دراسات ما بعد الصهيونية في إسرائيل: العقد الأول (الجزء الاول)

أوري رام

دائرة علم الإجتماع والإنسان، جامعة بن غوريون

(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1812)

خلاصة/تجريد نظري

غدت ما بعد- الصهيونية في العقد الأخير اللوحة البلورية التي تشف عن، وتكشف، التوترات المتزايدة بين الديمقراطية والأبعاد اليهودية في دولة إسرائيل. تركز هذه المقالة على مابعد الصهونية باعتبارها بمثابة تطوير خطاب هيمنيٍ – مقابل في إسرائيل المعاصرة. ما يُعرض هنا هو تحليل موسع ومسح لما بعد- الصهيونية، على النحو التالي: (1) مراجعة لتاريخ مفهوم “ما بعد- الصهيونية” منذ بروزه عام 1993، مع نظرة إستعادية إلى مصادره (2) تسليط الضوء على تجليات ثقافة ما بعد الصهيونية في إسرائيل، (3) تحليل النظريات الأربع لما بعد الصهيونية: بَعد-قومي، بعد-حداثي، بعد-استعماري، وبعد-ماركسي، (4) تقييم لبعض الجدل الذي أحاط بما بعد-الصهيونية، و (5) تقييم دولة ما بعد-الصهيونية في منتصف سِنِيْ ال 2000 واستشرافٌ لملامحها مستقبلاً.

توحي النظرية النقدية بأن ما بعد-الصهيونية يجب أن لا تقيَّم على أسس تقليدية في ما يخص شعبيتها ونجاعتها، بل بالأحرى على أرضية مقولات نقدية “دوماً” أي التي تلتقط التيارات التحتية، وعلى أساس مقولات “تجاوزية” التي تفتح بدورها على آفاق معيارية خارجية المنشأ.

* * *

في طرحها الرسمي لنفسها، كما هو في العقل الشعبي للأكثرية اليهودية أيضاُ، تصف دولة إسرائيل نفسها بأنها “يهودية وديمقراطية” بينما يحاجج كُتَّاب ما بعد- الصهيونية، بعكس هذا، بأن الواقع الفعلي الإجتماعي، الثقافي، والسياسي للبلاد يؤكد لا مشروعية الزعم بتوافق البعدين اليهودي والديمقراطي. فهم يصرون على أن هذين البعدين هما في الحقيقة متناقضين وأن كلاً منهما يشد باتجاه مخالف للآخر. وعليه، فهما يفتحان على خلق أو تبلور قطبين مختلفين تماما للطيف السياسي-الثقافي في إسرائيل، أي أن تنتهي إسرائيل إلى واحدٍ من موديلين، نموذجين، بديلين لإسرائيل – إما أن تتحول إلى دولة يهودية إثنية، أو أن تتحول إلى دولة ديمقراطية لمختلف مواطنيها.

في مواجهة الغموض متعدد الوجوه لتيار الصهيونية المهيمنة (بأن إسرائيل هي دولة يهودية “و” ديمقراطية) والعنصرية الإثنية للصهيونية النيو-يهودية (إسرائيل كدولة يهودية)، فإن مفهوم مابعد-الصهيونية (إسرائيل كدولة ديمقراطية) قد برز في تسعينيات القرن العشرين بما هو البديل اللبرالي الأصيل للمجتمع الإسرائيلي. لقد أنتجت مابعد- الصهيونية في العقد الأخير منظوراً واسعاً عن المجتمع الإسرائيلي، واعتُمدت كمرتكز لنظام من الأبحاث والنقد للمجتمع وروح الشعب الإسرائيلي، إضافة إلى إرساء إدراكٍ فردانيٍ جديد.

تركز هذه المقالة على مابعد-الصهيونية بما هي المقابل للخطاب المهيمن حالياً في إسرائيل. وهدف هذه المقالة هو وصف طرق أداء ما بعد- الصهيونية. بما هي إطار عام يواجه الإتجاهات المهيمنة في إسرائيل المعاصرة. نقدم هنا تحليلاً ومسحاً موسعين لما بعد-الصهيونية، على النحو التالي: (1) مراجعة تاريخ مفهوم “ما بعد-الصهيونية” منذ ظهورها عام 1993، إضافة إلى مراجعة إستعادية لمنابعها (2) تسليط الضوء على تجليات ثقافة ما بعد- الصهيونية، (3) تحليل أربع نظريات مختلفة لما بعد -الصهيونية: وهي مابعد-قومية، ما بعد-حداثية، ما بعد-استعمارية، وما بعد-ماركسية، (4) التعرض لبعض الجدل الإيديولوجي المتعلق بما بعد-الصهيونية، و (5) تقييم دولة ما بعد-الصهيونية في منتصف سنوات أل 2000، واستشراف لملامحها في المستقبل.

(1)

مابعد-الصهيونية: تواريخها ومعانيها المتشعبة

دخل مصطلح ما بعد-الصهيونية إلى الخطاب العام للمرة الأولى في أعقاب طباعة كتاب المجتمع الإسرائيلي: منظورات انتقادية (رام 1993). اشتمل هذا الكتاب على الدعوة إلى المبادرة لتأسيس “علم اجتماع ما بعد-صهيوني”. هدفت الأجندة الجديدة إلى تناول “الاختلاف بين المتساوين” وبالأحرى، كما هو دارج في الأجندة القديمة، ” هوية اللامتساوين’ (أو ، بالتصورات الأميركية، من “البوتقة” إلى “صحن السلطة”). كان الكتاب قد أُنهي رسمياً في 13 أيلول 1993، وهو نفس اليوم الذي وُقع فيه اتفاق أوسلو بين إسرائيل وبين منظمة التحرير الفلسطينية في أروقة البيت الأبيض. وإذا كان لا بد لما بعد-الصهيونية من تاريخ ميلاد، فقد كان ذلك التاريخ. من المؤكد أن هناك بعض التداخل بين ما بعد-الصهيونية وبين عملية أوسلو. وقد يعتبر البعض أن الانهيار اللاحق لعملية أوسلو هو سبب في تقويض ما بعد -الصهيونية. ومن جهة ثانية، قد يعتبر آخرون “أوسلو” (بمعزل عن التفاصيل) بأنها مجرد بداية فصل طويل لتغير بنيوي ينتهي بالانفصال إلى دولتين، وهو الأمر الذي رغم ما تعرض له من الإعاقات وضريبة الدم، فإنه ما زال ماضٍ في طريقه. من هذه الزاوية، قد يكون هناك مستقبلاً ينتظر ما بعد- الصهيونية.

رغم أن مفهوم ما بعد- الصهيونية دخل الخطاب العام عام 1993، إلا أنه كان قد لُمس من قبل بعض الأسلاف من المثقفين. وأحدهم هو الفيلسوف مناحيم برنكر، الذي صاغ عام 1986 مصطلحاً موازياً بالعبرية – “تيكوفا بيتار زيونيست” (فترة ما بعد الصهيونية) (برنكر 1986). ومع أن كلمة “بيتار” تُترجم في الغالب بأنها “ما بعد”، فإن الاستخدام العبري يشير إلى نقص في الإشارة أو التلميح إلى ما بعد- الصهيونية في ذلك الوقت، وهي المسألة التي لم يتم تحولها بشكل راديكالي إلا بعد بضع سنوات لاحقة. وهناك تبشير مبكر آخر أنتجه عالم الاجتماع إريك كوهين، الذي استخدم المصطلح بشكل واضح في محاضرة قدمها عام 1989، والتي لم تجد طريقها إلى النشر إلا عام 1995 (كوهين 1995). وهناك مبشرون آخرون بما بعد- الصهيونية منهم الناقد الثقافي بوعز عفرون، والفيلسوف يوسف أجاسي. ورغم أن أياً منهما لم يستخدم المصطلح، فإن كليهما تناولا قضية “الأمة الإسرائيلية”، ارتكازاً على المواطنة المشتركة والتاريخ المحلي، والتي تختلف عن الدارج “مصير Community-الجماعة” للشعب اليهودي” (عفرون 1995، أجاسي 1999، وقد أشار الأخير كذلك إلى هيلل كوك، على أنه أول من أوحى بالقومية الإسرائيلية).

