الرهان الخاسر على القمّة العربية

نصر شمالي

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد1773)

ما أن بلغ الوضع في قطاع غزّة ومضاعفاته حدّ الخروج على سيطرتها حتى لجأت جامعة الدول العربية إلى جامعة دول العالم، أي إلى هيئة الأمم المتحدة، تطلب نجدتها ومساعدتها ضدّ سكّان القطاع “المتمرّدين” الذين رفضوا إلقاء السلاح، ورفضوا الاستسلام ورفع الرايات البيضاء، رغم حجم القتل والدمار الذي أصابتهم به آلة الحرب الإسرائيلية/الأميركية!

لقد كانت خطة استئصال “تمرّد” الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة محكمة، أخذت ما تحتاجه من الزمن بالحصار الطويل، تماماً كما فعلوا في العراق قبل احتلاله، بل إنّ الحصار على قطاع غزّة كان أشدّ إحكاماً وضراوة، بسبب فارق الحجم والموقع والإمكانيات بين العراق والقطاع، وقام كلّ طرف من الأطراف الدولية العربية والأجنبية بدوره كاملاّ في إحكام الحصار، سواء دول هيئة الأمم أم دول الجامعة العربية، بحيث تحوّل القطاع بكامله إلى معسكر اعتقال لأسرى متمرّدين تعدادهم مليوناً ونصف المليون، يفتقرون إلى أبسط شروط الحياة، ويتلقون أقسى الضربات العسكرية، وصار المتوقّع من هؤلاء الأسرى بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم أن يرفعوا الرايات البيضاء ويستسلموا دون قيد أو شرط، لكنّهم لم يفعلوا ويا للعجب، فكان ذلك أمراً فاق التوقعات الدولية الرسمية، وهنا رأت دول الجامعة العربية أن لا مناص من اللجوء إلى العمل العسكري الحربي الشامل على الرغم مما يسببه لها من حرج، فأوكلت هذه المهمة إلى القوات الإسرائيلية: “قوة الدفاع عن العالم الحرّ” كما وصفتها الذئبة الصهيونية تسيبي ليفني! وكان المتوقع هذه المرّة أن تكون “صدمة الرعب والتدمير الشامل الأولى”، خلال الساعات الأولى، كافية لانفكاك الشعب الفلسطيني عن مقاومته وإعلانه الاستسلام لاجئاً إلى جامعة دوله العربية، لكنّ ذلك لم يحدث أيضاً ويا للعجب العجاب، وهاهو الشعب الفلسطيني في القطاع يواصل صموده واحتضانه لمقاومته الباسلة حتى كتابة هذه السطور، بعد ستة أيام من انطلاق عمليات التدمير الشامل ضدّه، فأسقط في يد حكومات دول الجامعة وقد حاصرتهم غزّة بدمائها وأنقاضها وصمودها، ومعها جماهير الأمة العربية والإسلامية وجماهير العالم أجمع، ولم يجد وزراء خارجيتها ما يفعلونه سوى إحالة القضية إلى المستوى الأعلى من المسؤولين، إلى مجلس الأمن الدولي وإلى هيئة الأمم المتحدة!

إنّ اسم المنظمة الدولية (هيئة الأمم المتحدة)، التي أحيلت إليها مهمّة إنهاء “التمرّد” في قطاع غزة، لا ينمّ عن حقيقتها، فهي ليست هيئة أمم، وهي ليست أمم متحدة، وإن ضمّت حكومات جميع دول العالم، بما فيها حكومات الدول المظلومة والمعارضة والممانعة للاستعماريين والاحتكاريين، بل هي لا تعدو كونها منظمة للدول الاستعمارية والشركات العالمية الاحتكارية، تأسست بعد الحرب العالمية الثانية على هذا الأساس، بمبادرة من الحلفاء المنتصرين في تلك الحرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة، حيث رأت واشنطن في مثل هذه المنظمة وفي المنظمات الدولية الموازية لها صيغة بديلة للاستعمار المباشر، كفيلة بملء الفراغ في مناطق نفوذه التي لابدّ وأن تغادرها قوات الاحتلال، ففي ظل الإدارة الاستعمارية الأميركية الحديثة سوف تتكفّل حكومات المستعمرات السابقة ذاتياً بحفظ الأمن والنظام في بلادها لصالح الاحتكارات الربوية والاستعمار الحديث، الأمر الذي جعل عواصم الاستعمار القديم تسارع إلى التكيّف مع الصيغة الأميركية، فكان العدد الكبير من المنظمات والهيئات الدولية، في جملتها منظمة الكومنولث البريطاني، والمنظمة الفرانكفونية الفرنسية، وكانت أيضاً جامعة الدول العربية التي سعت لندن إلى تشكيلها منذ عام 1941، أي منذ كان الإنكليز يستعمرون مباشرة عدداً من البلاد العربية، في مقدّمتها مصر والعراق وضمنها فلسطين!

