٍ لا تبشر بنهاياتٍ تؤمل أو ترتجى منه، كيف؟!

وقفٌ فوري، ودائم، لإطلاق النار… هو هنا لا يقرر أو يلزم وإنما يدعو، وقول إطلاق النار وليس العدوان… أما كلمة “دائم” هذه فتؤشر إلى رغبة فرض تهدئةٍ يريدها العدو تلغي حق مقاومته. وهذه الدعوة للوقف الفوري الذي اعتبره عرب نيويورك تنازلاً غربياً مهماً، واعتبرته سلطة الحكم الذاتي الإداري إنجازاً كبيراً نسبته بالطبع لجهودها في سياق جهود عرب الجامعة “الموحّدة” العظيمة النتائج! ليس مقروناً بإنسحاب كامل للمعتدين، وإنما “يؤدي” إليه… وهنا ستكون الإجتهادات والتفسيرات ومنها الإسرائيلية طبعاً، هذا إذا ما وافقت إسرائيل مستقبلاً على وقف إطلاق النار بعد تحقيق منجز ميداني يبرر للناخبين قبولها… ثم إن هذا الذي قد “يؤدي” هو مقرونٌ بترحيب بالجهود “الأيّلة” إلى فتح المعابر و”منع تهريب الأسلحة”، أي لا يفك حصاراً وإنما قد يؤدي إلى ذلك، لكنما أيضاً مشروطاً باحتمال استمراره عبر مقولة “منع تهريب الأسلحة”… وأخيراً تحقيق المصالحة الفلسطينية… وهذه ربما بالمعنى الذي تفهمه سلطة رام الله لمفهوم المصالحة، و عليه ها هي قد اعتبرت 1860 إنجازاً ما بعده إنجاز دعت غزة لقبوله دونما لعثمةٍ أو تردد!

* * *

القرار المتأخر، الذي لا يعبر عن يقظة ضمير… الذي فرضه الدم الفلسطيني… وسهّله العجز الإسرائيلي لكن مع رفضه، هو باختصار في حاجة إلى خارطة طريق قد يكون قد تم إعدادها سلفاً، فكانت المصرية-الفرنسية، ولعل في هذا ما قد أصابه في مقتل في مهده، حتى لو لم تئده إسرائيل فور صدوره… ونسأل ذات السؤال… لماذا؟!

لأنه، أولاً لا يستجيب لثوابت غزة المدماة الثكلى لكنما العنيدة المقاومة والتي تقول، بوجوب الإنسحاب الفوري والكامل للمعتدين، وفتح المعابر، وعلى رأسها معبر الحصار العربي في رفح، وهذين مقرونين بلائين اثنتين: لا لقوات دولية تحمي الإحتلال، ونعتبرها قوة معادية سنقاومها، ثم لا إتفاق حول المعابر لا تكون للمقاومة كلمتها فيه، وكطرفٍ من أطرافه… هذا ما أعلنته فصائلها سلفاً، وأكدت عليه بعد صدور قرار توافق متسوقي ومتسولي البازار النيويوركي…

القرار 1860… آخر قرارٍ لحق بقافلةٍ من قراراتٍ ذات صلة لم تعني يوماً شيئاً يستحق احتراماً من قبل إسرائيل مع محاولة الإفادة من مردوده عليها، ليس هناك ما ينبئ بحظوظه المؤكدة في النجاح… لماذا؟!

لأن خارطة طريقه التي أشرنا إليها تخبرنا سلفاً، بأن الهوة شاسعة بحيث من الصعب جسرها بين من ينطلق من أن غزة السابحة في دمها استبسلت وصمدت، وأن العدوان الوحشي الدموي المدجج قد فشل في إخضاعها رغم ما لعقه من دمها، وبالتالي في هذا ما يعني موضوعياً انتصارها… وبين من ينطلق من أنها قد اُستفردت فأثخنت فهزمت و عليه لا بد لها وأن تسلّم بانتصار عدوها والخضوع لاشتراطاته… الفرق البيّن بين ما سطرته ملحمة غزة وما توافقت عليه أطراف معمعة نيويورك المتوافقين!!!