إن أحد الآباء الروحيين لما بعد-الصهيونية هو المعلق الصحفي الراديكالي أوري أفنيري. لقد جادل أفنيري مؤخراً أنه كان قد استخدم المصطلح عام 1976، ليصف شكلاً جديداً من الوطنية الإسرائيلية، في تمييز لها عن الانتماء التقليدي لليهودية. وكان قد أصدر عام 1968 كتاباً بالإنجليزية عنوانه إسرائيل بلا صهاينة (أفنيري 1968). يتلافى العنوان العبري للكتاب اللغة الصدامية والذي كان حرب الستة أيام (أفنيري 1968). وبغض النظر فيما إذا استعمل مصطلح ما بعد- الصهيونية بشكل محدد أم لا، فإن أفنيري وآخرون كذلك في الحركة “الكنعانية” ولاحقاً في الحركة السامية، قد سلَّموا أو ورَّثوا لخطاب ما بعد-الصهيونية التمييز ما بين “أمة إسرائيلية” مكوّنة من الإسرائيليين الأصلانيين (أو العبريين – كما أُعتيد أن يُسمّوا في الزمن المبكر). ويهود الشتات.

هناك تمييزٌ واحدٌ بين هذا وما بعد-الصهيونية، ولو أن الكنعانية” السامية” قد فسرت القومية الجديدة بصيغة ” خشنة ” أصلية قديمة للأمة الإسرائيلية، في حين أن التفسير المعاصر لما بعد-الصهيونية للأسرلة هو بالأحرى تفسير “ناعم” هو ما بعد-قومي، مدني أو بطريقة دستورية.

وجد البعض أصول المابعد-صهيونية في المدخل الأكثر عراقة للضد-صهيونية والذي في فترة ما قبل الدولة كان قد استخدم من قبل الدوائر الشيوعية (هذا دون أن نذكر العرب ألْ ضَد- الصهيونية)، ومنذ ستينيات القرن العشرين، على يد المجموعة الانشقاقية (المعترضة- ) من حركة متسبين.

يشير البعض إلى هذا الأصل المفترض بهدف لوم أو تقريع الأجندة التي يبدو أنها خفية لما بعد-الصهيونية (أهرونسون 1997)، بينما يشير البعض الآخر إلى ذلك بهدف الحصول على اعتراف من الأسلاف، وفي بعض الأحيان نقد المضمون “الناعم” لِ أل “ما بعد” مقارنة مع الكلمة الأصلية لموقف أل “ضد” (إيرليخ 2003). وحتى مثل هذه المماثلة، فهي تخفي التمييز بين أل “ما بعد” وبين أل “ضد” . فمصطلح ألْ ضد-صهيونية، يمكن أن يؤخذ بشكل واسع على أنه اعتراض على كيان دولة إسرائيل على نحو ما؛في حين أن ما بعد-الصهيونية هو نقد من الداخل لهذه الدولة نفسها. ورغم هذا التوصيف، فمن الصواب المحاججة بأن مكونات ما بعد- الصهيونية هي موجودة ضمناً في المدخل الضد-صهيونية (يوفال ديفيس 1977، أور 1994، وخاصة الفصل المتعلق ب بالأسرلة، ص 44-52).

من مدخل مناقض تماماً، فما إن أصبح مصطلح ما بعد-الصهيونية دارج الاستعمال، حتى نسب البعض جذوره أو ردّها إلى “مؤسسي الدولة”. وليس أبرز المرشحين الذين ذُكروا في هذا الصدد كسلف محتمل لما بعد-الصهيونية إلا ثيودور هرتسل نفسه (أليويم-درور 1997، سيجيف 1996). أما المرشح الآخر لأبوة هذا المصطلح، وهو ليس أقل قدراً ولا إثارة للدهشة، هو ديفيد بن غوريون، الذي ورد ذكره في هذا من قبل عدد من المؤرخين لم يقتصروا على أنيتا شابيرو، ويوسف جورني (شابيرو 1977: 227-231، جورني 2003 : 457—459). وهناك الذين عرَّفوا ما بعد- الصهيونية باعتبارها “صهيونية حقيقية” (ألوني 1997). هناك شخصيتان رمزيتان من التاريخ المبكر للصهيونية، وهما الناقد الثقافي آشر جنزبورغ المشهور ب آحاد هاعام، والمؤلف يوسف حايم برنر، الذي قُرئ على أنه ما بعد-صهيوني (شيختر 2004). كما يُشار إلى حنا أرندت باعتبارها من المبكرين في مابعد-الصهيونية (زيمرمان 2001).

وبمرور الزمن، فإن سلسلة كاملة من المعاني كانت مرتبطة بمصطلح ما بعد-الصهيونية. وأحدها هو ذلك المتفرع عنها تحت اسم نَسَوية ما بعد-صهيونية. إن مارشا فريدمان هي إحدى “أمهات” النسوية الإسرائيلية، وهي تعتبر ما بعد-الصهيونية بمثابة إدخال مرحّب به لبعدٍ نسويٍّ في الثقافة الإسرائيلية، التي كان مسيطَرٌ عليها ذكورياً (فريدمان 1998). في هذا الصدد، فإن عالمة الاجتماع حنا هيرتصوغ تجادل بأن ما بعد-الصهيونية هي عملية “تحضير -من حضارة” للمجتمع الإسرائيلي، الذي هو في الغالب منسجم مع مهمة الحركات النسوية، لتقويض المسارب الذكورية – القومية- التسليحية والتي تشكل ضربات ذات أثر استثنائي للمجتمع الإسرائيلي. (هيرتسوغ 2003)

وأحد فروع ما بعد-الصهيونية هو ما بعد -الصهيونية في الشتات. ففي حين أن ما بعد-الصهيونية يُماثَل في العادة مع “لا – تهويد” إسرائيل (في سياق دستورها، بحيث لا يتم خلط ذلك مع “اللا-يهودية” بمعنى استثناء اليهود)

وفي هذا الصدد اكتشف بعض المثقفين اليهود فرصة للدعوة إلى لا أسرلة الجماعات اليهودية، مثلا، استبدال دور إسرائيل في مركز الحياة اليهودية، وتوليد تعددية محلية لهويات يهودية. وعليه، قد ينزاح التركيز عن منحى “التنوير الجديد” أو التعددية الثقافية (نيمني 2003) إلى ما بعد- تنويري” روحانية (ليرنر1998). وعليه، فإن العودة المبدئية إلى يهودية الشتات، ورائدها راز كروكستين (1993-4)، ودانيال وجوناثان بويارين (1994)، وجور زئيف (2004) وآخرون، هو سيف ذي حدين. ففي حين أن حداً واحداً يمكن أن يحرر اليهودية من الصهيونية، ويُبيّن السبيل للصهيونية، فإن الحد الآخر يمكن أن يُقحم القومية ثانية من الشُبَّاك، في شكل يهودية تكاملية – التي هي بالضبط صهيونية جديدة (وعليه، فإن ما بعد الصهيونية بهذا المعنى مرحب بها من قبل المتحدثين باسم كتلة المخلصين/المؤمنين، انظر نوعام 1996. وبشأن نقدٍ على وجهة النظر الشتاتية، أنظر بيليد 1994). وهذا قد يحركنا باتجاه تحوير أكثر غرابة في معنى ما بعد-الصهيونية-وهو تماثلها مع عقائد الأصولية القومية لكتلة المؤمنين والأشكال السياسية الأخرى لليهودية (مثلا كاربل 2003). إنها غريبة، لأنه حسب اللغة الدارجة فإن ما بعد-الصهيونية متماشية مع اليسار العلماني اللا قومي، وحتى في هذه الحالة فإن المصطلح يتقبل معنى عقيدة الجناح اليميني ويخدم كبديل إثني-أصولي للبرالية اليسارية الصهيونية ( هذا ما صاغه المؤرخ زئيف سترنهل “ما بعد-صهيونية المستوطنين” (سترنهل 2003)