لقد حاولت الحكومة البريطانية، بتشكيل الجامعة العربية، إيقاف تقهقرها في بلادنا أمام التقدّم الأميركي، والاستعانة بهذه الجامعة ما أمكن للحفاظ على مصالحها ونفوذها المهدّد من قبل الأميركيين، الأمر الذي تجلّى واضحاً في أداء جامعة الدول العربية على الساحة الفلسطينية في حرب عام 1948 التي تمخّضت عن قيام الكيان الإسرائيلي/البريطاني حينئذ، غير أنّ التطورات الدولية الهائلة في السنوات التالية لتلك الحرب استبعدت البريطانيين، ومكّنت الأميركيين من الاستيلاء على تركتهم: الكيان الإسرائيلي، وجامعة الدول العربية! ولا تغيّر في جوهر هذه الحقيقة محاولات بعض القادة العرب انتزاع مؤسسة الجامعة من براثن الأميركيين على مدى العقود الستة الماضية، فهاهي اليوم في خدمة الأميركيين، على الرغم من استمرار محاولات انتزاعها إلى هذا الحدّ أو ذاك، وهاهي حكوماتها تتقاسم الأدوار مع الأميركيين والإسرائيليين، سواء في فلسطين أم في العراق أم في السودان والصومال!

لقد سعت لندن إلى تكريس التجزئة العربية بإقامة جامعة الدول العربية، وهي التي كانت متأكّدة من نزوع الأمة الهائل إلى الوحدة، فقد تضمّن ميثاق الجامعة مبادئ لا يزال معمولاً بها تنصّ على ما يلي: “الاعتراف بسيادة واستقلال كلّ من الدول الأعضاء بحدودها القائمة (حدود سايكس/بيكو!) والاعتراف بالمساواة التامة بين الدول الأعضاء كبيرها وصغيرها! والاعتراف بحقّ إبرام المعاهدات والاتفاقات مع غيرها! وليس هناك إلزام لانتهاج سياسة خارجية موحّدة! وعدم اللجوء إلى القوة لفضّ النزاعات والخلافات! ويقوم مجلس الجامعة بالوساطة بين الدول الأعضاء بناءً على طلبها..الخ”! وإنّ التأمّل في هذه البنود يرينا ليس فقط وقوف دول الجامعة سدّاً منيعاً للحيلولة دون تحقيق أي شكل حقيقي من أشكال الوحدة، بل يرينا أيضاً كيف أنّ هذه البنود صارت تشمل الكيان الإسرائيلي، خاصة البند الذي ينصّ على: “عدم اللجوء إلى القوة في فضّ النزاعات والخلافات”! فصراع الوجود مع العدو الصهيوني تحوّل إلى مجرّد “نزاع وخلاف” تمكن معالجته داخل المجموعة الواحدة، وبما أنّ الفلسطينيين يصرّون على أنّه صراع وجود، ويلجؤون في مقاومتهم إلى السلاح، فقد صار لزاماً على حكومات دول الجامعة أن تعمل على وضع حدّ لمخالفتهم نظامها المقدّس!

لقد عجز الإصلاحيون من القادة العرب حتى اليوم عن تغيير أو تطوير ميثاق الجامعة، بحيث تصبح في خدمة أمتها ولأمتها لا في خدمة أعدائها وعليها، وبالتالي فليس أكثر سذاجة من الذين يراهنون على مواقف قمّة الحكومات العربية لنصرة القضايا العربية، وأولها قضية فلسطين، فحكومات هذه الجامعة تدور في فلك هيئة الأمم التي يديرها الصهاينة، أمّا الرهان الرابح فينبغي أن يكون على المقاومة العربية التي تجذّرت أخيراً، والتي سوف تنهض جامعتها الحرّة المستقلة إن عاجلاً أو آجلاً!

ns_shamali@yahoo.com