فادي خوري ـ كندا
(نشرة “كنعان” الالكترونية ـ السنة التاسعة ـ العدد 1935)
أخوتي وأخواتي في المواطنية، اللبنانيين المنتشرين في أصقاع العالم،
تحية من القلب.
بادئ ذي بدء، اسمحوا لي، وإن عجزت، أنا المقيم في لبنان الحب، عن التعبير عن مشاعري العميقة تجاهكم، والمفردات تتدافع والتقريظات تتلاطم تلك الميمنة وتلك الميسرة في ذهني، لأهنئكم على دفق النجاحات التي حققتم في شتى مجالات اختصاصاتكم وأعمالكم ودراساتكم. حتى بات صدى إنجازاتكم مدوياً في أرجاء المعمورة، وأوصاف مشاريعكم على كل شفة ولسان. فمن بينكم خرج السياسي المحنك والقيادي الغيور والطبيب العالِم والمحلّل المتعمّق والطالب الطموح والطبّاخ الماهر والعامل المحترِف والسائق الحذق والمصمم المبدع والاقتصادي المستشرِف والخبير العارف.
مخرتم العباب وشققتم الأجواء وعبرتم المحيطات، إمّا مُجبرين أو مخيّرين، وغالباً ما كنتم مُبعدين أو فارين أو قرفانين، والقلة منكم هجرت ديارها حبّاً للمغامرة والاستطلاع، كما يُشاع في كتبنا المدرسية.
تفرّقتم في جهات العالم الأربع، وتوزّعتم في قاراته الخمس أو الست، كلّ يغنّي على ليلاه أو يبحث عنها، ولكنكم، رغم تباعد المسافات، تساويتم أمام الوطن، وإن اختلفت مقادير حبّكم له وتفاوتت أعداد الأصفار عن يمين الأرقام اليسارية لرواتبكم السنوية. ورغم مرور السنون، بقيت الأرزة محفورة في صميم صميمكم والإرث “الفينيقي” يفعل فعله في جواّنية جوّانيتكم. فهنيئاً لكم هذا الحفر وهذا الإرث الذي لم تستبدلوه بأموال أكبر المصارف التي تحوي أرصدتكم.
تنوّعت ألوان دولاراتكم ويورواتكم ودنانيركم وريالاتكم ودراهمكم وجنيهاتكم وبيسواتكم التي تحوّلون أو تحملون أو ترسلون، ولكن بقي قاسم حب لبنان الأخضر والأصفر والأزرق والبرتقالي والأحمر مشتركاً فيما بينكم.
هجرتم لبنان الذي أحببتموه موالاً وميجانا وعتابا وأبو الزلف ودلعونا ودبكة ومعنى وقصيد وقرّادي، وأحببتم سماءه الزرقاء وينابيعه وأطياره، تخليتم عن لبنانكم وهو يمر في أحلكِ ظروفه وتطلعتم صوب مشارق الأرض ومغاربها، وشمس لبنان تسطع من خلفكم وظلال الأرز والشربين وأعمدة بعلبك وتمثال العذراء تحفر أشكالاً الحزينة على ظهوركم، وأذكر أن منكم من أدمعت عيناه للحظات، ومنكم من ابتسم لثوان ومنكم من نسي حروف الهجاء لحظة أقلعت فيه الطائرة أو تحرّك فيه المركب مبتعداً عن شواطئ الأبجدية. ولكن… بقيت الأرزة محفورة في صميم صميمكم.
هنيئاً لكم أخوتي المغتربين حيثما أنتم، وهنيئاً للبنان بكم سفراء التبولة والشاورما والكنافة في كل زاوية من كل شارع إلى جانب ناطحات السحاب ودور الثقافات العالمية من كل مدينة في بقاع الأرض. سفراء الحضارة والثقافة اللبنانيتين. كم نحن سعداء بأن أحفاد بونابارت وغاريبالدي وغليوم وجفرسون باتوا يعرفون الفلافل والبابا غنّوج، وهذا بفضل عملكم الدؤوب في نشر تراث الثقافة اللبنانية في أرجاء المعمورة. صاروا يعرفون عن هذه المنتجات أكثر بكثير من معرفتهم عن تاريخ لبنان وأمجاد أجداده وعطاءات مفكريه وما نشروه في العالم من تقدم في مجالات العلم والأدب والفلسفة. فمن هو قدموس أمام عظمة سندويش الفلافل؟ ومن هو جبران أمام رفعة صحن التبولة؟ ومن هو الريحاني أمام سمو جاط الحمص؟
كم نحن، اللبنانيين المقيمين المتجذرين في هذه الأرض رغم سنوات الحرب الأهلية والحروب والاحتلالات الإسرائيلية والاغتيالات السياسية، كم نحن فخورون بكم يا أخوتنا المهاجرين!