لا شك أن كلاًّ من اليمين واليسار يستخدم ما بعد- الصهيونية كاصطلاح ازدرائي ضد من يجادل أيَّاً منهما. ففي الجانب اليميني من الطيف، فإن يورام هازوني، وهو أيديولوجي محافظي جديد، هو صاحب فرضية أن ما بعد-الصهيونية تعود إلى الوراء وتذهب في العمق إلى أطروحات بروفيسورات الجامعة العبرية والمثقفين اللبراليين-اليساريين في إسرائيل.

ويرتكز هذا الزعم على المدخل الخلاصي لهذا الفريق وبحثه عن مساومة أو حتى تعاون بين اليهود والعرب في فلسطين (حازوني 2001). وفي الجانب اليساري للطيف، يوسي بيلين، القيادي في “معسكر السلام”، الذي يأخذ على البرنامج التوسعي لإسرائيل الكبرى الذي يتبناه الليكود بأنه ما بعد-صهيوني، يرتكز على المحاججة بأن هذا البرنامج سوف يخلق أكثرية لا يهودية.

أبعد من هذا، فإن المؤرخ داني جوتوين يعتبر حازوني نفسه بمثابة ما بعد-صهيوني، بمعنى أن الأخير يعارض مختلف أشكال الجماعية اليهودية (جوتوين 2003). ومن اتجاه آخر، هناك كاتب آخر يأخذ على ما بعد-الصهيونية باعتبارها الدفاع الأفضل عن الصهيونية، من خلال نشر مفهوم “صهيونية ناعمة” بمظهر ما بعد-صهيونية (بوجر 1996).

بهذا التفسير أو ذاك، من الصعب أن نجد اليوم أي نقاش جدي حول دولة إسرائيل أو الهوية الإسرائيلية، يوفر متسعاً للمراوغة أمام تحدي ما بعد-الصهيونية، بقصد أو عن غير قصد (انظر على سبيل المثال رافيزكي 1997، إيزنشطاط 2004، سيلج 2004، بن رفائيل 2001).

(2)

ما بعد-الصهيونية: تجلياتها في الثقافة الإسرائيلية

ولكن، ما هي ما بعد- الصهيونية؟ واضح أنه من النقاش المدرج أعلاه عدم وجود تعريف واحد مقبول لها على الجميع. وعليه، فإنه إما أن نحاول صياغة تعريف “صحيح” للمصطلح، أو يكون هدفنا هنا هو تفريغ أو فك وضعه ومدلوله الإستطرادي المتحول. إن تقديراً صحافياً لما بعد-الصهيونية هو بمثابة مؤشر على المعنى الذي يحمله المصطلح في العادة في الخطاب العام: ” ما بعد -الصهيونية هي مدرسة فكرية تعترف بمشروعية الصهيونية بما هي حركة قومية لليهود، بل هي تشير إلى تاريخ محدد، باعتباره خطاً أو علامة فارقة، التي من عندها وما بعد، قامت الصهيونية بصياغة أو نحت دورها التاريخي أو خسرت مشروعيتها بسببٍ من أخطاء ارتكبتها بنفسها ضد آخرين (ليس ضد العرب فقط، وإنما أيضاً، بحق يهود أوروبا، الناجين من المحرقة، متحدثي الييدش، اليهود الشرقيين، اليهود الأرثوذكس، النساء). لقد تم من هذا المنظور، الوصول إلى استنتاج سياسي، يتوجب بمقتضاه على دولة إسرائيل إسقاط مكوناتها الصهيونية، التي هي الأساس لطبيعتها اليهودية، نظراً لأنها تشكل حاجزاً يمنع تحولها إلى دولة ديمقراطية” (ليفنه 2001:20).

بحلول عام 1998 تكون إسرائيل قد أكملت يوبيلها الذهبي، وأصبحت ما بعد-الصهيونية محوراً رئيسياً تمحورت حوله الإنجازات والإخفاقات السابقة للدولة وملامح المستقبل. وما بين السنوات 1994 و 1998، فإن الصحافة القومية للدولة كانت تنشر ما معدله موضوعين عن ما بعد-الصهيونية أسبوعياً (جولدبيرجر 2002:53). لعل الناقلة الرئيسية لهذه المطبوعات هي صحيفة هآرتس، التي كانت حصتها 90 بالمئة من المواد، وحتى بشكل مكثف بين حين وآخر. وهذا أدى إلى تقوية الشعور أنه خلال التسعينيات من القرن العشرين غدت ما بعد-الصهيونية واحدة من أكثر القضايا المتداولة بين مثقفي الجمهور الإسرائيلي ً (فالكثير من المواد الصحفية عن الجدل بشأن ما بعد الصهيونية، مع تركيز على المحرقة، متوفرة بغزارة لدى ميخمان 1996).

نظر بعض المراقبين الأجانب إلى إسرائيل في يوبيلها الذهبي أيضاً من منظورٍ ما بعد صهيوني. فعلى سبيل المثال، فإن المجلة البريطانية المعتبرة الإيكونوميست، قد عنونت ملحقاً لها كُرِّس لإسرائيل في يوبيلها الخمسين وحمل عنوان “بعد الصهيونية” (الإيكونوميست 1998). وكان تقدير هذه المجلة أنه في أعقاب نجاح الصهيونية في بناء دولة قوية واقتصاد قابل للحياة، فإن الصهيونية لم يعد في وسعها أن تخدم كصرخة تجميع مناسبة للوقت الحالي. فالكثير من الإسرائيليين، وحتى الصهاينة المتعصبين أخذوا يشعرون أن آفاق الصهيونية لم تعد مناسبة للمجتمع الحديث، وهم يرغبون في “التقدم إلى الأمام” حتى لو وجدوا أنه من الصعب إنارة الإتجاه. يمكنني المجازفة بالقول، أن ما بعد-الصهيونية بالنسبة للكثير من هؤلاء تقدم إطاراً مفاهيمياً لما يعتبر في هذا الصدد، أي وجود الملحق، “تقدماً إلى الأمام”. ً وبما هو تجلٍّ لهذه الوضعية الجديدة، فإن الملحق يشير إلى تحول كبير في الثقافة السياسية لإسرائيل: بروز شرخ في الهوية في أعقاب الانشقاقات الأيديولوجية في السابق. وفي مناقشتها لإسرائيل، فإن المجلة تستخدم مصطلحات أخرى مثل “هويات- مركَّبة تجمعها وصلات (المقصود الشحطة التي تتوسط بين كلمتين تعبيراً عن ترابطهما كأن نقول “الإثنية-اليهودية)، و “أمة من القبائل”. وكما حصل حديثاً، فإن توني جُدت، المؤرخ من نيويورك قد جذب الكثير من الإنتباه، بمحاججته في روحية ما بعد-الصهيونية بأن القومية الإثنية-اليهودية الإسرائيلية هي مفارقة تاريخية، وبأن حل الدولتين (إسرائيل وفلسطين) غير قابل للحياة، وأنه بناء على ذلك، فإن دولة ثنائية القومية لا بد من أخذها جداً بالإعتبار (جُدت 2003).

إن ما بعد-الصهيونية هو عنوان لعدد متزايد من الأعمال الدراسية، فبعضها يفضّلها، وأخرى لا توافق عليها. يمكن للمرء الحديث في هذا المجال عن الإنتعاش الحديث العهد “لرفوف الكتب المحتوية على ما بعد-الصهيونية”، وحتى لو كانت صغيرة من حيث الكمية، مقارنة مع الكمّ الأكبر من “رفوف الكتب اليهودية”، التي تنتشر في إسرائيل في نفس الوقت بدعم مباشر أو غير مباشر من الصهيونية الجديدة.

لقد ظهرت كتبٌ عديدة بالإنجليزية مؤخراً تحمل مفهوم ما بعد-الصهيونية في عناوينها. ولعل الأكثر واقعية منها هو كتاب لورنس سلبريشتين مناظرة ما بعد- الصهيونية (1998).ومن بين الآخرين الذين عالجوا الموضوع فيرهر 1998، سيجف 2003 و نيمني (إعداد)( 2003). وهناك العديد من الكتب الأخرى التي، وإن لم تذكر ما بعد-الصهيونية في مقدمة عناوينها، فإنها رغم ذلك متعلقة بالموضوعات الرئيسية لما بعد- الصهيونية (ومن بينهم كيمرلنغ 2001، و شافير وبيليد 2002، كيمب, ثومان، رام و يفتحئيل (إعداد )( 2004). كما أنه في كثير من الجامعات على مستوى العالم بأسره هناك اليوم أبحاثٌ من منظور ما بعد -الصهيونية أو عن “ما بعد-الصهيونية ” نفسها. (مثلا فيلدت 2004).

تجدر الإشارة إلى أن العديد من المجلدات التي تؤرخ لإسرائيل كان سبب انطلاقتها المناظرات المتعلقة بما بعد-الصهيونية، كما أنها مليئة بفصول عن “ما بعد- الصهيونية”،( من المميز بين هذه الكتب بالعبرية، فايتس 1997، جينوسار وباريلي (إعداد) 1996، وبالإنجليزية، أ.شابيرا و د. جي بنسلر (إعداد) 2003).

كما أن عدداً من المجلات البحثية قد نشرت أعداداً خُصصت لما بعد-الصهيونية ومتعلقة بها جداً، أو تنشر بشكل متواصل في هذا العنوان (مثلاً، تاريخ وذاكرة، واستجابة، وكونستيليشن، وتيكون، وملتقى الدراسات الإسرائيلية، وبالعبرية

(e.g., History & Memory; Response; Constellations; Tikkun; Israel Studies Forum; and in Hebrew, Alpayim).

فمجلة دراسات إسرائيلية، تخصص قسماً “للديالكتيك الصهيوني” والذي ربما يمكن عنونته ب “ديالكتيك ما بعد-الصهيونية”.

لعل الملتقى الأكثر أهمية لفكر ما بعد-الصهيونية هي المجلة العبرية ثيوريا يو-بيكورت (النظرية والنقد). فبالإضافة إلى أجندتها العريضة المابعد-صهيونية وما بعد حداثية في الثقافة الإسرائيلية، فإن المجلة قد نشرت مجلداً خاصاً ووافياً عن “اللحظات الحرجة” في الثقافة الإسرائيلية، بعنوان خمسون إلى ثمانية-وأربعون: لحظات حرجة (اوفير 1999). كما أن مجلة هاجار هي كذلك ما بعد-حداثية في توجهاتها.

أضف أن مخرجات المنشورات المضادة لِ “ما بعد-الصهيونية ” قد تزايدت مؤخراً. فقد نشرت مختارات لهذا الأدب في العبرية تحت عنوان إجابة لزميل ما بعد-صهيوني (فيرلنغ 2003)، وكتاب آخر طُبع بالإنجليزية – إسرائيل والمابعد-صهاينة: أمة في خطر (ساهاران 2003). وتنشر المجلة القومية النيو-صهيونية ناتيف ( منشورات مركاز أرييل) بشكل منتظم تعليقات ضد-مابعد-صهيونية (أنظر فهرست ناتيف 2004، تحت عنوان ما بعد- صهيونية/ كره الذات/اليسار والإعلام). وينسحب الأمر نفسه على مجلة تخيلت ال نيو-صهيونية/ نيو-لبرالية (التي تُطبع بالإنجليزية ك Azure).

إضافة إلى المناقشات الواضحة والمعلنة حول ما بعد-الصهيونية كاتجاه أيديولوجي وثقافي، فإن الملاحظات تبرهن أن ما بعد-الصهيونية قد أصبح ثابتاً في الثقافة الإسرائيلية على مختلف المستويات، من مستوى اللغة اليومية، وصولاً إلى مستوى الكتابة التاريخية، إلى مستوى محلَّفي المحاكم العليا. إن نشر وتعميم مواقف ومجادلات ما بعد-الصهيونية في الثقافة الإسرائيلية قد غدا معمّماً لدرجة أنه في إطار أحداث اليوبيل الفضي قدمت قناة التلفاز العام سلسلة من – Tekuma-الذي كان يعتبر بِروْحِهِ، لدى الكثيرين بمثابة تخريب وما بعد-صهيوني (بابي 1997، فيشر 2000، فيلدت 2004). لقد غدت ما بعد-الصهيونية ثابتاً في اللغة اليومية العبرية الدارجة، وتستخدم لوصف أعمال الفن، ونماذج الثقافة أو السياسات التي تتجاوز الإملاءات والميول الصهيونية القديمة. لعل بعض المقتطفات من الصحافة اليومية كافية لتقديم أمثلة على هذا: فالفيلم زواج متأخر، الذي يتعامل مع المهاجرين إلى إسرائيل، وُصف بأنه “ما بعد-صهيوني” (دوفيفاني 2000).، كما أن برنامجاً لفريق (سنيك فِشْ) قد وُصف بأنه ما بعد صهيوني أو حتى ما بعد- ما بعد- صهيوني ” (فولك 2004)، كما أن خطة إقامة “متحف نووي” للتسلية في ديمونا قد وصفت على أنها رد فعل ما بعد-صهيوني على البطولة الصهيونية” زاندبرغ (2003)، كما أن المغنية المشهورة دانا انترنشنال قد أُشهرت بهدف أن تمثل رسالة ما بعد-صهيونية (جروس 2003: 230). كما أن قرار مدّعي عام الدولة بأن صندوق إسرائيل القومي سوف لن يستثني العرب حينما يبيع الأرض قد وُصف بأنه ما بعد-صهيوني (أوز و باركات 2005).

وفي المجال الأكاديمي، تضمنت دراسات ما بعد ـ الصهيونية دراسة لعالمي الإجتماع لويس رونيجر ومايكل فيجي، عن ” ثقافة فريير Freier culture “. ومفردة فريير تُترجم بقصد تهمة الحماقة أو الجنون، وتتعلق الدراسة بالإستعمال الدارج بين الإسرائيليين “أنا لست مصاصاً”. وحسب تفسير المؤلِّفيْن، فإن هذه المجموعة المتزامنة من الأعراض (سندروم) هي تعبير عن ثقافة إسرائيلية مابعد ـ صهيونية. يحل فيها التأكيد على الذات الفردية والأنانية محل التمسك بالأيديولوجيا الجمعية ،الوحدة الوطنية والتضحية (رونيجر وفيجي 1992).