تبلّغوا وبلّغوا من يلزمه الأمر بأننا نتتبّع أخباركم عن كثب ونرصد كل شاردة وواردة في تحركاتكم، فأنتم سندنا ساعة الشدّة، وأنتم دعمنا حين تصعب علينا الظروف، وأنتم ملاذنا حين تدهمنا المخاطر. نبتسم كلّما مرّت أطيافكم على شاشات التلفزة أو صفحات المواقع الإلكترونية. رأيناكم غير مرة تتظاهرون أمام الأبنية الحكومية للبلدان التي تقيمون فيها، وعلمنا أن كثيرين منكم لم يتجاسر على التظاهر، ونحن نقدّر الظروف، فنحن الذين فقدنا منازلنا وأبناءنا ومزارعنا وجسورنا ومستشفياتنا ومدارسنا نتيجة القصف والعدوان نقدّر ظروف الذي يخاف على وظيفة أو منصب أو جاه اجتماعي، فحذار الانزلاق في مستنقع المطالبة بحقوق الآخرين المشروعة من دون هوادة! ولا عتب على من لم يتظاهر في الدول المنتجة للنفط فحكومات تلك الدول الديموقراطية هي من “عظام الرقبة”.
كما ورأينا أيضاً أن منكم من زار حكوماتكم في كندا وأمريكا وأوستراليا وبريطانيا وفرنسا على رؤوس وفود تشكر تلك الحكومات باسم اللبنانيين المحفورة الأرزة في أعماق أعماقهم على مواقفهم حيال العدوان الإسرائيلي علينا. لقد ظهرتم على الشاشات ببدلاتكم الداكنة الألوان وربطات أعناقكم الحريرية وكأنكم أصحاب قضية، وهذا كان مصدر فخر لنا. كم ترقرقت الدموع في مقالينا حين رأيناكم تكرّمون بولتون وهاربر وبراون وبلير، وإسرائيل تقتل أطفالنا في قانا الجليل، حتى علت زغاريد أمهات الشهداء وأسفرن عن وجوههن وخلعن عنهن أثواب الحداد لما رأينه فيكم من عزة وشهامة وكبرياء!
كم نحن لكم ممتنّون يا أخوتنا في المواطنية! فها الآلاف منكم تزورنا كل صيف على الرحب والسعة، فلبنان هذا الفندق ذو النجوم الخمس يفتح لكم أبوابه على مصراعيه. فأي فندق في العالم يقدم اللبنة مع طربون نعناع وحبة زيتون وبيضتين بأورمة للفطور، وصحن كبة نيّة وكاس عرق للغداء، ومقانق مقلية مع صحن سلطة لوجبة العشاء؟ أوليس هذا هو القيمة الحقيقية للانتماء للوطن والتعبير الأصح عن التفاعل الحضاري مع قضاياه وشؤونه وشجونه؟ ناهيك عن رحلات الصيد الصباحية والأركيلة مع التبغ المعسّل والذهاب إلى البحر والسهر في العلب الليلية. أي فندق يقدّم كلّ هذا بالله عليكم؟
لنكن صريحين يا أخوتي، ولندع جانباً دعم القضايا الوطنية المحقّة والدفاع عنها في المحافل الدولية والاستثمار المدروس في هذا البلد ورفده بالمقومات اللازمة البشرية منها والمالية لإنعاش اقتصاده وأهله (أصحاب الفندق يعني) الصامدين. ولننسى التكلم في إعادة الحيوية عبر خطة يبلورها المغتربون لتنظيم وتفعيل مجالات الاستثمار، ولا ننسى غرف التجارة اللبنانية المنتشرة في كل عاصمة من عواصم العالم. ما شاء الله!
لا يمكنكم أبداً أن تتصوّروا مقدار غبطتنا حين علمنا أنّكم تملّكتم وتحكّمتم بلغات الأرض كلّها ونسيتم لغتكم الأم وأهملتموها كلّياً فهذا يعني أنكم أصبحتم متمكنين من التحدّث مع أصحاب القرار في دياركم ومع أبناء المجتمعات هناك من زملاء عمل وجيران وركّاب سيّارات الأجرة، وبلغة صلبة، عن الانقسامات الطائفية والحساسيات المذهبية والتفرقة السياسية التي نعاني منها. إنه مصدر فخر لنا أن نعلم أنكم مصرّون أن تبقوا أنتم صورة طبق الأصل لتناقضاتنا وولاءاتنا المتناحرة المذهبية والعائلية والعشائرية، وأنكم لا توفرون مناسبة إلاّ وتتحدثون بالأمور السلبية عنّا، نحن المتخلفين المتناحرين، فهذا كله يعني أنكم ملتصقون كلياَ بقضايانا المصيرية وتعكسون بشهاداتكم العالية ولغتكم الأجنبية البليغة واقعنا المرير، وأن الأرزة مغروسة في قعر قعركم.