يقدم فيجي في دراسة أخرى دراسة مقارنة للمخيال السياسي للحركتين الأكثر نفوذاً سياسياً في إسرائيل منذ السبعينيات من القرن العشرين-الكتلة اليمينية كتلة الإيمان Gush Emunim ، والحركة اليسارية اللبرالية السلام الآن (Shalom Achshav). وقد ظهر من هذه الدراسة أن الفرضيات البرجماتية والنفعية لحركة السلام الآن في ما يخص التاريخ، والإقليمية والهوية (في مواجهة الفرضيات الأسطورية الرومانسية لكتلة المؤمنين) هي بشكل أساسي ما بعد-صهيونية (حتى إذا لم توصف بذلك، كما هو دارج، من قبل أتباعها) (فيجي 2002).

وبطريقة مشابهة، فإن العالم السياسي (الراحل) تشارلز ليبمان قد جادل بأنه في الحقبة الحديثة هناك ثلاثة – وليس اثنتين فقط-ثقافات-سياسية مميزة للجمهور في إسرائيل هي: العلمانية (القومية)، الدينية (القومية) والمابعد- صهيونية. والأخيرة مترافقة في نظره مع النماذج الإستهلاكية الغربية الدارجة ومع التركيز الغربي على الفرد بدلاً من المجتمع” (ليبمان 2001 :252). أما عالم السياسة يعقوب يدجار، الذي درس الرواية الجماعية الإسرائيلية كما عُرضت في افتتاحيات ومقالات الصحف الإسرائيلية الرئيسية فقد استنتج أن هناك روايتان – عالمية ومحدودة (مقتصرة على منطقة معينة) (يدجار 2002) أما عالم الاجتماع مايكل شيلف، الذي حلل المعطيات المتعلقة باستطلاع الرأي العام في قضايا السياسة القومية والشؤون الإجتماعية، فوجد أن السكان يمكن أن ينقسموا إلى قسم عريض للتيار الصهيوني السائد، مصحوباً بتيارين صغيرين على يمينه وعلى يساره هي : ما بعد-الصهيونية والنيو-صهيونية على التوالي (شاليف 2003)

هناك عدة مؤشرات مساعدة شاهدة على تطور ( جزئي ولكن هام) لمكونات ما بعد-الصهيونية في المجتمع الإسرائيلي. وتتضمن هذه تدهور الأحزاب الأيديولوجية وركود دور الأحزاب في السياسة (كورين 1998)، بروز دور سياسات-الهوية والأحزاب الطائفية (بيليد 1998)، والضمور النسبي للدولة مقابل حضورها الكثيف في المجتمع المدني متعدد الأجزاء (بيليد واوفير (إعداد) 2001)، ييشاي 2003)، وانتشار المزاج الديمقراطي الغربي في إسرائيل (إلموج 1997)، وتغلغل نمط حياة “العصر الجديد” (بيت-هلحمي 1992، إنباري 1999)، وتهديم الروح الصهيونية على يد قسم من المهاجرين القادمين من الإتحاد السوفييتي السابق (لومسكي-فيدير ورابورت 2001)، وتنوع من رفض الثقافة الإسرائيلية – المركزية للعقيدة القومية والعودة المثالية إلى يهودية الشتات (شعبية جديدة للغة الييدش والموسيقى العربية والعودة إلى الأسماء اليهودية التي عُبرنت (حُولت إلى عبرية) في الماضي، ورحلات الجذور المقودة “بالحنين القومي (النوستالجية)” إلى بولندا والمغرب، وأكثر حتى من ذلك. (انظر ليفي ووينجرود 2004).

وهناك مؤشرات أخرى على حضور ما بعد-الصهيونية يمكن ملاحظتها كذلك. ومن الأمثلة عليها “الثورة الدستورية” الشهيرة لسنوات “تسعينيات القرن العشرين” وعدد أحكام المحكمة العليا، التي حكمت لصالح ” حقوق المواطن على حساب الأولويات القومية (جافيسون 2003، باراك-إيرز 2003، برازيليا 2004). وهذه نفسها تغييرات في مجال الأولويات العسكرية حيث أخذ الإنشقاق مجراه بين الإتجاهات المابعد-عسكرية والإتجاهات النيو-عسكرية (بن إليعازر 2004) أو حتى عمليات تقليص التوجه العسكري، وإعادة توجيه التوجه العسكري (ليفي 2003). وهناك مظاهر أخرى في المجتمع الإسرائيلي التي ترافقت مع أطروحات ما بعد-صهيونية مثل الإستهلاكية على النمط الأميركي (رام 2004)، “موجة جديدة” أدب ما بعد- الحداثة وما بعد-الصهيونية (جوريفيتش 1997، بالابان 1995، شيكد 2003، فيلدت 20004) والفن المرئي (شنسكي 2004، جيلرمان 2003، داريكتور 1998، دايركتور 2004)، وعدة محاولات كذلك لإغناء سِيَرْ الحياة والمراجع بعدد من منظورات التعدد-الثقافي مع تمازج متعدد بالتشاؤمية (نافي و يوجيف 2002، بن عاموس 2002، ماتياش و زابار بن يهوشع 2004).

وفي الحقيقة، فإن النقد ما بعد-الصهيوني لما يمكن أن يسمى “نظرية المعرفة القومية” أو “وجهة النظر القومية” يمكن لمسها اليوم في مختلف نظم المعرفة والفنون الخلاقة في إسرائيل (حتى حينما لا تكون واضحة دائما تحت عناوين ما بعد-صهيونية). لعل هذه هي الحالة في حقل التاريخ، حيث أن “المؤرخين الجدد” “أو المؤرخين التنقيحيين” يتمتعون بتأثير باقٍ على كتابة التاريخ والذاكرة التاريخية (نيئمان-اراد 1995، بابي 1995، فايتس 1997، رام 2003)، وفي علم الإجتماع (شينهاف 2003 ، 2003أ) وفي علم الإنسان (رابنوفيتش 1997، 2004) وفي علم الآثار (هيرتصوغ 1999، ليفني ومازار (إعداد) 2001)، وفينكلشتاين و سيلبرمان (2002) وفي الجغرافيا (يفتحئيل 1999، ونيومان 2004، وبار جال 1999، 2002) وفي التخطيط والمعمار يعقوبي 2004، سيجل، تارتاكوفر وفايتسمان (إعداد) 2003)، وفي دراسات الأفلام (شوحاط 1989، جيرتس، لوبين و نيئمان 1998) وفي دراسات الجسد والجنس (كيدار 2003، فايتس 2005) وفي دراسات القانون (شامير 1999، باراك – إيرز 2003، برازيليا 2004) وغيرها.

إن حضور ما بعد-الصهيونية في الثقافة الإسرائيلية بشكل عام والدراسات ما بعد- الصهيونية في المجتمع الإسرائيلي بشكل خاص، منتشرة بشكل تام. ولكن، كيف بالإمكان شرح هذه الظاهرة؟ دعنا نتحول الآن لوضع تخطيط تمهيدي لبعض المداخل النظرية لما بعد-الصهيونية.

(3)

ما بعد الصهيونية: منظورات نظرية

تم عرض عدد من الشروحات لظاهرة ما بعد-الصهيونية منذ تسعينيات القرن العشرين. ولعله من المريح ترتيب المداخل النظرية لما بعد-الصهونية ضمن أربعة أقسام، التي سنناقشها أدناه: وهي مقترب ما بعد- الأيديولوجيا، ومقترب ما بعد-الحداثة، ومقترب ما بعد – الإستعمار، ومقترب ما بعد -الماركسية.