إيّاكم أن تحيدوا عن هذا السراط! إياكم التحدّث مع سكان تلك البلدان عن الأسباب الحقيقية لتشرذمنا وتفرّقنا، فقد يؤدي هذا تدريجياً ودون أن تعوا إلى الإشارة بالبنان إلى حكومات تلك الدول في تحمّل مسؤولية ما آلت إليه أوضاعنا، وهذا بدوره قد يضعكم في موقف حرج أنتم في غنىً عنه. قولوا لهم ما يريدون سماعه، لا الحقيقة، فالحقيقة قد تهدد مصالحكم إن كنتم طامحين لمنصب سياسي أو وظيفة رفيعة أو مركز مرموق، فأنتم أحرار في أمم حرّة.
وأخيراً وليس آخراً، قبل أن أختم رسالتي إليكم أحبّائي المغتربين، لا يسعني إلاّ أن أعبّر لكم عن فائق تقديري واحترامي للمجهود الذي بذلتموه مؤخّراً في تحمّلكم مشقّات السفر للقدوم إلى لبناننا هذا بغية المشاركة في الانتخابات.
يصعب أن أصف مقدار سعادتنا لرؤية أفواج الغيورين منكم على مصلحة هذا الوطن وأنتم تتقاطرون من بلاد الكانغارو وشلالات نياغارا وخيم البوادي ومعاقل الديموقراطية الأمريكية وأوروبا والابتسامة تعلو وجوهكم النيّرة. فها الآلاف منكم تتدفق إلى أرض الأجداد لتساهموا معنا في هذا الاستحقاق التاريخي. كم كان عارماً فرحنا حين علمنا أن السواد الأعظم ممّن أتوا ناخبين لبرلماننا نحن لا يشاركون هم أنفسهم في الحياة السياسية في البلدان المقيمين هم فيها، ولا هم يعرفون اسم رئيس الدولة التي استضافتهم مهاجرين، مهجّرين، لاجئين متسكّعين على أعتاب سفارات تلك الدول، ولا هم يعرفون اسم رئيس وزارة الدولة التي قضوا عشرات السنين فيها، ولا حتى اسم النائب الذي يمثلهم في البرلمان… عجباً! مع العلم أن الانتخابات في الدول التي شرّفتمونا منها هي مجّانية كلّياً ونزيهة وديموقراطية ولا تدفع فيها الرشاوى ولا تُباع فيها الأصوات ولا يُحمل فيها المرشّحون على أكتاف الناخبين وكأنهم (…)، ومع العلم أيضاً أن للمرشّحين في تلك الدول برامج انتخابية وخططاً إنمائية تهدف إلى تحسين أوضاع المواطن، والمرشحون أنفسهم غالباً ما يكونون مثقفين وخبراء ومختصين، ولا هم بَكَوات بالوراثة ولا هم شيوخ بالوراثة… كم هو جميل أنكم أنتم الذين اختبرتم تلك الديموقراطيات كلّها، ولأن الأرزة مشبوكة بشرايين شرايينكم، تخليتم عن كل ذلك وأهملتموه لتأتوا إلينا لتنتخبوا لنا أشخاصاً لا تعرفونهم ولا سمعتم عنهم ولم تتفاعلوا معهم ولن تتفاعلوا معهم إطلاقاً في يوم من الأيام… فعلتم كل ذلك لأنكم تحبّوننا نحن في لبنان، فسرقتم قرارنا الانتخابي من أجل تذكرة سياحية مجّانية إلى أرض الأجداد والميجانا ومرقد العنزة.
سلبتمونا خياراتنا نحن المتمسّكين بالوطن، المحافظين على الأرض والأرزاق والبيوت، نحن الذين بقينا هنا، أتيتم من “منهاتن بارك” وشارع الشانزيليزيه وميسيساغا ولندن وأبو ظبي وسيدني، لتختاروا ممثّلينا نحن… كم تحبّون هذا اللبنان!
أتيتم لتمارسوا حقّكم الوطني. أين كنتم يا ركّاب البواخر الكندية والأمريكية والأوروبية الفارّة المنطلقة من شواطئنا التموزية عام 2006؟ وأين أضعتم حقّكم الوطني يومها؟
أتيتم لتمارسوا حقّكم الديموقراطي!
أكلتم نعناعنا وزعترنا… وشربتم قهوتنا… وركبتم خيولنا… وامتشقتم سيوفنا… ورقدتم في أسرّتنا… ولبستم معاطفنا… وسبحتم في مسابحنا… ومشقتم أكواز الكرز عن أشجارنا… ولعبتم بلعبنا… ورقصتم رقصاتنا… والتقطم صورنا… وأنشدتم أناشيدنا… ورتّلتم تراتيلنا… وعُدْتم إلى حيث لا تعرفون من أين أتيتم ولا تعرفون حروف هجائنا ولا حجم بؤسنا ولا قرانا المحتلة ولا لون أعيننا ولا أسماء أطفالنا ولا عدد شهدائنا ولا أماكن الأرز في جبالنا.
سامحكم الله! كم نحبّكم يا أخوتنا المغتربين.
واسلموا للبنان
أخوكم المواطن اللبناني المقيم
(المغترب فادي خوري – كندا)