منظور ما بعد- الأيديولوجيا

في المنظور ما بعد- الأيديولوجي، تُعتبر ما بعد -الصهيونيةعملية من “التطبيع” الثقافي، التي أتت بشكل طبيعي بعد إنجاز أو تحقيق نجاحات في الأهداف النهائية للصهيونية، مثلاً، “هيمنة” الصهيونية، والهجرة إلى إسرائيل ولإقامة وترسيخ الدولة اليهودية. وقد اعتبرت الصهيونية هنا بمثابة سقالة البناء التي تُحال جانباً في أعقاب اكتمال المبنى، أو كما كتب المؤلف أ. ب. يهوشع، في مقالته الشهيرة “في إطراء الحالة السوية-المتسلق الصاعد” حينما يصل قمة الجبل (يهوشع 1984). لقد اقتُرِح هذا التصور لما بعد-الصهيونية، إلى جانب مقترحات أخرى، من قبل الفيلسوف مناحيم برنكر (1986). وهذا ما يمكن وصفه بأنه المقترب الصهيوني الأقرب إلى ما بعد-الصهيونية، أو حتى المدخل ال بن غوريوني إلى ذلك، لأنه يشبه موقف أول رئيس وزراء للدولة من الوكالة اليهودية، الذي جادل بأنه في أعقاب إقامة الدولة ، فإن دورهذه الأخيرة قد انتهى.

إن البدء ب “ما بعد” يمثل في هذه الحالة، التمييز ما بين “المناسب” (المرحلة الصهيونية) و “الموجود، المعروض” (مرحلة ما بعد-الصهيونية). لقد عرض أو مثَّل عالم الإجتماع إريك كوهين الطبعة الدوركهايمية-الفيبرية، أو لنقل الإيزنتادية للمقترب المابعد-صهيوني. وبناء على ذلك، فقد كانت الصهيونية حركة كاريزمية لتحول راديكالي، في سياق وقت أمضته بشكل روتيني، مخلِّفة وراءها فراغاً ذا طابع “شاذ”. وهكذا، فإن ما بعد الصهيونية هي حالة من العُصاب، نتجت عن غياب نظام من المشروعية مقبول بشكل عام (كوهين 1995). إن هذا المنظور منسجم مع وجهات النظر الحديثة لِ (أس أن إيزنشطادت) بخصوص انهيار “القالب القديم”، الذي كان قد صُمِّم من قبل النخبة المهيمنة والتكاثر الذي تلا ذلك في مجال الخطاب البديل، بما في ذلك المابعد-صهيوني، ولكن بدون ظهور ذلك البديل الذي يوحد المجتمع (أيزنشطادت 1996). وعليه، قد يكون أيزنشطادت قد صاغ “الإدراك المابعد-صهيوني”، باعتباره شكلاً مميزاً عن النماذج المعيارية. ، مثلا، شخص أدرك الحالة ما بعد-الصهيونية، دون أن يكون سعيداً بذلك. ليس الذين يشاركونه الموقف من المثقفين الصهاينة العريقين بالنفر القليل. وبمصطلح موازٍ، الذي صُكِّ في نطاق جدال مبكر على يد علماء السياسة تشارلز ليبمان و غليعيزر دون يهيفا، فإن ما بعد الصهيونية قد تُعتبر حالة “دولة بلا رؤية” (أو دولة خدمات)، وذلك في تمييز لها عن “الدولة ذات الرؤية” (فهم يعتبرون أن هذا، أي الدولة ذات الرؤية، كان حال الدولة الصهيونية) (ليبمان و دون يهيفا 1976). إن أعمال باروخ كيمرلنج هي ايضاً مساهمة في تحليل ما بعد-الصهيونية، رغم أنه يتجنب المفهوم نفسه ( كيمرلنج 2001 و 2004).

إن المدخل المابعد-أيديولوجي هو في الحقيقة طبعة إسرائيلية متأخرة لأطروحة “نهاية الإيديولوجيا” (بيل 1960). إنه مدخل نشوئي “من نشوء -مراحل تاريخية”، والذي بموجبه فإن المجتمع الإسرائيلي يمارس تحولاً عادياً من حقبة بناء-أمة إلى حقبة المأسسة، أو من “القومية العاصفة” إلى قومية عادية” ، بما يلائم دولة لبرالية ناضجة (بيلنج 1995). من هذا المنظور بالذات، رسم بعض المعلقين تمييزاً بين “الإيجابي” و “السلبي”، ما بعد الصهيونية – إيجابي وسلبي بمعنى الإذعان للصهيونية (انظر جورني 2003، وهيلر 2003)

المنظور مابعد-الحداثي

في مواجهة مدخل ما بعد- الأيديولوجيا، فإن المدخل ما بعد-الحداثي لا يعتبر ما بعد-الصهيونية بمثابة نضج الصهيونية، وإنما، بالعكس، بأنه علامة على موتها. فالقومية، لا تعتبر ببساطة بأنها التعبير الدارج أو التقليدي عن الشعب، بل هي بمثابة عبء تم إقحامه على هويات غير مستقرة /متقلبة. وعليه، فالقومية هي شكل من القمع، بينما ما بعد-القومية هو شكل من التحرر.

إن التشكك بشأن القومية هو حالة خاصة من التشكك في الروايات العظيمة الأخرى للحداثة (ليوتارد 1984). إن طموح القومية بأن تذيب عدة هويات في هوية عالمية متماسكة، وكفاحها لاستثناء الهويات المختلفة عنها، قد تم تعويضه أو استبداله في أيام- ما بعد الحداثة بخطاب الآخرية-من آخر، ، الإختلاف والتعددية الثقافية-ومصطلح المظلة لهذا الإتجاه في إسرائيل هو ما بعد-الصهيونية (أزولاي و أوفير 1998).

ينظر مناصرو هذا المنظور إلى ما بعد-الصهيونية لا كمرحلة تاريخية جديدة، وإنما بالأحرى كوجهة نظر جديدة، كنظرية جديدة في المعرفة، التي تدمر وتقوض وجهة النظر الخطِّية والأساسية للقومية. إن ما بعد-الصهيونية هي تسليط الضوء على الهويات المتنوعة التي قُمعت تحت راية القومية وتعبير عن التناقضات التي حاولت الصهيونية أن تهيمن عليها. إن لورنس سلبرشتين مؤلف أعمق كتاب حول ما بعد-الصهيونية حتى حينه، يعرف العلاقة بين ما بعد -الحداثة وما بعد الصهيونية باعتبارها شبكة معقدة، التي لها مآزقها سواء وهي مجتمعة أو غير مجتمعة أو مترابطة(سلبرشتين 1999). لعل أكثر مأزق مشترك هو تفكيك “نظام الحقيقة” أو شبكة قوة/المعرفة، والإنتباه المعار لأصوات مختلفة وروايات جديدة. بالإجمال، بما أنها ضد المقترب ما بعد-الأيديولوجي، الذي يعتبر ما بعد الصهيونية”صهيونية بحياة طبيعية” فيمكننا القول أن المقترب ما بعد-الحداثي يعتبر ما بعد-الصهيونية بمثابة تدمير للصهيونية وتفكيك لها إلى مكوناتها ورواياتها التي استخدمتها لما قامت به من تهميش وإنكار. لقد التزم إليعيزر سكيود من الجامعة العبرية، بموقف خصومة لما بعد-الصهيونية، معتبراً إياها بمثابة “الطبعة الإسرائيلية” لما بعد الحداثة (سكيود 1996، 1996ب). وفي ما يخص العلاقة بين ما بعد -الصهيونية وما بعد الحداثة أنظر أيضا ليفين 1996).

وفي حين أن ما ذكر أعلاه هو هوية-متجهة فوكولتياً (من فوكو) طبعة من مقترب ما بعد-الحداثة، فإن هناك أيضاً مواطنة-متجهة هابرماسياً (من هابرماس) كمقترب لما بعد الصهيونية. يشير هذا المقترب إلى التمييز ما بين القومية-الإثنية، والقومية المناطقية (الجغرافية) (برباكر 1994). حسب وجهة النظر هذه، تمثل ما بعد-الصهيونية مفهوماً ما بعد-قومياً للمواطنة الإسرائيلية، أو حتى قومية إسرائيلية دستورية، مرتكزة على إطار حالي ومشترك في الحياة، وليس بالأحرى على الأسطورة الماضية، وبالتالي يمكن أن تتجاوز التوتر غير المحلول بين المكون اليهودي للهوية الإسرائيلية، التي يمكن أن تتحول إلى مسألة انتساب خاص أو شبه جماعي، وما بين المكون الديمقراطي للهوية الإسرائيلية، التي يجب أن تتحول إلى دولة ذات اساس دستوري. وطالما ان إسرائيل هي دولة الإثنيات اليهودية، وليست دولة لمواطنيها، لا يمكن اعتبارها كديمقراطية بالشكل المناسب (يفتحئيل 1999)

لعل أعمق تحليل من هذا المنظور هو ما قدمه شافير وبيليد (2002). فمن وجهة نظرهما، هناك ثلاثة أنظمة مواطنة مميزة (أو أنظمة متجسدة ) سائدة في إسرائيل: نظام إثني-قومي يؤكد أولوية اليهود، ونظام لبرالي يؤكد على الحقوق المتساوية للمواطنين الأفراد، ونظام جمهوري يوزع مراتب وامتيازات على أساس “الفضائل المدنية” الذي يعني من ناحية عملية المساهمة في الهدف الصهيوني العام.

وحتى الأوقات الأخيرة فإن الأنظمة الإثنية واللبرالية المتناقضة يمكن أن تبارز بعضها بعضاً تحت المشروعية التي يوفرها لها النظام الجمهوري. وكما هو الأمر مؤخراً، فإن الإتجاه الجمهوري يتقهقر وبالتالي فإن الصراع بين النظامين الإثني واللبرالي يطفو على السطح -بمعنى نقاشنا الجاري حالياً، فإن الصراع قائم ما بين النيو-صهيونية وما بعد-الصهيوني.

هناك سؤال في أوساط المقترب ما بعد-الحداثي و ما بعد- الصهيوني، هو سؤال العلاقة بين إسرائيل والهويات اليهودية. ففي كلا الطبعتين الفوكولتية والهابرماسية المذكورتين أعلاه، فإن ما بعد-الصهيونية تُفهم على أنها ترسم تمييزاً حاداً بين إسرائيل والهويات اليهودية. وحتى الطبعة الموجهة دستورياً مهتمة بالتركيز على استقلال ذاتي للأسرلة كأساس للمشروعية الديمقراطية، بينما الطبعة الموجهة نحو الهوية مهتمة بالتركيز على استقلالية ذاتية لليهودية كأساس لهويات يهودية شتاتية جديدة (راز-كراكوتزكين 1993 و 1994، ليفي و فينجرود 2004). وبروح الأخيرة، فإن الناقد دان ميرون قد عرض ما بعد-الصهيونية على أنها “ذلك الموقف الذي لا يرى دولة إسرائيل على أنها رد فعل بالضرورة على البحث عن مكان لأبطال الرواية…(ولكن بالأحرى هي مفككةً) إلى ذلك المركب الثنائي الذي تكونت منه روح الجماعة الإسرائيلية، على سبيل المثال الهولوكوست في مواجهة البطولة، الموت في مواجهة حياة جديدة، الشتات في مواجهة الوطن القومي،الضعف في مواجهة القوة، والسلبية في مواجهة الفعالية (ميرون في ليف آري 2004).

المنظور ما بعد- استعماري

إن مقترب ما بعد-الإستعمار إلى ما بعد-الصهونية هو حالة خاصة للمنظور ما بعد-الحداثي. فهو يشارك تحدي الأخير(أي ما بعد الحداثة) للحداثة ولكن يضع فوق، أو يُركِّب، على إنقسام الذات-الآخر انقسام شرق-غرب. وهكذا فإن الصهيونية بمثابة حالة غربية، أما ما بعد-الصهيونية فُينظر إليها كميل شرقي – توحد بشكل مثالي كلاً من العرب-الفلسطينيين واليهود ذوي الهويات الشرقية كما هو لدى يهودا شنهاف “تفاهم يهودي-عربي” (شنهاف 2003، 2003 أ). وهذا المقترب يستدعي بشكل كبير المنظور الإستشراقي لنقاد أمثال سعيد (1978) وكذلك في الطبعة الهجينة منه لنقديين أمثال (بهابها 1990 (شنهاف-إعداد- 2004).

لقد اخترع خطاب ما بعد الإستعمار هويات قديمة-جديدة وشكّل أو كوَّن روايات جديدة، أعطت بدورها صوتاً لقطاعات ثانوية من السكان، والتي أعادت خلق هويات قديمة جديدة مركبة تتحدى سذاجة/بساطة الحدود القومية. وحينما يتم تطبيق هذا المنظور على إسرائيل، تحوز ما بعد-الصهيونية على الشعور بالقوة على “الآخر الداخلي” للصهيونية، مثلاً اليهود الشرقيين، مركوبين بخطيئة الحدود القومية الداخلية-الخارجية والتي تستبدل (مفاهيمياً) بالتمييز الغربي-الشرقي. وبكلمات أخرى، يُنظر إلى الصهيونية على اعتبار أنها حركة- استعمارية- أوروبية-اشكنازية بيضاء، التي جعلت من الشرقيين الداخليين والعرب الخارجيين ضحايا (شوحاط 1989, 2001).

لعل هدف ما بعد-الإستعمار ما بعد-الصهيونية، هو في أية حالة، يرمي إلى إبطال “مؤامرة الصمت” التي تتكاثف غيومها ضد الهوية المزراحية في إسرائيل. وفي مواجهة الممارسات الاستثنائية تقوم أيضا بتفكيك الروايات القومية، التي تفترض وجود جوهر مشترك وتنكر الآخرية الملازمة لها (متزافي-هالر 1998، 2002). وعليه، فإنه طبقاً ل المابعد-استعمارية ما بعد-صهيونية الجديدتين، فإن إنكار المزراحيم قد تم وأُنجز، أولاً، على يد علم اجتماع التيار السائد الذي ينسب إليهم تخلفاً ثقافياً ، وبناء عليه يُنكر السياق الإسرائيلي الذي أدَّى إلى حالتهم المتدنية من حيث الدرجة، ولكن ثانياً، تم الإنكار أيضا، على يد التيار النقدي، الذي يعطي اعتبارا للمزراحيم بالمعنى الطبقي، وهكذا ينكر تاريخهم وهويتهم (شنهاف 2003، 2003 أ). وعليه، فإن ما بعد-الإستعمار ما بعد الصهيونية تُفكِّك نسيج “نا” القومي إلى مكوناته المراتبية المميزة، وعليه، فهو يدمر المفهوم المسلَّم به سلفاً “للأمة”ويقترح مفاهيمَ بديلةً أو على الأقل مفاهيمَ متمِّمةً للهوية الجماعية.

وفي حين أن المقترب ما بعد- الإستعماري يهدف إلى الحديث باسم الشرق –العربي واليهودي مجتمعين، فإنه يبقى في حقيقة الأمر في أغلبه لصالح الشأن اليهودي. فالفلسطينيون العرب مستثْنَون من المجتمع والهوية الإسرائيلية وظلّوا “الآخر” المُقصى في البلاد، مما صعَّبَ عليهم إنجاز أو إتقان عملية الرقص على إيقاع المفهوم ما بعد -الكولونيالي الحساس في ما يخص (أن يكون المعني) داخل و خارج حدود المجتمع، فهم غالباً “خارجيون”، حتى وهم مواطنون بشكل كامل. وهكذا، بالنسبة ل ما بعد- الصهيونية تظل مسألة وضعية المواطنين الفلسطينيين وظروفهم في إسرائيل مركزية بشكل مطلق (يفتحئيل 1999، اوزاسكي-لازار، غينام و بابي 1999، شافير و بيليد 2002)، فالفلسطينيون في إسرائيل يتحدثون عادة من وجهة نظر قومية، وليس بالأحرى من وجهة نظر ما بعد-قومية. فما بعد -القومية هي امتياز للأمم الممأسسة جيداً.

المنظور الما بعد- ماركسي

يختلف المنظور ما بعد-الماركسي عن المقتربات الثلاثة الأخرى المذكورة أعلاه في أخذه بالإعتبار التغيرات الاقتصادية والاجتماعية بما أنها عوامل أساسية في تكييف التحولات السياسية والثقافية المصاحبة لما بعد-الصهيونية. وبكلمات أخرى، فإن هذا المقترب هو ما بعد-ماركسي بمعنى أنه يربط ما بعد الحداثة بالتحولات الحديثة لنمط التضبيط الرأسمالي، أي بروز ما بعد-الفوردية، والتحولات اللاحقة في ميزان القوى بين الطبقات. إنه المقترب الوحيد المطّلع على الصلة بين التغيرات الاقتصادية والإجتماعية. إنه منظور ما بعد -ماركسي، ورغم أنه، بهذا المعنى، يشترك في بعض الملامح مع التفكير ما بعد-الحداثي، مثل التحليل اللا-يقيني (أو عدم التحديد) والخطَّيْ، وكذلك بمعنى أنه يدرك أبعاد ما بعد-الحداثة في الثقافة المعاصرة.

تختلف الرأسمالية ما بعد-الفوردية عن رأسمالية ما قبلها بالسمات التالية: التحول من شركة مراتبية بيروقراطية إلى شبكة استحداث مرنة، انتقال من التدخلية الكينزية في الإقتصاد ومن التطورية في جانب -الإنتاج إلى إقتصادات النيولبرالية في جانب-الإستهلاك، الإنتقال من التنظيم المضبَّط لسوق العمل على أساس جماعيٍّ إلى سوق عمل غير منظم “أشكال جديدة” من التشغيل ، الإنتقال من دولة الرفاه الشامل في الإقتصاد (الموديل الأوروبي) إلى شبكة أمان رفاهوية (الموديل الأميركي)، والإنتقال من الإقتصاد القومي إلى الإقتصاد المعولم، ((Aglietta 2001; Jessop 2003) اليجتا 2001، جيسوب 2003 ) .

وبشكل عام، فإن هذا التحول يخلخل موازين القوة بين رأس المال والعمل والدولة، التي تسود في الدولة الفوردية الضخمة، وتبشر بمبنى السلطة غير المتوازن تحت النفوذ الرأسمالي. إن “النتيجتين اللاإقتصاديتين” لهذا التغير الضخم للنظام الإجتماعي هما بروز اللامساواة في توزيع الدخل، والإتجاه التذريري للسكان إلى هويات جماعات. ولكن، كيف تتعلق هذه وترتبط بما بعد- الصهيونية؟

لكي نجعل من الجواب الطويل قصيراً، فإننا نجادل على النحو التالي: كان النظام الإجتماعي “التقليدي” الإسرائيلي جماعياً لأن هذا الوضع كان شرطاً لنجاح الإستيطان المبكر ومرحلة السيطرة الصهيوينة على فلسطين، وهي منطقة لم تكن جذابة لرأس المال والعمل على حد سواء. ولم يكن للمشروع القومي أن يصل مرحلة الإنطلاق/ الإقلاع إلا على أساس “محميات” العمل واستثناء العمال العرب، مرتكزة على أوامر رأس المال اليهودي. وحيث تم دمج التمويل “العام” والعمل الحاصل على امتيازات، فقد أصبح انتصار الإستراتيجية العمالية أمراً ممكناً (شافير 1996، شاليف 1992). وفي الحقبة المبكرة للدولة، خلال الخمسينيات والستينيات، تم توريث المشروع القومي لإدارة الدولة، التي تجلت على شكل “مملكة الأيديولوجيا الدولانية” لتلك الفترة. أما في سبعينيات القرن العشرين، وخاصة منذ بروز الليكود عام 1977، بدأت تغيرات لبرالية في الاقتصاد. تجدر الإشارة إلى أنه حتى منتصف ثمانينات ذلك القرن، فإن الإقتصاد الجديد كان قد تغير بسبب فشل الإدارة (الذي أدى بالتضخم إلى وصول درجة الثلاثة أرقام). وفقط منذ البرنامج الإقتصادي الجديد لمنتصف ثمانينيات القرن العشرين، وبالإندماج مع ثورة التقنية العالية في تسعينيات ذات القرن، كان التجسد النهائي للإنتقال من الفوردية إلى ما بعد-الفوردية في إسرائيل أمراً ممكناً.

ولكن في هذا الوقت، كانت النخبة الرائدة قد غيرت أولوياتها من الحراك العسكري إلى التراكم التحديثي، ومن الإنتماء القومي إلى طموحات ما بعد- قومية (ليفي 2003). فقد قامت الهستدروت والدولة بخصخصة شركاتهما الضخمة (وهي العملية التي أُكملت بالنسبة للهستدروت ولم تنته بعد بالنسبة للدولة) هذا إلى جانب تدفق رأس المال العالمي (في بداية التسعينيات مُشجَّعاً من عملية السلام)، فإن أيديولوجيا قطاع الأعمال أصبحت مهيمنة في إسرائيل.

إن التحالف عابر- الطبقات كان قد تبدد، وتعمّقت اللامساواة. وكرد فعل على ذلك، فإن الطبقات الدنيا، وهي مقولة تعني بدرجة كبيرة أو تنطبق على الأصول الشرقية، التعليم المتدني والثقافة التقليدية، قد تحولت بشكل عريض إلى النظر في اتجاه مواساة النفس على الهوية الضائعة والتعويض عن فقدان المكانة، التي وجدتها في الدعاية الشعبوية والسياسات الشوفينية. وهكذا، برزت في إسرائيل طبعة محلية ل ما بعد-الصهيونية/النيوصهيونية للديالكتيك المعولم ل “ماك دونالد في مواجهة جهاد” (الجهاد اليهودي في حالتنا) (باربر 1996، شافير و بيليد 2000، ورام 2005).

من هنا، فإن التغير من الفوردية إلى ما بعد الفوردية قد تلازم مع تغير من تحالف الأمة والطبقة إلى اشتباك بين الإثنو- أصولية المحلية النيو-صهيونية واللبرالية-المدنية- المعولمة المابعد صهيونية.

* منشورات: ملتقى الدراسات الإسرائيلية مجلد 20، عدد 2، شتاء 2005